الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
الشرك أكبر الكبائر، وبيان علة عدم مغفرته
الشرك أكبر الكبائر لمنافاته الحكمة المقصودة من إيجاد الخلق، ويقع مع الجهل، وتخلف قصد السوء، وإرادة التنقُّص بجناب الرب سبحانه، بل وتترتَّب أحكامه عليه، مع زعم التقرُّب به إلى الله زلفى
…
فكيف خرج بكل هذا عن حدِّ المغفرة - التي وسعت السماوات والأرض -، وأصبح من أشنع الذنوب التي يُعصى بها الله سبحانه؟
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن - في معرض الرِّد على مجرم أثيم يستدل محرِّفًا بكلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على التهوين من أمر الشرك والمشركين -: قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
ووقعت مسألة؛ وهي أنَّ المشرك إنما قصد تعظيم جناب الرب سبحانه وتعالى، وأنه لعظمته لا ينبغي لمثلي الدخول عليه إلَاّ بالوسائط والشفعاء، كحال الملوك، والمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الرب، وإنما قصد تعظيمه، فلم كان هذا القدر موجبًا لسخطه وغضبه تبارك وتعالى، ومخلدًا في النار، وموجبًا لسفك دماء أصحابه، واستباحة حريمهم وأموالهم؟.
ويترتَّب على هذا سؤال آخر، وهو أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه وتعالى لعباده التقرُّب إليه بالشفعاء والوسائل، ليكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع، أم ذلك قبيح في الفطر والعقول يمتنع أن تأتي به شريعة؟ بل جاءت الشريعة بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح.
وأما الشرك في كونه لا يغفر من بين الذنوب، فأجاب عن هذا كله بقوله: فنقول وبالله التوفيق والتأييد، ومنه نستمد العون والتسديد: فإنه من
يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منه.
(أنواع الشرك):
الشرك: شرك يتعلَّق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه وتعالى لا شريك له في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله. والشرك الأول نوعان:
أحدهما: شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون، إذ قال:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، وقال:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36، 37].
والشرك والتعطيل متلازمان: فكل مشرك معطِّل، وكل معطِّل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقرًا بالحق سبحانه وتعالى وصفاته، ولكنه عطَّل حق التوحيد ....
النوع الثاني: شرك من جعل مع الله إلهًا آخر، ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة فجعلوا المسيح إلهًا وأمه إلهًا ....
وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا الشرك وأخفّ أمرًا، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلَاّ الله. وأن لا يضرّ وينفع ويعطي ويمنع إلَاّ الله عز وجل، وأنه لا إله غيره، ولا ربّ سواه. ولكن لا يخلص لله معاملته وعبوديَّته، بل يعمل لحظ نفسه، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فللَّه تعالى من عمله وسعيه نصيب
…
وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور، وأكبر، وأصغر.
والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفور.
فمنه: الشرك بالله في المحبة والتعظيم: أن يحب مخلوقًا كما يحب الله، قال سبحانه وتعالى فيه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم يوم القيامة وقد جمعتهم الجحيم:{تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98] ....
فعدل المشرك مَن خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرَّة في السموات ولا في الأرض، فيا له من عدل تضمَّن أكبر الظلم وأقبحه.
ويتبع هذا الشرك: الشرك به سبحانه وتعالى في الأفعال والأقوال، والإرادات والنيات، والشرك في الأفعال: كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعًا لقبره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه في الأرض، أو تقبيل القبور واستلامها، والسجود لها، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من اتَّخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي لله تعالى فيها، فكيف بمن اتَّخذها أوثانًا يعبدها من دون الله؟
…
ومن الشرك به سبحانه وتعالى: الشرك في اللفظ، كالحلف بغير الله، كما روى أحمد وأبو داود عنه صلى الله عليه وسلم:«من حلف بغير الله فقد أشرك» ، صحَّحه الحاكم وابن حبان، ومن ذلك قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال:«أجعلتني لله ندًا؟ قل: ما شاء الله وحده» ....
وأما الشرك في الإرادات والنيّات، فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلَّ من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله تعالى، أو نوى شيئًا غير التقرُّب إليه، وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته.
والإخلاص أن يخلص لله في أقوال وأفعاله وإرادته ونيِّته. وهذه هي الحنيفية ملَّة إبراهيم صلى الله عليه وسلم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وهي ملَّة إبراهيم التي مَن رغب عنها فهو أسفه السفهاء.
فإذا عرفت هذه المقدمة، انفتَح لك باب الجواب عن السؤال المذكور، فنقول ومن الله تعالى نستمد الصواب:
(تعريف الشرك وبيان علة عدم مغفرته)
حقيقة الشرك: هو تشبيه المخلوق بالخالق عز وجل. وهذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله تعالى بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فعكس من نكس الله قلبه وأعمى عين بصيرته فأركسه بنسبة الأمر، وجعل التوحيد تشبيهًا، والتشبيه تعظيمًا وطاعة.
فالشرك: تشبيه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية.
فإن من خصائص الإلهية: التفرُّد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع. وذلك يوجب تعلُّق الدعاء والخوف، والرجا والتوكُّل به وحده.
فمن علَّق ذلك بمخلوق فقد شبَّهه بالخالق تعالى، وجعل من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فضلاً عن غيره، شبيهًا لمن الأمر كله له. فأزمة الأمور كلها بيده، ومرجعها إليه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد.
فمن أقبح التشبيه، تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه
بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكُّل والاستعانة، وغاية الذلّ مع غاية الحب.
(الفطرة والعقل، والشرع، يدلُّون على وجوب التوحيد، واستحالة تشريع الشرك)
كل ذلك، يجب عقلاً وشرعًا، وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لغيره.
فمن جعل شيئًا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له، ولا مثل له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدَّة قبحه، وتضمُّنه غاية الظلم، أخبر سبحانه وتعالى عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة.
ومن خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين، لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذلّ. هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين.
فمن أعطى حبّه وذلّه وخضوعه لغير لله فقد شبَّهه به في خالص حقّه، وهذا من المحال أن تجيء به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيَّرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم، واجتالتهم عنها، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت لهم من الله الحسنى، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرتهم وعقولهم، فازدادوا بذلك نورًا على نورهم يهدي الله لنوره من يشاء ....
(سبب الشرك: سوء الظن بالله وكماله المطلق، وذلك أعظم الذنوب عند الله سبحانه)
إذا تبيَّن هذا فهنا أصل عظيم، يكشف سر المسألة، وهو أنّ أعظم
الذنوب عند الله تعالى هو: إساءة الظن به، فإنَّ المسيء به الظن، قد ظنَّ به خلاف كماله المقدَّس، فظنَّ به ما يناقض أسماءه وصفاته، ولهذا توعَّد سبحانه وتعالى الظانِّين به ظن السوء بما لم يتوعَّد به غيرهم، كما قال تعالى:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6].
وقد قال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] وقد قال تعالى عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 85 - 87].
أي: فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره؟!!، وما ظنكم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص، حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟!!، فلو ظننتم به ما هو أهله: من أنَّه بكلِّ شيء عليم، وعلى كلِّ شيء قدير، وأنه غنيٌّ عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه؛ وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، ما اتَّخذتم من دونه أولياء تدعونهم وتتوسَّلون بهم إليه بزعمكم.
وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء، فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، ويعينهم على قضاء حوائجهم؛ وإلى من يسترحمهم، ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة، لحاجتهم
وعجزهم وضعفهم، وقصور علمهم، فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، العالِم بكل شيء، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل
شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظنٌّ به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفكر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح
…
فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك من أكبر الكبائر عند الله، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه، وأنه يوجب الخلود في النار، وأنه ليس تحريمه وقبحه بمجرَّد النهي عنه، بل يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشرع عبادة إله غيره، كما يستحيل عليه تناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله. وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك، أو يرضى به؟ تعالى الله عز وجل عن ذلك علوًا كبيرًا، انتهى ما نقلته.
فقف وتأمَّل كلام الشيخ رحمه الله، فإنه فصَّل وبيَّن أنَّ الشرك شركان: شرك تعطيل لذات الرب ولأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته. وذكر أنَّ هذا أيضًا تعطيل لمعاملته على العبد من حقيقة التوحيد -، ثم ذكر شرك أهل الوحدة، وشرك الملاحدة القائلين بقدم العالم، وشرك الجهمية والقرامطة.
ثم ذكر النوع الثاني: وهو شرك من أشرك في العبادة والمعاملة، كشرك النصارى، وشرك المجوس، وشرك القدرية، وشرك الذي حاجَّ إبراهيم في ربه، وشرك من يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها أربًابًا مدبرة، وشرك عباد الشمس، وعباد النار وغيرهم.
قلت: ومنه شرك غلاة عبَّاد القبور الذين يزعمون أنَّ أرواح الموتى تدبِّر شيئًا من أمر هذا العالم كما صرَّح به ابن جرجيس قاتله الله» (1).
(1)«منهاج التأسيس والتقديس» : (276 - 295).