الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
عبادة الله وحده لا شريك له، الحجة عليها بلوغ القرآن مع بيان أصناف الذين لا يكفرون حتى تقام عليهم الحجة وكذا الفرق بين قيام الحجة وفهمها
إن الذي لم تقم عليه الحجة، هو من كان حديث عهد بالإسلام، أو من نشأ في بادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة من مسائل الدين الخفية، فلا يكفر حتى يعرف.
أما أصول الدين الواضحة المحكمة، فإن حجة الله عليها: بلوغ القرآن.
وينبغي في هذا المقام: التفريق بين قيام الحجة وفهمها، فقد تقوم الحجة على قوم، مع عدم فقههم لوجه الصواب فيها، ومراد الرب منها.
قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
ما ذكرتم من قول الشيخ، كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة، فهذا من العجب، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارًا؟ فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف.
وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال، أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من
المسلمين، لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44].
وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم، وإن لم يفهموها، إن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج:«أينما لقيتموهم فاقتلوهم» وقوله: «شر قتلى تحت أديم السماء» مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس: أن الذي أخرجهم من الدين، هو التشدد والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها.
وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاتهم وصيامهم، وهم يظنون أنهم على حق.
وكذلك إجماع السلف: على تكفير غلاة القدرية وغيرهم، مع علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا، إذا علمتم ذلك: فإن هذا الذي أنتم فيه كفر. الناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، فيزعمون أنه ليس ردة، لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بيَّن.
وأظهر مما تقدم: الذين حرقهم علي، فإنه يشابه هذا، وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم، فلا يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم، فإن كان معكم بعض الإشكال، فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم، والسلام» (1).
وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى، مفندًا شبهة لأحد المجادلين عن المشركين، يزعم فيها: أن دعاء غير الله شرك أصغر:
«أما قوله - أي المجادل عن الشرك والمشركين -: إن سلمنا هذا القول - أي: أن دعاء غير الله شرك أكبر -، وظهر دليله، فالجاهل معذور، لأنه لم
(1)«الدرر السنية» : (10/ 93 - 95).
يدر ما الشرك والكفر، ومن مات قبل البيان فليس بكافر، وحكمه حكم المسلمين في الدنيا والآخرة، لأن قصة ذات أنواط، وبني إسرائيل، حين جاوزوا البحر، تدل على ذلك
…
إلى آخره.
فالجواب أن يقال: إن الله تعالى أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فكل من بلغه القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة، قال الله تعالى:{لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19].
وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
وقد أجمع العلماء على أن من بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن حجة الله قائمة عليه، ومعلوم بالاضطرار من الدين: أن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب ليعبد وحده ولا يشرك معه غيره، فلا يدعى إلَاّ هو، ولا يذبح إلَاّ له، ولا ينذر إلَاّ له، ولا يتوكل إلَاّ عليه، ولا يخاف خوف الشر إلَاّ منه.
والقرآن مملوء من هذا، قال الله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14]، وقال:{وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس: 106]، وقال:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وقال:{وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وقال:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]، وقال:{وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وقال:{وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]. والآيات الواردة في هذا المعنى كثيرة.
والله تعالى: لا يعذب خلقه إلَاّ بعد الإعذار إليهم، فأرسل رسله وأنزل كتبه، لئلا يقولوا:{وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47].
وكل من بلغه القرآن فليس بمعذور، فإن الأصول الكبار، التي هي: أصل دين الإسلام،، قد بيَّنها الله تعالى في كتابه، وأوضحها وأقام بها حجته على عباده، وليس المراد بقيام الحجة: أن يفهمها الإنسان فهمًا جليًا، كما يفهمها من هداه الله ووفقه، وانقاد لأمره» (1).
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أو بطين:
إنه لا عذر في الجهل بأصول التوحيد، والرسالة ونحوها، بعد بعثته صلى الله عليه وسلم وبلوغ حجج الله وبيِّناته، وإن لم يفهمها من بلغته، فحجة الله قائمة على عباده ببلوغ الحجة، لا بفهمها، فبلوغ الحجة شيء، وفهمها شيء آخر، ولهذا لم يعذر الله الكفار بعدم فهمهم، بعد أن بلغتهم حجته وبيناته (2). اهـ.
وقال الشيخ سليمان بن سمحان - رحمه الله تعالى -:
فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، قال الله تعالى:{لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19].
وقال تعالى: {لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
فلا يعذر أحد في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل، وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهَّال مقلَّدون، ونعتقد كفرهم وكفر من شك في كفرهم» (3).
(1)«الدرر السنية» : (11/ 71 - 74).
(2)
«الدرر السنية» : (10/ 359، 360)، بتصرف بسيط.
(3)
«كشف الشبهتين» : (91 - 94).