الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس
حكم الاستثناء في الإيمان
لقد انقسم المسلمون في حكم الاستثناء في الإيمان إلى الثلاثة أقوال:
منهم من يوجبه، ومنهم من يحرِّمه، ومنهم من يجوِّز الأمرين باعتبارين مختلفين، وهذا أصل الأقوال لاستمداد مشروعيته من القواعد الصحيحة المنضبطة لدى سلف الأمة في قضية الإيمان.
فالاستثناء في الإيمان لدى أهل السنة يعود إلى الموافاة -، وإلى كماله الواجب، وأما الاستثناء فيه شكًا فقد أجمعوا على حرمته.
وإذا قال واحد من السلف: أنا مؤمن من غير استثناء، فقد أراد بذلك: مطلق الإيمان، لا الإيمان المطلق، أو الإيمان المقيد، لا الإيمان الواجب أو المستحب، ولقد صدَّعت الموافاة على الإيمان: قلوب المؤمنين، وكان الواحد منهم، كلما عظم إيمانه، اشتد خوفه من النفاق والكفر، وسوء الخاتمة.
سئل الشيخ حمد بن عتيق، عن قول الفقهاء: من قال أنا مؤمن إن شاء الله، إن نوى به في الحال، يكفر، وإن نوى به في المآل، لم يكفر؟!
فأجاب:
هذا سؤال من لا يحسن السؤال، فإن ظاهره: أن جميع الفقهاء يقولون ذلك، ومن له خبرة بأقوال الفقهاء، تحقق أن هذه مجازفة عليهم وقول بلا علم، فإن كان بعض المتأخرين، من بعض أهل المذاهب قال ذلك، فهو: قول محدث، من أقوال أهل البدع، وأنا أذكر لك من كلام العلماء
في الاستثناء في الإيمان، وهو قول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، ليتضح الخطأ
من الصواب، ويعلم مَن الأولى بالحق في هذا الباب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما الاستثناء في الإيمان، بقول الرجل: أما مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال:
منهم: من يوجبه.
ومنهم: من يحرمه.
ومنهم: من يجوِّز الأمرين، باعتبارين. وهذا: أصح الأقوال.
فالذين يحرمونه، هم: المرجئة، والجهمية، ونحوهم، ممن يجعل الإيمان شيئًا واحدًا، يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب، ونحو ذلك مما في قلبه، فيقول أحدهم: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني قرأت الفاتحة، فمن استثنى في إيمانه، فهو شاك فيه عندهم.
وأما الذين أوجبوا الاستثناء، فلهم فيه مأخذان، أحدهما: أن الإيمان، هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنًا، وكافرًا باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وهو: مأخذ كثير من المتأخرين، من الكلابية وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما استشهد عليه أهل السنَّة والحديث، من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد مع ذلك أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه، وإنما يشك في المستقبل، وهذا: وإن علل به كثير من المتأخِّرين من أصحاب الحديث، من أصحاب أحمد، ومالك، والشافعي، وغيرهم، فما علمت أحدًا من السلف علَّل به الاستثناء.
قلت: فالمرجئة، والجهمية، يحرِّمون الاستثناء، في الحال والمآل، وهؤلاء: يبيحونه في المآل، ويمنعونه في الحال.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: والمأخذ الثاني في الاستثناء: أن الإيمان
المطلق، يتضمن فعل ما أمر الله به كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال
الرجل: أما مؤمن بهذا الاعتبار، فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين، القائمين فعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لها بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، وهذا: مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوَّزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر.
وروى الخلال عن أبي طالب قال: سمعت أبا عبد الله، يقول: لا نجد بدًا من الاستثناء، لأنهم إذا قالوا مؤمن، فقد جاءوا بالقول، فإنما الاستثناء بالعمل لا بالقول، وعن إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت أبا عبد الله يقول: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبني أن يستثني في الإيمان، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومثل هذا كثير من كلام أحمد، وأمثاله» (1).
* * *
(1)«الدرر السنية» : (1/ 511 - 554).