الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
مقتطفات من رسالتي لإمامين من أئمة الدعوة في حكم العذر بالجهل
وإليكم: بعض مقتطفات من رسائل أئمة الدعوة، التي سطَّروها بأيديهم ليجلوا فيها: حكم من وقع في الشرك الأكبر بجهل وتأويل، ليتقرَّب به إلى الله زلفى في وقت حال فيه: الجهل، وعجمة اللسان، وخفاء العلم، مع شيوع التلبيس والتحريف، عن إقامة الحجة.
وقرر هؤلاء الأئمة الأعلام: أن القيام بالتوحيد، والانخلاع من الشرك، هو أصل الأصول الاعتقادية، ولقد قامت الحجة فيه على الناس بالرسول والقرآن.
وأن التعريف يكون في: المسائل الخفية دون الجلية. وأن عباد القبور ليسوا بمسلمين، ولا يدخلون في مسمَّى الإسلام، ومن ثم فعندما يطلق الأئمة: النهي عن تكفير المسلمين، فهو مقيد بعبَّاد القبور وأمثالهم من المشركين، لأنهم ليسوا من أهل القبلة، فالشرك الأكبر مناف للتوحيد والإسلام، ومضاد لهما من كل وجه، والعبد يستحيل أن يكون مسلمًا، إلَاّ بفعل التوحيد والتزام أحكامه، مع البراءة والانخلاع من الشرك والمشركين.
وأن المشرك الجاهل من هذه الأمة، الذي لم يتمكن من معرفة الحق لعجزه، ولم تقم عليه حجة البلاغ، فحكمه - على أقل الأحوال - حكم أهل الفترات، وليس بمسلم على أية حال.
وأن عدم إعذار المشرك بجهله وخروجه من عداد المسلمين، مسألة وفاقية، ولا تشكل إلَاّ على مدخول عليه في اعتقاده.
وأنه يلزم من إعذار المشرك بجهله: عدم تكفير اليهود والنصارى.
وأن العذاب في الدارين لا يكون إلَاّ بعد بلوغ الحجة.
مقتطفات من الرسالة الأولى
(حكم تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة، وفهم الحجة)
بقلم: الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلَاّ على الظالمين والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلَاّ الله الأحد الصمد، الذي لا يستغاث في الشدائد ولا يدعى إلَاّ إياه، فمن عبد غيره فهو: المشرك الكفور، بنص القرآن، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، الذي قامت به الحجة على العالمين، فلا نبي بعده ولا رسول، أما بعد:
فقد بلغنا وسمعنا من فريق ممن يدَّعي العلم والدين، وممن هو بزعمه مؤتم بالشيخ محمد بن عبد الوهاب: أن من أشرك بالله وعبد الأوثان لا يطلق عليه الكفر والشرك بعينه. ذلك أن بعض من شافهني منهم بذلك سمع من بعض الإخوان أنه أطلق الشرك والكفر على رجل دعا النبي صلى الله عليه وسلم واستغاث به، فقال له الرجل: لا تطلق عليه الكفر حتى تعرفه
…
رغبوا عن رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - قدَّس الله روحه - ورسائل بنيه، فإنها كفيلة بتبيين جميع هذه الشبه جدًا كما سيمرُّ. ومن له أدنى معرفة إذا رأى حال الناس اليوم، ونزر إلى اعتقاد المشايخ المذكورين تحيَّر جدًا، ولا حول ولا قوة إلَاّ بالله، وذلك أن بعض من أشرنا إليه، بحثته عن هذه المسألة فقال: نقول لأهل هذه القباب الذين يعبدونها ومن فيها: فعلك هذا شرك وليس هو بمشرك، فانظر ترى، واحمد ربك واسأله العافية. فإن هذا
الجواب من بعض أجوبة العراقي (1)، التي يرد عليها الشيخ عبد اللطيف.
وذكر الذي حدثني عن هذا أنه سأله بعض الطلبة عن ذلك وعن مستدلهم، فقال: نكفر النوع ولا نعين الشخص إلَاّ بعد التعريف، ومستندنا ما رأيناه في بعض رسائل الشيخ محمد - قدَّس الله روحه - على أنه امتنع من تكفير من عبد قبة الكواز وعبد القادر من الجهال لعدم من ينبِّه
…
ونحن نقول: الحمد لله وله الثناء، ونسأله المعونة والسداد، ولا نقول إلَاّ كما قال مشايخنا، الشيخ محمد في إفادة المستفيد، وحفيده في رده على العراقي، وكذلك هو قول أئمة الدين قبلهم، ومما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام: أن المرجع في مسائل أصول الدين إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة المعتبر، وهو ما كان عليه الصحابة، وليس المرجع إلى عالم بعينه في ذلك.
فمن تقرر عنده هذا الأصل تقريرًا لا يدفعه شبهة وأخذ بشراشير قلبه، هان عليه ما قد يراه من الكلام المشتبه في بعض مصنفات أئمته، إذ لا معصوم إلَاّ النبي صلى الله عليه وسلم.
ومسألتنا هذه وهي: عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه، وأن من عبد مع الله غيره فقد أشرك الشرك الأكبر، الذي ينقل عن الملَّة، هي أصل الأصول، وبها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن وهكذا تجد الجواب من أئمة الدين في ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله، فإنه يستتاب فإن تاب وإلَاّ قتل، ولا يذكرون التعريف في مسائل الأصول، إنما يذكرون التعريف في المسائل
(1) هو داود بن جرجيس، أحد المنافحين عن الشرك وأهله، والمناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وقد ردَّ عليه الشيخان عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين، وعبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله جميعًا، وأسكنهم فسيح جناته.
الخفية، التي قد يخفي دليلها على بعض المسلمين، كمسائل نازع بها بعض أهل البدع، كالقدرية والمرجئة، أو في مسألة خفية: كالصرف والعطف.
وكيف يعرفون عبَّاد القبور، وهم ليسوا بمسلمين، ولا يدخلون في مسمَّى الإسلام، وهل يبقى مع الشرك عمل والله تعالى يقول:{وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، «ومن يشرك بالله فقد حبط عمله» (1). إلى غير ذلك من الآيات، ولكن هذا المعتقد يلزم منه معتقد قبيح، وهو: أن الحجة لم تقم على هذه الأمة بالرسول والقرآن، نعوذ بالله من سوء الفهم الذي أوجب لهم نسيان الكتاب والرسول. بل أهل الفترة الذين، لم تبلغهم الرسالة والقرآن، وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة
…
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدَّس الله روحه في الرسالة التي كتب إلى أحمد بن عبد الكريم صاحب الأحساء، أحد الصلحاء أولاً، وقبل أن يفتتن، فنذكر منها شيئًا لمشابهة من رددنا عليه كصاحب الرسالة وهذا نصُّها:
«من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن عبد الكريم سلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، أما بعد وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت، وتذكر أن عليك إشكال تطلب إزالته، ثم ورد منك رسالة تذكر أنك عثرت على كلام شيخ الإسلام أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام، وعلى أي شيء يدل كلامه على أن من عبد الأوثان عبادة اللَاّت والعزى،
وسبَّ دين الرسول بعد ما شهد به، مثل سب أبي جهل، أنه لا يكفر بعينه، بل
(1) لا توجد آية في القرآن بهذا الترتيب.
العبارة صريحة واضحة في تفكير مثل: ابن فيروز وصالح بن عبد الله وأمثالهما، كفرًا ظاهرًا ينقل عن الملة فضلاً عن غيرهما، هذا صريح واضح من كلام ابن القيم، وفي كلام الشيخ الذي ذكرت أنه أزال عنك الإشكال في كفر من عبد الوثن، الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخا، وسبَّ دين الرسول، بعدما أقرَّ وشهد به، ودان بعبادة الأوثان بعدما أقرَّ بها
…
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى في تلك الرسالة بعدما ذكر كثرة من ارتد عن الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كالذين في زمن أبي بكر رضي الله عنه حكموا عليهم بالردة بمنع الزكاة، وكأصحاب علي وأهل المسجد الذين بالكوفة، وبنو عبيد القدَّاح، كل هؤلاء حكموا عليهم بالردة بأعيانهم، ثم قال: وأما عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية التي لبسوا بها عليك فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لكفرنا كثيرًا من المشاهير بأعيانهم فإنه صرح فيها: بأن المعيَّن لا يكفر إلَاّ إذا قامت عليه الحجة، فإذا كان المعيَّن يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم: أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله، مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا عن ما يعذر به، فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57]، وقوله:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22].
(المقالات الخفية، والمسائل الجزئية، هي التي لا يكفر المعيَّن فيها إلَاّ بعد إقامة الحجة)
وإذا كان كلام الشيخ ليس في الردة والشرك، بل في المسائل الجزئيات، ثم قال: يوضح ذلك أن المنافقين إذا أظهروا نفاقهم صاروا مرتدين، فأين نسبتك أنه لا يكفر أحدًا بعينه.؟!
وقال أيضًا في كلامه على المتكلمين، ومن شاكلهم، لما ذكر من أئمتهم شيئًا من أنواع الردة، والكفر قال رحمه الله تعالى: وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن يقع في طوائف منهم في هذه الأمور الظاهرة، التي يعلم المشركون واليهود والنصارى أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفَّر من خالفها، مثل: أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام. ثم تجد كثيرًا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وكثير تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، - إلى أن قال -: وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في الردة، كما صنف: الرازي في عبادة الكواكب، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين.
هذا لفظه بحروفه، فتأمل كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية، وبين ما نحن فيه في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤسائهم فلانًا وفلانًا بأعيانهم وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام، مع كونه من أكابر أئمة الشافعية، هل يناسب هذا من كلامه أن المعين لا يكفر، ولو دعا عبد القادر في الرخا والشدة، ولو أحبَّ عبد الله بن عوف، وزعم أن دينه حسن، مع عبادته لأبي حديدة ....
انتهى كلام الشيخ من الرسالة المذكورة بحروفه مع بعض الاختصار، فراجعها من التاريخ فإنه نافعة جدًا ....
ومن الدليل على مسألتنا ما كتب الشيخ رحمه الله تعالى إلى عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم، لما سألاه عن قول شيخ الإسلام تقي الدين - قدس الله روحه - من جحد ما جاء به الرسول وقامت عليه الحجة فهو كافر.
فأجاب بقوله: إلى الأخوين عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم سلام
عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
ما ذكرتموه من كلام الشيخ كل من جحد كذا وكذا، وأنكم تسألوه عن هؤلاء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليهم الحجة أم لا؟ فهذا من العجب العجاب كيف تشكُّون في هذا، وقد وضحت لكم مرارًا أن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، أو الذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسائل خفية، مثل: الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف.
وأما أصول الدين التي وضَّحها الله في كتابه فإن حجة الله هي: القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44].
وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر ....
وقد ذكر الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله تعالى في شرح التوحيد في مواضع منه: أن من تكلم بكلمة التوحيد وصلَّى وزكى، ولكن خالف ذلك بأفعاله وأقواله من دعاء الصالحين والاستغاثة بهم والذبح لهم، أنه شبيه باليهود والنصارى في تكلمهم بكلمة التوحيد ومخالفتهم.
فعلى هذا يلزم من قال: بالتعريف للمشركين أن يقول: بالتعريف باليهود والنصارى، ولا يكفرهم إلَاّ بعد التعريف، وهذا ظاهر بالاعتبار جدًا.
وأما كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله تعالى على هذه المسألة فكثير جدًا، فنذكر من ذلك شيئًا يسيرًا لأن المسألة وفاقية، والمقام مقام اختصار، فلنذكر من كلامه ما ينبهك على الشبه، التي استدل بها من ذكرنا في الذي يعبد قبة الكواز، وأن الشيخ توقف في تكفيره، ونذكر أولاً
مساق الجواب وما الذي سيق لأجله وهو: أن الشيخ محمد رحمه الله، ومن حكى عنه هذه القصة يذكرون ذلك معذرة له عن ما يدعيه خصومه عليه من تكفير المسلمين، وإلَاّ فهي نفسها دعوى لا تصلح أن تكون حجة، بل تحتاج لدليل وشاهد من القرآن والسنة، ومن فتح الله بصيرته، وعوفي من التعصب، وكان ممن اعتنى ببيان هذه المسألة بيانًا شافيًا، وجزم بكفر المعين في جميع مصنفاته، ولا يتوقف في شيء منها، ولنرجع إلى مساق الجواب الذي أشرنا إليه.
قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله على قول العراقي: قد كفِّرتم الحرمين وأهلها، فذكر كلامه وأجاب عنه إلى أن قال: قال العراقي: ومن المعلوم أن المنع من تكفير المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب وإن أخطأوا، من أحق الأغراض الشرعية، وهو إذا اجتهد فله أجران إن اصاب، وإن أخطأ فله أجر واحد. انتهى كلام العراقي. والجواب أن يقال: هذا الكلام من جنس تحريفه الذي قررناه، وفي هذا تحريفين:
أحدهما: أنه أسقط السؤال وفرضه في التكفير، في المسائل التي وقع فيها نزاع وخلاف بين أهل السنة والجماعة والخوارج والروافض، فإنهم كفروا المسلمين وأهل السنة بمخالفتهم فيما ابتدعوه وأصَّلوه ووضعوه وانتحلوه ما سقط (1) هذا خوفًا من أن يقال دعا أهل القبور وسؤالهم والاستغاثة بهم من هذا الباب، ولم يتنازع فيها المسلمون، بل هي مجمع على أنها من الشرك المكفر كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، وجعلها مما لا خلاف في التكفير بها، فلا يصح حمل كلامه هنا على ما جزم هو بأنه كفر مجمع عليه،
(1) هكذا في الأصل، وإن كان السياق يقتضي: وأسقط.
ولو صح حمل هذا العراقي لكان قوله قولاً مختلفًا، وقد نزهه الله وصانه عن هذا، فكلامه متفق يشهد بعضه لبعض.
إذا عرفت هذا عرفت تحريف العراقي في إسقاطه بعض الكلام وحذفه، وأيضًا فالحذف لأصل الكلام يخرجه عن وجهه وإرادة المقصود.
التحريف الثاني: أن الشيخ رحمه الله قال: أصل التكفير للمسلمين، وعبارات الشيخ أخرجت عبَّاد القبور من مسمَّى المسلمين، كما سننقل من كلامه في الحكم عليهم بأنهم لا يدخلون في المسلمين في مثل هذا الكلام، فذكر كلامًا فيما أخطأ من المسلمين في بعض الفروع - إلى أن قال -: فمن اعتقد في بشر أنه إله، أو دعا ميتًا وطلب منه الرزق والنصر والهداية وتوكل عليه وسجد له، فإنه يستتاب فإن تاب وإلَاّ ضربت عنقه. انتهى.
فبطل استدلال العراقي وانهدم من أصله كيف يجعل النهي عن تكفير المسلمين متناولاً لمن يدعو الصالحين، ويستغيث بهم مع الله، ويصرف لهم من العبادات ما لا يستحق إلَاّ الله؟! وهذا باطل بنصوص الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة.
ومن عجيب جهل العراقي أنه يحتج على خصمه بنفس الدعوى، والدعوى لا تصلح دليلاً، فإن دعوى العراقي لإسلام عباد القبور تحتاج دليلاً قاطعًا على إسلامهم، فإذا ثبت إسلامهم منع من تكفيرهم، والتفريع ليس مشكلاً ....
وقال - أي الإمام محمد بن عبد الوهاب - وقد سئل عن مثل هؤلاء الجهال، فقرر: أن من قامت عليه الحجة وتأهَّل لمعرفتها يكفر بعبادة القبور، وأما من أخلد إلى الأرض واتبع هواه فلا أردي ما حاله. وقد سبق من كلامه ما فيه كفاية، مع أن العَلَاّمة ابن القيم رحمه الله جزم بكفر المقلدين لمشايخهم في المسائل المكفرة إذا تمكنوا من طلب الحق ومعرفته وتأهَّلوا لذلك،
وأعرضوا، ولم يلتفتوا، ومن لم يتمكن، ولم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل، فهو عنده من جنس أهل الفترة، ممن لم تبلغه دعوة لرسول من الرسل.
كلا النوعين لا يحكم بإسلامهم، ولا يدخلون في مسمَّى المسلمين، حتى عند من لم يكفر بعضهم - وسيأتيك كلامه -. وأما الشرك فهو يصدق عليهم، واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله وقاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلَاّ الله ....
قلت - أي الشيخ إسحاق صاحب الرسالة -: وهذا من أعظم ما يبين الجواب عن قوله في الجاهل العابد لقبة الكواز، لأنه لم يستثن في ذلك لا جاهلاً ولا غيره، وهذه طريقة القرآن: تكفير من أشرك مطلقًا وتوقفه رحمه الله في بعض الأجوبة، يحمل على أنه لأمر من الأمور، وأيضًا فإنه كما ترى توقف مرة كما في قوله: وأما من أخلد إلى الأرض فلا أدري ما حاله.
فيا لله العجب كيف يترك قول الشيخ في جميع المواضع، مع دليل الكتاب والسنة، وأقوال شيخ الإسلام وابن القيم، كما في قوله من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، ويقبل في موضع واحد من الإجمال ....
ولنذكر كلامًا لابن القيم ذكره في طبقات المكلفين نقله عنه الشيخ «عبد اللطيف» في رده على العراقي مثل التفسير لما ذكرنا لك، ويجلو عنك بقايا هذه الشبهة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب طبقات المكلفين، لما ذكر رءوس الكفار، الذين صدُّوا عن سبيل الله، وأن عذابهم مضاعف، ثم قال: الطبقة السابعة عشر، طبقة المقلِّدين وجهَّال الكفر وأتباعهم وحميرهم، الذين هم معهم تبع، يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة، ولنا أسوة بهم، ومع هذا فهم مسالمون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، كنساء المحاربين وخدمهم
وأتباعهم، الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاء نور الله، وهدم دينه، وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب، وقد اتفقت الأمة على أنَّ هذه الطبقة كفار، وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤساءهم وأئمتهم، إلَاّ ما يحكى عن بعض أهل البدع، أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار، وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد، من أئمة المسلمين ولا الصحابة ولا التابعون ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام.
وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مولد إلَاّ وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» ، فأخبر أن أبواه ينقلانه عن الفطرة إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، ولم يعتبر في ذلك غير المربى والمُنشأ على ما عليه الأبوان، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن الجنة لا يدخلها إلَاّ نفس مسلمة» ، وهذا المقلد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلف، والعاقل لا يخرج عن الإسلام أو الكفر، وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلف في تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين، وقد تقدم الكلام عليهم.
- قلت: وهذا الصنف أعني من لم تبلغهم الدعوة، هم الذين استثناهم شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقل العراقي، واستثناهم شيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
والإسلام: هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسوله واتباعه فيما جاء به. فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافرًا معاندًا، فهو كافر جاهل، فغاية هذه الطبقة أنهم: كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم، لا يخرجهم عن كونهم كفارًا، فإن الكافر: من جحد توحيد الله تعالى، وكذَّب رسوله، إما عنادًا، وإما جهلاً وتقليدًا لأهل العناد.
فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند، فهو متَّبع لأهل العناد.
وقد أخبر الله تعالى في القرآن في غير موضع: بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأن الأتباع مع متبوعهم، وأنهم يتحاجُّون في النار (ثم ذكر آيات في هذا وأحاديث ثم قال)، وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إنما هو: مجرد اتباعهم وتقليدهم. نعم لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين: ملقد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان في الوجود، فالمتمكن والمعرض، مفرط تارك للواجب عليه، لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه، فهم قسمان:
أحدهما: مريد للهدى، مؤثر له، محب له، غير قادر عليه، ولا على طلبه لعدم مرشد، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة.
الثاني: مُعرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه.
فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك دينًا خيرًا مما أنا عليه، لدنت به وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا اقدر على غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي.
والثاني: راض بما عو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته. وكلاهما عاجز، وهذا لا يجب أن يلحق الأول لما بينهما من الفرق، فالأول: كما طلب الدين في الفترة فلم يظفر به، فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزًا وجهلاً، والثاني: كمن لم يطلب بل مات على شركه، ولو كان طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المُعرض. والله يقضي بين عباده يوم القيامة بعدله وحكمته، ولا يعذب إلَاّ من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة
الخلق، وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وعباده فيه.
بل الواجب على العبد أن يعتقد: أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله تعالى لا يعذب أحدًا إلَاّ بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله، وحكمه هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم.
وبهذا التفصيل يزول الإشكال في هذه المسألة وهو مبني على أربعة أصول:
أحدها: أن الله سبحانه لا يعذب أحدًا إلَاّ بعد قيام الحجة عليه كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقال:{رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وذكر آيات ثم قال: وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76].
والظالم: من عرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تمكن من معرفته ثم خالفه وأعرض عنه، وأما من لم يكن عنده من الرسول علم أصلاً، ولا تمكن من معرفته بوجه، وعجز عن ذلك فكيف يقال أنه ظالم.
الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بشيئين:
أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها.
الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها.
فالأول: كفر إعراض، والثاني: كفر عناد.
وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها، فهذا هو الذي نفى الله التعذيب عليه حتى تقوم حجته بالرسل.
الأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة
والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتميزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه لكونه لا يفهم ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئًا، ولا يتمكن من التفهم وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة، كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما إلى آخره.
ثم قال الشيخ (1) رحمه الله: فقف هنا وتأمل هذا التفصيل البديع، فإنه رحمه الله لم يستثن إلَاّ من عجز عن إدراك الحق، مع شدة طلبه وإرادته له، فهذا الصنف هو المراد في كلام شيخ الإسلام وابن القيم وأمثالهما من المحققين، وأما العراقي وإخوانه المبطلون فشبهوا بأن الشيخ لا يكفر الجاهل، وأنه يقول هو معذور، وأجملوا القول ولم يفصلوا، وجعلوا هذه الشبهة ترسًا يدفعون به الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وصاحوا على عباد الله الموحدين، كما جرى لأسلافهم من عباد القبور والمشركين.
وإلى الله المصير وهو الحاكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون إلى آخر ما ذكر الشيخ رحمه الله.
فتأمل إن كنت ممن يطلب الحق بدليله، وإن كنت ممن صمَّم على الباطل، وأراد أن يستدل عليه بما أجمل من كلام العلماء، فلا عجب.
وصلَّى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين» (2).
* * *
(1) أي عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن.
(2)
«عقيدة الموحدين» الرسالة السادسة حكم تكفير المعين، والفرق بين قيام الحجة، وفهم الحجة:(ص 138 - 163).
مقتطفات من الرسالة الثانية
بقلم الشيخ
عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
اعلم: أيها الطالب للحق، الراغب في معرفة الإخلاص والصدق، أنه ورد علينا أوراق صدرت من رجل سوء، تتضمن التحذير من التكفير، من غير تحقيق ولا تحرير، يقول فيها: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في الرد على أهل الرفض من الخوارج والاعنزال ....
وهذا الرجل قد أخذ بطريقة من يكفِّر بتجريد التوحيد، فإذا قلنا: لا يعبد إلَاّ الله ولا يدعى إلَاّ هو، ولا يرجى سواه ولا يتوكل إلَاّ عليه، ونحو ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلَاّ لله، وأن من توجه بها لغير الله فهو كافر مشرك، قال: ابتدعتم وكفرتم أمة محمد، أنتم خوارج، أنتم مبتدعة.
وأخذ من كلام شيخ الإسلام في أهل البدع، ما كتبه يعرض بأهل التوحيد، ولا يخفى ما قاله شيخ الإسلام: فيمن أشرك بالله.
قال رحمه الله تعالى: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم ويتوكل عليهم، كفر إجماعًا ....
وقال في «الرسالة السَّنية» وكل من غلا في نبي، أو رجلا صالح، وجعل فيه نوعًا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا
شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلَاّ قتل ....
والمقصود: بيان ما كان عليه شيخ الإسلام، وإخوانه من أهل السنَّة والجماعة من إنكار الشرك ألأكبر الواقع في زمانهم، وذكرهم الأدلة من الكتاب والسنَّة على كفر من فعل هذا الشرك أو اعتقده، فإنه بحمد الله يهدم ما بناه - هذا الجاهل المفتري - على شفا جرف هار ....
ولا ريب: أن الله تعالى لم يعذر أهل الجاهلية، الذين لا كتاب لهم، بهذا الشرك الأكبر، كما في حديث عياض بن حمار: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلَاّ بقايا من أهل الكتاب» ، فكيف يعذر أمة كتاب الله بين أيديهم، يقرؤونه، ويسمعونه، وهو حجة الله على عباده، كما قال تعالى:{هَذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52].
كذلك سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي بيَّن فيها: افتراق الأمة، إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلَاّ واحدة، وهي الجماعة.
ثم يجيء من يموه على الناس، ويفتنهم عن التوحيد، بذكر عبارات لأهل العلم، يزيد فيها وينقص، وحاصلها: الكذب عليهم؛ لأنه في أناس لهم إسلام ودين، وفيهم مقالات كفرهم بها طائفة من أهل العلم، وتوقف بعضهم في تكفيرهم حتى تقوم عليهم الحجة، ولم يذكرهم بعض العلماء في جنس المشركين، وإنما ذكروهم في الفساق، كما ستقف عليه في كلام العلَاّمة ابن القيم، إن شاء الله تعالى
…
(الفرق بين: المشرك والمبتدع)
وقد سلف الوعد: بأن نذكر ما قاله العلَاّمة ابن القيم.
قال رحمه الله: وفسق الاعتقاد كفسق أهل البدع، الذين يؤمنون بالله ورسوله، واليوم الآخر، ويحرمون ما حرَّمه الله ورسوله، ويوجبون ما أوجبه الله؛ لكن ينفون كثيرًا مما أثبته الله ورسوله، جهلاً وتأويلاً، وتقليدًا للشيوخ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك، وهؤلاء كالخوارج المارقة، وكثير من الروافض، والقدرية، والمعتزلة، وكثير من الجهمية، الذين ليسوا غلاة في التجهم.
وأما غالية الجهمية: فكغلاة الرافضة، وليس للطائفتين في الإسلام نصيب؛ ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين وسبعين فرقة وقالوا: هم مباينون للملَّة
…
إلى أن قال: فتوبة هؤلاء الفساق، من جهة الاعتقادات الفاسدة، بمحض اتباع السنَّة، ولا يكتفي منهم بذلك أيضًا، حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة، إذ التوبة من كل ذنب هي بفعل ضده. انتهى المقصود. فتأمل كيف جعل أهل هذه البدع في جنس الفساق، لأنهم يؤمنون بالله ورسوله، واليوم الآخر ....
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، في الفتاوى المصرية: قد قال بعض الناس إنه تجوهر، وهذا قول قوم داوموا على الرياضة مدة، فقالوا: لا نبالي بما علمنا (1)، وإنما الأمر والنهي رسم العوام، ولو تجوهروا سقط عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة، والمراد منها ضبط العوام، ولسنا من العوام فندخل في التكليف؛ لأنا قد تجوهرنا، وعرفنا الحكمة.
فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، بل هم أكفر أهل الأرض، فإن اليهود والنصارى آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وهؤلاء كفروا بالجميع، خارجون عن التزام شيء من الحق؛ ثم قال: ومن جحد بعض الواجبات
الظاهرة المتواترة، أو جحد بعض المحرَّمات الظاهرة، كالفواحش والظلم،
(1) هكذا في الأصل، ولعلها:«عملنا» .
والخمر والزنا والربا، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة، كالخبز واللحم والنكاح، فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلَاّ قتل.
قلت: ولم يقل شيخ الإسلام: إنهم يعذرون بالجهل، بل كفَّرهم، وقال: إنهم ارتدوا؛ قال: ومن أضمره فهو منافق، لا يستتاب عند أكثر العلماء؛ ومن هؤلاء: من يستحل بعض الفواحش، كمواخات النساء الأجانب، والخلوة بهن، والمباشرة لهن، في عامة أن يحصل لهن البركة، بما يفعله معهن، وإن كان محرَّمًا في الشريعة.
وكذلك من يستحل ذلك في المردان، ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم، ومباشرتهم، هو طريق لبعض السالكين، حتى يترقى في محبة المخلوق إلى محبة الخالق، ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى، كما يستحلها من يقول: إن اللواط مباح بملك اليمين، هؤلاء كلهم كفار باتفاق أئمة المسلمين. انتهى.
قلت: فنحن - بحمد الله - ننكر هذه الكفريات، ونعادي أهلها، فإن أبى المنحرف، إلَاّ أن يطعن علينا بقوله: كفَّرتم أمة محمد؛ قلنا: معاذ الله، لا نكفر مسلمًا، ولا نجحد ما أعطى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضائل، التي لم يعطها أمة قبلها، وهم الأمة الوسط بنص الكتاب
…
(المشرك: أثبت ما نفته لا إله إلا الله، ونفى ما أثبتته، فكيف يكون مسلمًا)؟
وقد اغتر كثير من الناس في أمر الدين، بمجرد التلفظ بلا إله إلَاّ الله، مع الجهل بمدلولها، ومخالفة مضمونها، قولاً وعملاً واعتقادًا، فيثبت ما نفته لا إله إلَاّ الله، ومن الشرك بالله، وينفي ما أثبتته لا إله إلَاّ الله، من إخلاص العبادة لله، كما قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].
فإذا دعا غير الله، واستغاث به فيما لا يقدر عليه إلَاّ الله؛ وقال له الموحِّدون:
لا يعبد إلَاّ الله، والعبادة بجميع أنواعها مقصورة على الله؛ قال: تنقَّصتم الصالحين، وأمثال ذلك من العبارات، المتضمنة للكفر بمعنى لا إله إلَاّ الله، والإنكار على من دعا إلى مضمون لا إله إلَاّ الله، وهو إخلاص العبادة لله، كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
فما أشبه هؤلاء بمن نزلت فيهم هذه الآية ....
ثم إن الجاهل المرتاب، قال في أوراقه قولاً، قد تقدَّم الجواب عنه، ولا بد من ذكره، قال: فإذا قال المسلم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. يقصد من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله، أو قال كفرًا، أو فعله، وهو لا يعلم أنه يضاد الشهادتين، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان.
(الأدلة على عدم العذر بالجهل، أو بالخطأ في الشرك الأكبر)
فأقول: انظر إلى هذا التهافت والتخليط، والتناقض، ولا ريب: أن الكفر ينافي الإيمان، ويبطله، ويحبط الأعمال، بالكتاب والسنَّة وإجماع المسلمين، قال الله تعالى:{وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5].
ويقال: كل كافر قد أخطأ، والمشركون لا بد لهم من تأويلات، ويعتقدون أن شركهم بالصالحين، تعظيم لهم ينفعهم، ويدفع عنهم، فلم يعذروا بذلك الخطأ، ولا بذلك التأويل، بل قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3].
وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].
فأين ذهب عقل هذا عن هذه الآيات، وأمثالها من الآيات المحكمات؟!
والعلماء رحمهم الله تعالى سلكوا منهج الاستقامة، وذكروا باب حكم المرتد، ولم يقل أحد منهم: أنه إذا قال كفرًا، أو فعل كفرًا، وهو لا يعلم أنه يضاد الشهادتين، أنه لا يكفر لجهله. وقد بيَّن الله في كتابه: أن بعض المشركين جهال مقلدون، فلم يدفع عنهم عقاب الله بجهلهم وتقليدهم، كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} إلى قوله: {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 3 - 4].
ثم ذكر الصنف الثاني: وهم المبتدعون، بقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [الحج: 8]. فسلبهم العلم والهدى، ومع ذلك فقد اغترَّ بهم الأكثرون لما عندهم من الشبهات والخيالات، فضلُّوا وأضلُّوا، كما قال تعالى في آخر السورة:{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [الحج: 71].
وقد دلت الآيات المحكمات: على كفر من أِشرك بالله غيره في عبادته، قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8].
ولها نظائر كثيرة سوى ما تقدَّم، كقوله:{قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأعراف: 37].
ففي هذه الآية من البيان: أن معظم شركهم هو: دعاؤهم، وأنه كفر بالله،
فلا اعتبار بمن أعمى الله بصيرته، عن تدبُّر كتاب الله، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الجاهل يدَّعي أنه ينقل من «منهاج السنَّة» لشيخ الإسلام، وقد عرفت ما في ذلك من فساد قصده، ووضعه العبارة في غير من هي له، وما قصد بها. وهذا كلام شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، في المنهاج، يطابق ما قد أسلفناه عنه في هذا الجواب.
قال رحمه الله تعالى: وأشهر الناس بالردَّة: خصوم أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأتباعه، كمسيلمة الكذاب، وأتباعه، وغيرهم.
ومن أظهر الناس ردَّة: الغالية الذين حرَّقهم علي رضي الله عنه بالنار، لما ادعوا فيه الإلهية؛ والسبئية أتباع عبد الله بن سبأ، الذي أظهر سب أبي بكر وعمر.
وأول من ظهر عنه دعوة النبوة، من المنتسبين إلى الإسلام: المختار بن أبي عبيد، وكان من الشيعة، فعلم: أن أعظم الناس ردة هم الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف؛ ولهذا لا يعرف أسوأ ردة من ردة الغالية، كالنصيرية، ومن ردة الإسماعيلية الباطنية، ونحوهم. انتهى.
ومن المعلوم: أن كثيرًا من هؤلاء جهَّال، يظنون أنهم على الحق، ومع ذلك حكم شيخ الإسلام بسوء ردتهم.
وقال أيضًا: وأشهر الناس بقتال المرتَّدين، هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلا يكون المرتدون في طائفة أكثر مما في خصوم أبي بكر. انتهى.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي، أو قال من أمتي، فيجلون عن الحوض؛ فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال: إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري» ، وفي رواية:«فَيُحَلَّئُون» (1).
(1) أي: يطردون، كذا في «فتح الباري»:(11/ 474).
وللبخاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بيما أنا قائم على الحوض، إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلمَّ؛ فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله؛ قلت: فما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ؛ فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله؛ قلت: فما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم، ولا أرُاه يخلص منهم إلَاّ مثل هملاء النعم» (1).
قلت: فدلَّت الأحاديث، على أن في خير قرون الأمة، من قد ارتد عن الإسلام؛ وذكر شيخ الإسلام: أن ذلك وقع في طوائف، وصرَّح به في منهاج السنَّة وغيره. وأخبار هؤلاء الطوائف، وذكر مقالاتهم، وكفرياتهم، مبسوط في كتب العلماء، وتواريخ الإسلام، لا يخفى ذلك إلَاّ على من هو أجهل الناس بالعلم والعلماء، كهذا الجاهل البليد، الذي أخذ عن أشياخه عداوة التوحيد» (2).
* * *
(1) الرواية في البخاري: «همل النعم» ، قال الحافظ: والهَمَل بفتحتين: الإبل بلا راع. وقال الخطابي: الهمل ما لا يرعى، ولا يستعمل، ويطلق على الضوال. والمعنى: أنه لا يرده منهم إلَاّ القليل، لأن الهمل في الإبل قليل بالنسبة لغيره. اهـ. «فتح الباري»:(11/ 483).
(2)
«الدرر السنية» : (11/ 446)، ويراجع في هذا المقام - على سبيل المثال لا الحصر ـ: مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد لإمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب، والانتصار لحزب الله الموحدين، وبيان الشرك لأبي بطين
…