الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
عدم فقه الفرق بين الشفاعة عند الخالق ولدى المخلوق، ورَّث الشرك وأصله في نفوس أهله
الفرق بين الشفاعة عند الله سبحانه، والشفاعة المعهودة لدى بني البشر، كالفرق بين: الخالق، الرب، السيد، المالك، الغني، الذي لا حاجة له إلى أحد من خلقه
…
والمخلوق، المربوب، العبد، المملوك، الفقير، المحتاج إلى غيره من كافة الوجوه.
ولما لم يفقه المشركون ذلك الفرق، ترسَّخ الشرك في قلوبهم، طلبًا لشفاعة أندادهم عند الله، قياسًا منهم على طلبهم لما لدى المخلوقين بعضهم من بعض أمثالهم.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمهما الله تعالى - مبينًا سر الشرك، وعلته، مع كيفية الردّ الباهر عليه:
«أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة: أهل التوحيد الذين جرَّدوا التوحيد وخلَّصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه. قال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال تعالى:{يَوْمَئِذٍ لَاّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109].
فأخبر أنه لا تحصل يومئذ شفاعة تنفع إلَاّ بعد رضا قول المشفوع له، وإذنه للشافع، فأما المشرك فإنه لا يرضاه ولا يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علَّقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة.
وسر ذلك أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل والملائكة المقرَّبون، وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئًا إلَاّ من بعد إذنه لهم، ولا سيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه، فإذا أشركهم به المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظنًا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه، وما يجب له ويمتنع عليه، فإن هذا محال ممتنع يشبه قياس الرب سبحانه على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج.
(علة عظيمة تبيِّن فساد قياس الخالق على المخلوق في مسألة الشفاعة)
وبهذا القياس الفاسد عُبدت الأصنام، واتَّخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي، والفرق بينهما: هو الفرق بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والمملوك، والغني والفقير، والذي لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره.
فالشفعاء عند المخلوقين هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قَبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها، ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم، فتنقص طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم، فلا يجدون بدّا من قبول شفاعتهم على الكره والرضا.
فأما الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه لذاته، وكل من في
السماوات والأرض عبيد له مقهورون لقهره، مصرَّفون بمشيئته، لو أهلكهم جميعًا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة ....
فمتَّخذ الشفيع لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه ومرجوه ومخوفه، الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رضاه، ويتباعد من سخطه، هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع له، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].
فبين سبحانه وتعالى أن متَّخذي الشفعاء: مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم.
وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقًا ولا أمرًا ولا إذنًا، بل هو سبب محرك له من خارج كسائر الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المحرك لأجله ما يوافقه، كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض، فيقبل شفاعة الشافع، وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها، وقد يتعارض عنده الأمران فيبقى مترددًا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضي القبول فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح.
وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه وتعالى، فإنه ما لم يخلق شفعة الشافع، ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع لم يمكن أن توجد، والشافع لا يشفع عنده بمجرد امتثال أمره وطاعته له، فهو مأمور بالشفاعة
مطيع بامتثال الأمر، فإن أحدًا من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلَاّ بمشيئة الله وخلقه.
(العلم بالفرق بين الشفاعة عند الخالق ولدى المخلوق، يبيِّن حقيقة الفرق بين التوحيد والشرك).
فالرب تعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه ولو كان مملوكه، وعبده، فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله من النفع والضر والمعاونة وغير ذلك. كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله من رزق أو نصر أو غيره، فكل منهما محتاج إلى الآخر.
ومن وفَّقه الله لفهم هذا الموضوع، تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبته الله من الشفاعة، وما نفاه وأبطله. ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم علم: أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد، أبعد مما بين المشرق والمغرب، وأنهم على شيء والسلف على شيء، كما قيل:
سارت مشرِّقة وسرت مغرِّبًا
…
شتان بين مشرِّق ومعرِّب
والأمر والله أعظم مما ذكرناه. انتهى.
وبه كمل الجواب، والحمد لله الذي هدانا لدينه الذي رضيه لعباده، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وصلَّى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا» (1).
(1)«مجموع الرسائل والمسائل النجدية» : (4/ 282 - 284).