الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
الرد على شبهة تكفير المسلمين واعتزالهم
شبهة تكفير المسلمين: الشبهة الدائمة الدوران بدعاة التوحيد، والمُعَدَّة سلفًا ودومًا من أعدائهم أهل الإرجاء والخنوع والإرجاف، إنهم الخوارج وأهل التكفير
…
وقد استباحوا دماء المصلِّين، واستحلوا أعراضهم، وجعلوها بمنزلة الكفار الأصليين من اليهود والنصارى والمشركين.
لقد وقف الغلاة من أهل الإرجاء هذا الموقف لأن الشرك والمعصية عندهم على رتبة واحدة، ولا فرق في الأسماء والأحكام، ومن ثم نظروا إلى من يكفرون بالشرك كنظرتهم للذين يكفرون بالمعصية، وظنوا بل قطعوا وقرَّروا: أن الجميع قد خرج من تحت عباءة الخوارج، الذين هم أهل التكفير، سبحانك هذا بهتام عظيم وإفك مبين.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمهما الله تعالى في بيان هذه الشبهة والرد عليها:
«قال العراقي: والخوارج هم كما في البخاري ومسلم وغيرهما من سائر كتب الحديث أناس عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين - وأطال الكلام في الخوارج، وذكر بعض النصوص فيهم مع تصرف وعدم تحقيق ومعرفة للنقل - إلى أن قال - فتبين لك أن علامة الخوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة في الكفار على المؤمنين من أهل القبلة، ولهذا ما ترى أحدًا من أهل السنة يتفوه بذلك ولا يكفر أحدًا.
ومنشأ هذه البدعة من سوء الظن واتباع العقل - ثم ذكر حديث اعتراض ذي الخويصرة التميمي على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قال له، ثم ذكر
قول الخوارج «لا حكم إلَاّ لله» وقال بعده: وكذلك إخوانهم في هذا الزمان يقولون: «لا يعبد إلَاّ الله» ، فنقول: صدقتم هذه كلمة حق، ولكن أين الذي يعبد غيره إذا كان مسلمًا ناطقًا بالشهادتين، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج؟
والجواب أن يقال:
إن الأحاديث والآثار التي جاءت بها السنة وصحَّت بها الأخبار في شأن الخوارج ووصفهم وذمهم، فهي معروفة مشهورة عند أهل العلم بالحديث والآثار. وقد ساقها مسلم في صحيحه من نحو عشرة أوجه. وهذا العراقي ليس من رجال هذا الشأن ولا يحسن الحكاية والنقل، ولا تمييز له بين مرفوعها وموقوفها، وصحيحها وسقيمها وغيره.
يوضحه قوله: والخوارج هم في البخاري ومسلم وغيرهما من سائر كتب الحديث أناس عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين.
فهذا كلام غبي غوي لا يدري الصناعة ولا يعرف ما في تلك البضاعة، فإن هذا اللفظ ليس مرفوعًا باتفاق. وليس في سائر كتب الحديث والسنن الأربعة، وصحيحي البخاري ومسلم، وليس فيها هذا اللفظ، فكلامه كلام جاهل بصناعة الحديث وروايته ولسنا بصدد بيان جهله وإفلاسه من العلوم، وإنما المراد كشف شبهه وردها.
وحاصل مقصوده ونقله: تشبيه أهل الإسلام والتوحيد بالخوارج في تكفيرهم من عبد الأنبياء والأولياء والصالحين، ودعاهم مع الله، لأن عباد القبور عنده أهل سنة وجماعة، وأهل الإسلام من جنس الخوارج. الذين يكفرون أهل القبلة، هذا حاصل إسهابه ومضمون خطابه، لكن أطال بما لا طائل تحته.
ونحن نتكلَّم على بدء أمر الخوارج وحقيقة مذهبهم، ثم نتكلم على مذهب عبَّاد القبور وما هم عليه، ثم نتبع ذلك بفصل نافع في بيان حال
الشيخ محمد رحمه الله وتقرير مذهبه، وما كان عليه في المعتقد والدين، ليعلم الواقف على ما قرنناه حقيقة المذاهب، وحاصل العقائد، فيما وقعت فيه الخصومة فنقول: (وأخذ الشيخ يتكلم في بحث نفيس، قلَّ أن يوجد نظيره، بيَّن فيه بداية خروج الخوارج، وحقيقة مذهبهم والأسباب الداعية لخروجهم، إلى أن قال رحمه الله: هذا ملخَّص أمرهم.
وقد عرفت شبهتهم التي جزموا لأجلها بكفر علي وشيعته، ومعاوية وأصحابه. وبقي معتقدهم في أناس متفرقين بعد هذه الوقعة، ثم اجتمعت لهم شوكة ودولة فقاتلهم المهلَّب بن أبي صفرة، وقاتلهم الحجاج بن يوسف، وقاتلهم قبله ابن الزبير زمن أخيه عبد الله. وشاع عنهم التكفير بالذنوب، يعني ما دون الشرك، وبهذا تعرف حقيقة الحال، ويزول الإشكال الذي نشأت منه الشبهة.
وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم في نونيته:
ومن العجائب أنهم قالوا لمن
قد دان بالآثار والقرآن
أنتم بذا مثل الخوارج إنهم
أخذوا الظواهر، ما اهتدوا لمعان
وهذا داء قديم في أهل الشرك والتعطيل" من كفَّرهم بعبادتهم غير الله وتعطيل أوصافه وحقائق أسماءه، قالوا له: أنت مثل الخوارج، يكفرون بالذنوب ويأخذون بظواهر الآيات.
ومعلوم أن الذنوب تتفاوت وتختلف بحسب منافاتها لأصل الحكمة المقصودة بإيجاد العالم، وخلق الجن والإنس، وبحسب ما يترتب عليها من هضم حقوق الربوبية، وتنقص رتبة الإلهية، وقد كفَّر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بكثير
من جنس الذنوب كالشرك وعبادة الصالحين، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أكبر الكبائر، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، قال قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك. فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
…
} [الفرقان: 68].
فمن أنكر التكفير جملة فهو محجوج بالكتاب والسنة. ومن فرق بين ما فرق الله ورسوله بينه من الذنوب، ودان بحكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في الفرق بين الذنوب فقد أنصف، ووافق أهل السنة والجماعة، ونحن لم نكفر أحدًا بذنب دون الشرك الأكبر الذي أجمعت الأمة على كفر فاعله، إذا قامت عليه الحجة، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، كما حكاه في الإعلام لابن حجر الشافعي» (1).
(شبهة الاعتزال):
ولما قام أئمة الدعوة - تحقيقًا لملة إبراهيم الخليل (- بالبراءة من المشركين وآلهتهم التي يعبدونها من دون الله واعتزالهم. صرخ الشيطان في آذان حزبه ومريديه: إن هؤلاء من نسل المعتزلة، وخرجوا من ضئضئي عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء إماما الاعتزال وأهل الكلام {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5].
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله تعالى في أثناء رده على واحد من المشركين يتهمهم بهذا الإفك والبهتان:
«إن هذا الملحد المبهرج، يسمِّي أهل التوحيد والإخلاص النافين للشرك، المعادين لأهله: معتزلة، والمعتزلة طائفة معروفة، ابتدعوا بنفي القدر، فنفوا
(1)«انظر: «منهاج التأسيس» : (36 - 49).
ما أثبته الله في كتابه، وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم بما جرى به القلم بما يكون إلى يوم القيامة، واعتزلوا مجلس الحسن البصري، رحمه الله تعالى، وسمُّوا معتزلة لذلك، فإنهم اعتزلوا أهل السنة، وخالفوهم فيما ذكرنا، وقالوا: بالمنزلة بين المنزلتين، قالوا في صاحب الكبيرة فاسق لا مؤمن ولا كافر، وقالوا: بتخليده في النار.
وخالفوا أيضًا ما تواترت به الأحاديث: أن الله يدخل من يشاء من أهل المعاصي النار، ثم يخرجهم منها بما معهم من التوحيد، فإذا جازاهم الله تعالى بإدخالهم النار، ومكثهم فيها على قدر ذنوبهم، أخرجهم بما معهم من التوحيد، فأدخلهم الجنة برحمته، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، فإنهم خالفوا هذه الطائفة وكل مبتدع.
ثم إن هؤلاء المعتزلة: وافقوا جهمًا وشيعته، في نفي الصفات، فنفوا ما أثبته الله لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، من صفات كماله، ونعوت جلاله، على ما يليق بعظمته، ففارقت هذه الطائفة أهل السنة، بهذه البدع وغيرها، فلم يثبتوا الشفاعة لأهل الكبائر أيضًا، فهذا هو الذي تعلق به المبهرج الملحد.
فإنه جعل الشرك وما دونه من الكبائر بابًا واحدًا، فظن أن من تعلق بالشفعاء، ورغب إليهم، وسألهم أن يشفعوا له، أن ذلك يوجب له شفاعتهم، فظن هذا الظن، أنه لا ينكر هذا إلَاّ المعتزلة، لأنهم ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر، على مذهبهم، وهذه الشفاعة أبطلها القرآن، فلاحظ فيها لمشرك ....
فالمعتزلة الذين تقدم ذكر بدعتهم، لسنا بحمد الله في شيء من مقالاتهم، بل ننكرها عليهم، ونعتقد أنهم خالفوا ما تواترت به النصوص، وتظاهرت عليه أدلة القرآن، الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ
مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] ....
(وجوب البراءة من المشركين)
فالحنفاء أهل التوحيد، اعتزلوا هؤلاء المشركين، لأن الله أوجب على أهل التوحيد اعتزالهم وتكفيرهم والبراءة منهم، كما قال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 48]، إلى قوله:{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [مريم: 49]، وقال:{إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وقال عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ
…
} الآية [الكهف: 16].
فلا يتم لأهل التوحيد توحيدهم، إلَاّ باعتزال أهل الشرك، وعداوتهم وتكفيرهم، فهم معتزلة بهذا الاعتبار، لأنهم اعتزلوا أهل الشرك، كما اعتزلهم الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام» (1).
* * *
(1) الدرر السنية (11/ 430 - 434).