الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
الكفر بالطاغوت شطر التوحيد، والتوحيد أساس الإيمان وركنه الأعظم، والتحاكم إلى الطاغوت، أو الحكم به، إيمان بالطاغوت وكفر بالله العظيم، ومروق من ملة المسلمين
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه على كتاب التوحيد:
«باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} [النساء: 60].
قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: والآية ذامَّة لمن عدل عن الكتاب والسنَّة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ههنا.
وتقدم ما ذكره العلَاّمة ابن القيم رحمه الله تعالى في حدِّه للطاغوت، وأنه كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حاكم إلى الطاغوت، الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به.
فإنَّ التحاكم ليس إلَاّ إلى كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن كان يحكم بهما، فمن تحاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حدَّه، وخرج عمَّا شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأنزله منزلة لا يستحقها. وكذلك من عبد شيئًا دون الله فإنما عبد الطاغوت، فإن كان المعبود صالحًا صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها، كما قال تعالى:{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [يونس: 28 - 30].
وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه، أو كان شجرًا أو حجرًا أو قبرًا، أو غير ذلك مما يتخذه المشركون أصنامًا على صور الصالحين، والملائكة وغير ذلك، فهي من الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده أن يكفروا بعبادته، ويتبرأوا منه، من عبادة كل معبود سوى الله كائنًا من كان، وهذا كله من عمل الشيطان وتسويله، فهو الذي دعا إلى كل باطل وزيَّنَه لمن فعله، وهذا ينافي التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلَاّ الله.
فالتوحيد: هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله، وكما قال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وكل من عبد غير الله فقد جاوز به حدَّه وأعطاه من العبادة ما لا يستحقه.
قال الإمام مالك رحمه الله: «الطاغوت ما عبد من دون الله» .
وكذلك من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورغب عنه، وجعل لله شريكًا في الطاعة وخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله تعالى به في قوله:{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].
وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل
الله، أو طلب ذلك اتباعًا لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعم أنه مؤمن.
فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله:{يَزْعُمُونَ} من نفي إيمانهم، فإن يزعمون إنما يقال غالبًا: لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله:{وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} ، لأن الكفر بالطاغوت: ركن التوحيد. كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحدًا، والتوحيد هو: أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه.
كما أن ذلك بيّن في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [البقرة: 256]، وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت: إيمان به.
وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا} [النساء: 60]، يبيِّن تعالى في هذه الآية أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزيِّنه لمن أطاعه، ويبيِّن أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله، وأكده بالمصدر، ووصفه بالعبد، فدلَّ على أن ذلك من أعظم الضلال وأبعده عن الهدى.
ففي هذه الآية أربعة أمور:
الأول: أنه من إرادة الشيطان.
الثاني: أنه ضلال.
الثالث: تأكيد بالمصدر.
الرابع: وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى.
فسبحان الله ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه، وما أدله على أنه كلام رب العالمين، أوحاه إلى رسوله الكريم، وبلَّغه عبده الصادق الأمين. صلوات الله وسلامه عليه» (1).
(1)«فتح المجيد» : (ص 379 - 381).