الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
الإسلام والإيمان وحدود العلاقة بينهما
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله، عن الفرق بين الإسلام والإيمان، فأجاب:
قد فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان في حديث جبرائيل، وفسَّر الإسلام في حديث ابن عمر، وكلاهما في الصحيح، فقال:«الإسلام أن تشهد أن لا إله إلَاّ الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً» ، وقال:«الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» ، وقال في حديث ابن عمر:«بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلَاّ الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» ، وفي رواية:«والحج، وصوم رمضان» .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام، فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنًا، ولا كل مسلم مؤمنًا، كما دلت عليه الأحاديث. انتهى كلامه.
فإن قيل: قد فرَّق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبرائيل بين الإسلام والإيمان، والمشهور عن السلف وأئمة الحديث: أن الإيمان قول، وعمل، ونيَّة، وأنَّ الأعمال كلها داخلة في مسمَّى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم؟
فالجواب: أنَّ الأمر كذلك، وقد دلَّ على دخول الأعمال في الإيمان: الكتاب والسنَّة: أما الكتاب فكقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، وأما الحديث فكقوله في حديث أبي هريرة المتفق عليه:«الإيمان بضع وسبعون شُعبة، أعلاها قول لا إله إلَاّ الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من الإيمان» وغير ذلك.
فمن زعم: أن إطلاق الإيمان على الأعمال الظاهرة مجاز، فقد خالف الصحابة، والتابعين، والأئمة.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه يجمع بين الأحاديث: بأن أعمال الإسلام داخلة في مسمَّى الإيمان، شاملاً لها، ففسرت بالإسلام، وهي جزء مسمَّى الإيمان، لكون الإيمان مثالاً لها ولغيرها، من الأعمال الباطنة والظاهرة، فإذا أفرد الإيمان في آية أو حديث، دخل فيه الإسلام، وإذا قرن بينهما فسر الإسلام بالأركان الخمسة، كما في حديث جبريل، وفسَّر الإيمان بأعمال القلب، لأنها أصل الإيمان ومعظمه، وقوته وضعفه: ناشئ عن قوة ما في القلب، من هذه الأعمال أو ضعفها.
وقد يضعف ما في القلب، من الإيمان بالأصول الستة، حتى يكون وزن ذرة، كما في الحديث الصحيح:«أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» .
فبقدر ما في القلب من الإيمان، تكون الأعمال الظاهرة، التي هي داخلة في مسمَّاه، وتسمَّى إسلامًا وإيمانًا، كما في حديث وفد عبد القيس، حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:«آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«شهادة أن لا إله إلَاّ الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خُمس ما غنمتم» ، فهذه
الأعمال الظاهرة والباطنة، فمن ترك شيئًا من الواجبات، أو فعل شيئًا من المحرَّمات، نقص إيمانه بحسب ذلك، وهو دليل على نقصان أصل الإيمان، وهو إيمان القلب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، في الكلام على الإسلام والإيمان والإحسان، وما بين الثلاثة من العموم والخصوص: أما الإحسان: فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان: أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام. فالإحسان: يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون: أخص من المؤمنين، والمؤمنون: أخص من المسلمين. انتهى. وهذا يبيِّن ما قرَّرنا.
فحينئذ يتبين الإيمان الكامل، الذي صاحبه يستحق عليه دخول الجنة. والنجاة من النار، هو: فعل الواجبات، وترك المحرَّمات، وهو: الذي يطلق على من كان كذلك بلا قيد، وهو الإيمان: الذي يسميه العلماء: الإيمان المطلق.
وأما من لم يكن كذلك، بل فرَّط في بعض الواجبات، أو فعل بعض المحرَّمات، فإنه لا يطلق عليه الإيمان إلَاّ بقيد، فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو يقال: مؤمن ناقص الإيمان، لكونه ترك بعض واجبات الإيمان، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ، أي: ليس موصوفًا بالإيمان الواجب، الذي يستحق صاحبه الوعد بالجنة، والمغفرة والنجاة من النار، بل هو تحت المشيئة: إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه على ترك ما وجب عليه من الإيمان، وارتكابه الكبيرة.
وقيل: هذا يوصف بالإسلام دون الإيمان، ولا يسمَّى مؤمنًا إلَاّ بقيد، وهذا الذي يسميه العلماء مطلق الإيمان، أي: أنه أتى بالأركان الخمسة، وعمل بها باطنًا وظاهرًا، وهذا الذي قلنا من معنى الإسلام والإيمان، هو
مذهب الإمام أحمد، وطائفة من السلف والمحققين، وذهب طائفة من أهل السنَّة أيضًا إلى أنَّ الإسلام والإيمان شيء واحد، وهو الدين، فيسمَّى إسلامًا وإيمانًا، فهما اسمان لمسمَّى واحد، والأول أصح، وهو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتبه، فلا تلتفت إلى ما يخالف هذين القولين، والله أعلم (1).
* * *
من المعلوم من الدين بالضرورة: أنه يجب الإيمان بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فالإيمان بالشريعة كلٌّ لا يتجزأ، ومن ثمَّ من وقع في ردّ أي حكم من أحكامها، يكون كافرًا، ولو كان مقرًا بكل ما أنزل الله فيها.
والإيمان والكفر، ضدان لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولكل منهما أصل وشُعب. فأصل الإيمان: التوحيد، وشُعبه: الطاعات، وأصل الكفر: الشرك، وشُعبه: المعاصي.
فالضد من أصل الإيمان وشُعبه، يستحيل أن يجتمع مع ضده من أصل الكفر وشُعبه.
فالعبد إذا قامت به شُعبة من شُعب الكفر دون أصله، لا يكون كافرًا، وكذلك إذا قامت به شُعبة من شُعب الإيمان دون أصله، لا يصير مؤمنًا.
فحكم الكفر لا ينحل عن صاحبه، حتى يحقق أصل الإيمان لا شُعبه، وكذلك حكم الإيمان لا يفارق صاحبه، حتى يقوم به أصل الكفر لا شُعبه، وبعبارة أخرى: إن الإيمان لا يثبت لكافر، حتى ينخلع من أصل الكفر، لا شُعبه، كما أن الكفر لا يثبت على مؤمن، حتى يذهب عنه أصل الإيمان لا شُعبه.
والحاصل: أن للإيمان أصل، لا يتم ولا يصح الإسلام والإيمان إلَاّ به إجماعًا.
(1)«الدرر السنية» : (1/ 334 - 337).
فأصل الإسلام والإيمان: القيام بمعنى (لا إله إلَاّ الله) إقرارًا وعلمًا وعملاً، ومدلول ذلك يتمثل في: عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بكل ما يُعبد من دونه، مع الإقرار والقبول لكافة أحكام الله تعالى.
وللإسلام والإيمان، علاقة وطيدة تربط بينهما، وعلى ضوء قواعدها، نستطيع الوقوف على أسماء وأحكام الكفر والإيمان.
فالإسلام قد يفسر بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة، إلَاّ أنه لا يصح قبول أي واحد منهما بمعزل عن الآخر.
فالإسلام بدون إيمان نفاق أكبر، والإيمان بدون إسلام دعوى لا حقيقة لها؛ ومن ثمَّ كانت المؤثرات السلبية والإيجابية الظاهرة واحدة على كل منهما.
فإذا قام دليل صحيح منضبط على فساد الظاهر أو الباطن، قطعنا بفساد الإسلام والإيمان، هذا مع قولنا: إن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو الأعمال الباطنة فينبغي التفطن لهذا الموضع فإنه نافع جدًا، وبه نعلم حقيقة العلاقة الصحيحة المنضبطة بين الإسلام والإيمان.
والناس يتفاضلون في الإسلام والإيمان تفاضلاً عظيمًا، ويكونون فيه على درجات متفاوتة، بحسب ما قام في قلوبهم من: الصدق واليقين والإخلاص، وعلى جوارحهم من: الانقياد والطاعة والقبول والإذعان.
وبهذا يعلو جليًا: الفرق البين الواضح، بين الإيمان والكفر، والإسلام والشرك، والطاعة والمعصية، وأحكام كل واحد منهم.
والحاصل: أنَّ من سوَّى بين أصل الإيمان وشُعبه، وأصل الكفر وشُعبه، في الأسماء والأحكام، يكون قد خالف الكتاب والسَّنة وإجماع سلف الأمة، وأحلّ بنفسه البدعة، ودخلها من أوسع أبوابها، مترديًا في أودية هلاكها.