الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
وجوب التسليم لقضاء الله، ومقدوراته العامة
ينبغي: التسليم التام لمقدورات الله سبحانه بكل ما فيها من خير وشر، فالقيام بالشكر لما فيها من النعم، والصبر على ما بها من النقم.
وهذا مفرق طريق بين: المؤمنين والمنافقين في اعتقادهم، ومنهجهم، وسلوكهم، وصفاتهم.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب في كتابه التوحيد، والشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحم الله الجميع، في شرحه عليه:
وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154].
[الشرح]
قوله باب ما جاء في اللَّو، أي: من الوعيد والنهي عن الأمور المكروهة، كالمصائب إذا جرى بها القدر، لما فيه من الإشعار بعدم الصبر والأسى على ما فات، مما لا يمكن استداركه.
فالواجب التسليم للقدر، والقيام بالعبودية الواجبة، وهو الصبر على ما أصاب العبد مما يكره. والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الستة. وأدخل المصنف رحمه الله تعالى أداة التعريف على «لوّ» ، وهذه في هذا المقام لا تفيد تعريفًا كنظائرها، لأن المراد هذا اللفظ كما قال الشاعر:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركًا
…
شديدًا بأعباء الخلافة كاهله
وقوله:: وقول الله عز وجل: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154].
قاله بعض المنافقين يوم أحد لخوفهم وجزعهم وخورهم.
وقوله: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168].
[الشرح]
(الفرق بين المؤمن والمنافق ساعة نزول البلاء)
قال ابن إسحاق: فحدثني يحيي بن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير: «لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم، فما منا رجل إلَاّ ذقنه في صدره، قال: فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلَاّ كالحلم، لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154]» ، لقول معتب: رواه ابن أبي حاتم.
قال الله تعالى: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]، أي هذا قدر مقدَّر من الله عز وجل، وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه.
وقوله: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168].
قال العماد ابن كثير: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168]، أي: لو سمعوا مشورتنا عليهم بالعقود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل. قال الله تعالى: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168]، أي: إذا كان القعود يسلم به الشخص من
القتل والموت، فينبغي لكم أن لا تموتوا، والموت لا بد آت إليكم، ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين.
قال مجاهد عن جابر بن عبد الله: «نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبُي وأصحابه» ، يعني أنه هو الذي قال ذلك.
وأخرج البيهقي عن أنس أن أبا طلحة قال: «غشينا النعاس ونحن في مصافِّنا يوم أحد، فجعل يسقط سيفي وآخذه، ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى - المنافقون - ليس لها هم إلَاّ أنفسهم، أجبن قوم، وأرعبه، وأخذله للحق، {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]، إنما هم أهل ريب وشك بالله عز وجل.
قوله: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]، يعني: لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أبي في غزوة أحد قال: فلما انخذل يوم أحد، وقال: يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان أو كما قال: انخذل معه خلق كثير، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك. فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان، هو الضوء الذي ضرب الله به المثل (1). فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق، لماتوا على الإسلام، الذي يثابون عليه، ولم يكونوا من المؤمنين حقًا، الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين حقًا الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة.
وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتلوا بالمحنة
(1) يشير شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى قول الله عز وجل: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ}
[البقرة: 19، 20].
التي يتضعضع فيها أهل الإيمان؛ بنقص إيمانهم كثيرًا وينافق كثير منهم، ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبًا، وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة.
وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسل باطنًا وظاهرًا، لكنه إيمان لا يثبت على المحنة، ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم، وهؤلاء من الذين قالوا آمنا، فقيل لهم:{قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، أي: الإيمان المطلق، الذي أهله هم المؤمنون حقًا، فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى، كما دل عليه الكتاب والسنَّة. فلم يحصل لهم ريب عند المحن، التي تقلقل الإيمان في القلوب. انتهى.
قوله: وقد رأينا ورأي غيرنا من هذا ما فيه عبرة.
قلت: ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو، من إعانتهم العدو على المسلمين، والطعن في الدين، وإظهار العداوة والشماتة، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام، وذهاب أهله، وغير ذلك مما يطول ذكره. والله المستعان» (1).
* * *
(1)«فتح المجيد» : (/448 - 452).