الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
من عَبَد غير الله فليس بمسلم، ولو كان جاهلاً ولم تقم عليه حجة البلاغ، مع استعراض لأحكام الناس قبل ظهور دعوة الشيخ في الدارين
فعل التوحيد وترك الشرك، هو أصل الأصول الاعتقادية، والحجة على الناس فيه قامت بالرسول والقرآن.
عبَّاد القبور، وإن كانوا جاهلين ومتأوِّلين، فليسوا بمسلمين عند شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأحفاده، امتدادًا لمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام ابن القيم، ولذلك عندما يطلقون القول بالعذر، فهو مقيد بعبَّاد القبور وأمثالهم من المشركين، لعدم دخولهم في عداد المسلمين لديهم.
ولقد كانت أحكام الناس قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، على النحو الآتي:
من كان عاملاً بالإسلام، وتاركًا للشرك، فهو مسلم.
ومن كان واقعًا في عبادة الله سبحانه، فهذا ظاهره الكفر، ونفوِّض حكمه في الباطن (1) إلى الله تعالى، لاحتمال كونه لم تقم عليه حجة البلاغ.
فإن مات على ذلك، فلا يتصدق عنه، ولا يضحَّى له، ولا يُستغفر له، ولا يحكم ببراءة ذمته من الطاعات، كالحج مثلاً، إن قام به حال شركه، لأن تحقيق الإسلام شرط من شروط قبول الطاعات، وهو منتف لديه.
ومن مات منهم مجهول الحال فلا يحكمون بإسلامه، لأنه لم يكن أصلاً لديهم للحكم به على أقوامهم، وكذا لا يحكمون بكفره، لأنهم يعتقدون
(1) المقصود بحكم الباطن هنا: أي الكفر المعذب عليه في الآخرة.
أن الله لم يكلفهم بذلك.
فمن كان منهم مسلمًا، أدخل الله الجنة، ومن كان كافرًا في الظاهر والباطن، خلَّده في ناره، ومن لم تقم عليه الحجة، وكان واقعًا في الشرك الأكبر، فحكمه حكم أهل الفترات، وليس بمسلم على أية حال.
وكذلك حكم أئمة الدعوة في أموال أهل زمانهم: بحكم أموال الكفار الأصليين، أي: يستحقون التوارث فيما بينهم، ثم من اسلم منهم على شيء من المال فهو له، ولم يقولوا: بردة أقوامهم، لأن المرتد لا يرث، ولا يورث، لأن طرد ذلك القول: يجعل جميع أمول الكفار في زمانهم مستحقة لبيت المال، لأنهم مرتدون، وورثوها عن آبائهم المرتدين، وكذا الأموال التي بأيدي المسلمين، حتى يُثبت أحدهم أن أباه لم يكن مرتدًا.
وكذلك سلك أئمة الدعوة مع أقوامهم في الدعوة والقتال: مسلك الكفار الأصليين، الذي لم تقم عليهم حجة البلاغ، فلا يقاتلونهم حتى يبلغوهم إياها، فمن قبلها ودان بالإسلام قاتلوا به من وراءه، ومن أباها، قاتلوه قتال المشركين، ولما تحققوا من ظهور دعوتهم، وبلوغها لمن حولهم من الديار لم يتوجب عليهم الدعوة قبل القتال.
ولقد وردت أسئلة على أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحمد ابن ناصر رحمهم الله جميعًا منها جاء فيها:
«وأما السؤال الثالث، وهو قولكم ورد: «الإسلام يهدم ما قبله» وفي رواية: «يجبُّ ما قبله» ، وفي حديث حجة الوداع:«ألا إن دم الجاهلية كله موضوع» إلخ، وظهر لنا من جوابكم: أن المؤمن بالله ورسوله، إذا قال أو فعل ما يكون كفرًا، جهلاً منه بذلك، فلا تكفرونه حتى تقوم عليه الحجة
الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله، قبل ظهور هذه الدعوة، موضوع أو لا؟
فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك، لجهله، أو عدم من ينبهه، بل لانحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن لا نحكم بأنه مسلم، بل نقول: عمله هذا كفر، يبيح المال والدم، وإن كان لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه، لا يقال إن لم يكن كافرًا فهو مسلم، بل نقول عمله عمل الكفار، وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه، متوقف على بلوغ الحجة الرسالية، وقد ذكر أهل العلم: أن أصحاب الفترات، يمتحنون يوم القيامة في العرصات، ولم يجعلوا حكمه حكم الكفار، ولا حكم الأبرار.
وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله، فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام جبَّ ما قبله، لأن القاتل قتله في حال كفره، والله سبحانه وتعالى أعلم ....
وأما قولكم: وهل ينفع هذا المؤمن المذكور، ما معه من أعمال البر، وأفعال الخير، قبل تحقيق التوحيد؟
فيقال لا يطلق على الرجال المذكور اسم الإسلام، فضلاً عن الإيمان، بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر، أو يعتقده في حال جهله، وعدم من ينبهه، إذا فعل شيئًا من أفعال البر، وأفعال الخير، أثابه الله على ذلك، إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام:«أسلمت على ما أسلفت من خير» .
وأما الححج الذي فعله في تلك الحالة، فلا نحكم ببراءة ذمته، بل نأمره بإعادة الحج، لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط صحته: الإسلام، فكيف نحكم بصحة حجة وهو يفعل الكفر، أو يعتقده؟
ولكنا لا نكفره إلَاّ بعد قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة وسلك سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج، ليسقط الفرض عنه بيقين» (1).
(1)«الدرر السنية» : (10/ 136 - 138).
وسئل الشيخ حمد بن ناصر رحمه الله تعالى:
عن قول الفقهاء، إن المرتد لا يرث ولا يورث، فكفار أهل زماننا هل هم مرتدُّون؟ أن حكمهم حكم عبدة الأوثان، وأنهم مشركون؟
فأجاب: «أما من دخل في دين الإسلام ثم ارتد، فهؤلاء مرتدون، وأمرهم عندك واضح، وأما من لم يدخل في دين الإسلام، بل أدركته الدعوة الإسلامية، وهو على كفره، كعبدة الأوثان، فحكمه حكم الكفار الأصلي، لأنا لا نقول الأصل إسلامهم، والكفر طارئ عليهم.
بل نقول: الذين نشؤوا بين الكفار، وأدركوا آباءهم على الشرك بالله، هم كآبائهم، كما دل عليه الحديث الصحيح في قوله «فأبواه يهوِّدانه، أو ينصرِّانه، أو يمجِّسانه» ، فإن كان دين آبائهم الشرك بالله، فنشأ هؤلاء واستمروا عليه، فلا نقول الأصل الإسلام والكفر طارئ، بل نقول: هم الكفار الأصليون، ولا يلزمنا على هذا تكفير من مات في الجاهلية قبل ظهور الدين، فإنا لا نكفر الناس بالعموم، كما أنما لا نكفر اليوم بالعموم.
بل نقول: من كان من أهل الجاهلية عاملاً بالإسلام، تاركًا للشرك، فهو مسلم.
وأما من كان يعبد الأوثان، ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين، فهذا ظاهره الكفر، وإن كان يحتمل أنه لم تقم عليه الحجة الرسالية، لجهله وعدم من ينبهه، لأنا نحكم على الظاهر، وأما الحكم على الباطن فذلك إلى الله، والله تعالى لا يعذب أحدًا إلَاّ بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
(حكم مجهول الحال)
وأما من مات منهم مجهول الحال، فهذا لا نتعرض له، ولا نحكم
بكفره ولا بإسلامه، وليس ذلك مما كلفنا به، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134].
فمن كان منهم مسلمًا أدخله الله الجنة، ومن كان كافرًا أدخله الله النار.
ومن كان منهم لم تبلغه الدعوة، فأمره إلى الله.
وقد علمت الخلاف في أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الحجة الرسالية.
وأيضًا: فإنه لا يمكن أن نحكم في كفار زماننا، بما حكم به الفقهاء في المرتد: أنه لا يرث ولا يورث، لأن من قال لا يرث ولا يورث، يجعل ماله فيئًا لبيت مال المسلمين، وطرد هذا القول، أن يقال: جميع أملاك الكفار اليوم بيت مال، لأنهم ورثوها عن أهليهم، وأهلوهم مرتدون لا يورثون، وكذلك الورثة مرتدون لا يرثون، لأن المرتد لا يرث ولا يورث.
وأما إذا حكمنا فيهم بحكم الكفار الأصليين، لم يلزم شيء من ذلك، بل يتوارثون، فإذا اسلموا فمن أسلم على شيء فهو له، ولا نتعرض لما مضى منهم في جاهليتهم، لا الموارث ولا غيرها» (1).
وقال الشيخ حمد بن ناصر، رحمه الله تعالى، بعد أن بيَّن أن الله أرسل الرسل لئلا تكون للناس حجة عليه سبحانه بعد إرسالهم، وأن عبادة الله وحده لا شريك له، معلومة بالضرورة من الدين، وأن الحجة عليها بلوغ القرآن، فقال رحمه الله تعالى:
«إذا تقرر هذا، فنقول: إن هؤلاء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية، وظاهر حالاهم الشرك، لا نتعرض لهم، ولا نحكم بكفرهم ولا بإسلامهم، بل نقول: من بلغته هذه الدعوة المحمدية، وانقاد لها، ووحَّد الله، وعبده وحده لا شريك له، والتزم شرائع الإسلام، وعمل بما أمر الله به،
(1)«الدرر السنية» : (10/ 335 - 337).
وتجنَّب ما نهاه عنه، فهذا من المسلمين الموعودين بالجنة، في كل زمان وفي كل مكان.
وأما من كانت حاله حال أهل الجاهلية، لا يعرف التوحيد الذي بعث الله رسوله يدعو إليه، ولا الشرك الذي بعث الله رسوله ينهى عنه، ويقاتل عليه، فهذا لا يقال إنه مسلم لجهله، بل من كان ظاهر عمله الشرك بالله، فظاهره الكفر، فلا يستغفر له ولا يتصدَّق عنه، ونكل حاله إلى الله الذي يبلو السرائر، ويعلم ما تخفي الصدور.
(تكفير المعين: أي: الكفر المعذب عليه، لا يكون إلَاّ بعد إقامة الحجة)
وقال الشيخان حسين وعبد الله ابنا محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع، في الجواب على مسألة وردت عليهم، ضمن مسائل عدة:
(المسألة الثالثة عشرة): فيمن مات قبل هذه الدعوة، ولم يدرك الإسلام، وهذه الأفعال التي يفعلها الناس اليوم يفعلها، ولم تقم عليه الحجة ما الحكم فيه؟ وهل يلعن أو يسب أو يكف عنه؟ وهل يجوز لابنه الدعاء له؟ وما الفرق بين من لم يدرك هذه الدعوة، وبين من أدركها، ومات معاديًا لهذا الدين وأهله؟
الجواب: أن من مات من أهل الشرك، قبل بلوغ هذه الدعوة، فالذي يحكم عليه أنه إذا كان معروفًا بفعل الشرك، ويدين به، ومات على ذلك فهذا
(1)«الدرر السنية» : (11/ 75 - 77).
ظاهره أنه مات على الكفر، فلا يدعى له، ولا يضحى له، ولا يتصدق عليه.
وأما حقيقة أمره فإلى الله تعالى، فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته، وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله تعالى.
وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سبُّ الأموات مطلقًا، كما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» ، إلَاّ إن كان أحد من أئمة الكفر وقد اغتر الناس به فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية، والله أعلم (1).
وقال الشيخ عبد العزيز (قاضي الدرعية)، ومن حوله من العلماء، في رسالتهم المسمَّاة:(المسائل الشرعية إلى علماء الدرعية):
وأما السؤال الثالث وهو قولكم: قد ورد: «الإسلام يهدم ما قبله» ، وفي رواية:«يجبُّ ما قبله» وفي حديث حجة الوداع: «ألا إن دم الجاهلية كله موضوع» إلخ
…
وظهر لنا من جوابكم أن المؤمن بالله ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون كفرًا جهلاً منه بذلك فلا تكفرونه حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله قبل ظهور هذه الدعوة موضوع أو لا؟
فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك لجهله وعدم من ينبهه لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن نحكم بأنه مسلم (2)، بل نقول: عمله
(1)«الدرر السنية» : (10/ 142).
(2)
هكذا في الأصل، وإن كان السياق يقتضي حتمًا: لكن لا نحكم بأنه مسلم. والدليل على ذلك: قوله بعد هذا: لا يقال إن لم يكن كافرًا فهو مسلم
…
ولا أدل على ذلك من هدْر دمه، إذا قوتل في حاله كفره.
هذا كفر يبيح المال والدم.
وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه لا يقال: إن لم يكن كافرًا فهو مسلم بل نقول: عمله عمل الكفار وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه متوقف على بلوغ الحجة الرسالية إليه.
وقد ذكر أهل العلم أن أصحاب الفترات يُمتحون يوم القيامة في العرَصات، ولم يجعلوا حكمهم حكم الكفار، ولا حكم الأبرار. وأما حكم هذا الشخص إذا قتل ثم أسلم قاتله فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول الإسلام يجبُّ ما قبله؛ لأن القاتل قتله في حال كفره، والله أعلم
…
وأما قولكم وهل ينفع هذا المؤمن المذكور ما يصدر منه من أعمال البر وأفعال البر وأفعال الخير قبل تحقيق التوحيد جاهلاً، فيقال: لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام فضلاً عن الإيمان، بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر، أو يعتقده في حال جهله وعدم من ينبهه، إذا فعل شيئًا من أفعال البر وأفعال الخير أثابه الله على ذلك إذا صحَّح إسلامه وحقَّق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام:«أسلمت على ما أسلفت من خير» .
وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة فلا نحكم ببراءة ذمته به بل نأمره بإعادة الحج، لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط صحته: الإسلام، فكيف يحكم بصحة حجِّه وهو يفعل الكفر أو يعتقده؟
ولكنا لا نكفِّره لعدم قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة وسلك غير سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج ليسقط الفرض عنه بيقين» (1).
* * *
(1)«مجموعة الرسائل والمسائل النجدية» : (5/ 574 - 577).