الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
متعلقات الردَّة، مع ذكر أهم أحكامهما
لقد مرق من الإسلام بعض أهله، وذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده، مع استقبالهم للقبلة، وما كانوا عليه من العبادة والزهد والورع.
فإذا كان كذلك، فليعلم: أن المنتسب للإسلام، بل وللسنَّة، في هذه الأزمان، قد يمرق أيضًا من الدين، ويرتد عن الملَّة، بفعل ناقض من نواقض الشهادتين.
والردة قد تتعلق بـ: حق الله سبحانه، أو كتبه، أو أنبيائه، أو ملائكته، أو أحكامه وشريعته وأوامره ونواهيه وأخباره
…
والمسلم إذا وقع في ناقض من نواقض الإسلام، ارتد بذلك ونطقه بالشهادتين، وانتسابه للملة، مع عمله ببعض الشرائع، لا يدرأ عنه: الكفر، والردة، والقتل بعد الاستتابة.
فإذا أتى الشهادة، بحكم العادة، حال ردته وكفره، ولم تخلعه من الكفر الذي حل فيه، فلا يرتفع عنه حكمه، حتى يدخل تائبًا من الباب الذي خرج منه كافرًا.
قطوف من رسالة
الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة
للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى
قال الشيخ بعد أن حمد الله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم:
أما بعد: فهذه فصول وكلمات، نقلتها من كلام العلماء المجتهدين، أصحاب الأئمة الأربعة، الذين هم أئمة أهل السنة والدين، في بيان بعض الأفعال والأقوال المكفِّرة للمسلم، المخرِّجة له من الدين، وأن تلفظه
بالشهادتين، وانتسابه إلى الإسلام، وعمله ببعض شرائع الدين، لا يمنع من تكفيره وقتله، وإلحاقه بالمرتدين
…
فنقول: أما كلام الشافعية: فقال ابن حجر في كتاب «الزواجر عن اقتراف الكبائر» الكبيرة الأولى: الكفر والشرك، أعاذنا الله منه، ولما كان الكفر أعظم الذنوب، كان أحق أن يبسط الكلام عليه وعلى أحكامه، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116]
…
ثم قال: «تنبيهات» منها: بيان الشرك، وذكر جملة من أنواعه، لكثرة وقوعها في الناس، وعلى ألسنة العامة، من غير أن يعلموا أنها كذلك فإذا بانت لهم فلعلهم أن يجتنبوها، لئلا تحبط أعمال مرتكبي ذلك، ويخلدون في أعظم العذاب، وأشد العذاب، ومعرفة ذلك أمر مهم جدًا.
(أخطار الردة):
فإن من ارتكب مكفرًا تحبط جميع أعماله، ويجب عليه قضاء الواجب منها، عند جماعة من أئمة، كأبي حنيفة، ومع ذلك فقد توسَّع أصحابه في المكفِّرات، وعدوا منها جملاً مستكثرة جدًا وبالغوا في ذلك أكثر من بقية أئمة المذاهب، هذا مع قولهم: إن الردة تحبط جميع الأعمال، وبأن من ارتد بانت منه زوجته، وحرمت عليه، فمع هذا التشديد، بالغوا في الاتساع في المكفِّرات؛ فتعين على كل ذي مسكة في دينه: أن يعرف ما قالوه، حتى يجتنبه، ولا يقع فيه فيحبط عمله، ويلزمه قضاؤه، وتبين منه زوجته عند هؤلاء الأئمة ....
فصل: وأما كلام الحنفية، فقال في كتاب تبيين المحارم المذكورة في القرآن، «باب الكفر» ، وهو: الستر وجحود الحق، وإنكاره، وهو أول ما ذكره في القرآن العظيم من المعاصي، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6].
وهو أكبر الكبائر على الإطلاق، فلا كبيرة فوق الكفر - إلى أن قال -.
(أنواع الكفر):
واعلم أنَّ ما يلزم به الكفر أنواع، نوع يتعلَّق بالله سبحانه، ونوع يتعلَّق بالقرآن وسائر الكتب المنزلة، ونوع يتعلق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والملائكة والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام.
فأما: ما يتعلق بالله سبحانه، إذا وصف الله سبحانه بما لا يليق به، بأن شبه الله سبحانه بشيء من المخلوقات أو نفى صفاته، أو قال بالحلول والاتحاد، أو معه قديم غيره، أو معه مدبِّر مستقل غيره، أو اعتقد أنه سبحانه جسم، أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات، أو كفر باسم من أسمائه، أو أمر من أمره، أو وعيده أو وعده، أو أنكرهما، أو سجد لغير الله.
أو سبَّ الله سبحانه، أو ادَّعى أن له ولدًا، أو صاحبة، أو أنه متولد من شيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئًا من خلقه، أو افترى على الله سبحانه وتعالى الكذب، بادعاء الإلهية أو الرسالة، أو نفى أن يكون خالقه ربه، وقال ليس لي ربًا، أو قال لذرة من الذرات: هذه خلقت عبثًا وهملاً، وما أشبه ذلك مما لا يليق به، سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا؛ يكفر في هذه الوجوه كلها بالإجماع، سواء فعله عمدًا أو هزلاً، ويقتل إن أصرَّ على ذلك، وإن تاب تاب الله عليه، وسلم من القتل. انتهى كلامه بحروفه.
فتأمَّل رحمك الله تصريحه بأن من أشرك في عبادة الله غيره، أنه يكفر بالإجماع، ويقتل إن أصرَّ على ذلك ....
فصل: وأما كلام الحنابلة، فقال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل:
لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع، إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذا لم يدخلوا بها تحت أمر
غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداءً بمن عبد اللات والعزى. انتهى كلامه.
فتأمل قوله: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، وتشبيهه إياهم بمن عبد اللات والعزى.
وقال الشيخ تقي الدين في الرسالة السنية، لما ذكر حديث الخوارج، ومروقهم من الدين، وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قال: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام، من مرق منه من عبادته العظيمة، فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان، قد يمرق أيضًا من الإسلام، وذلك بأسباب، منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ
…
} الآية [النساء: 171] ....
وقال رحمه الله تعالى - أي شيخ الإسلام، في الكلام على قوله تعالى:
{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} [البقرة: 173]. ظاهرة: أنه ما ذبح لغير الله، سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقرِّبين به إلى الله، كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة له، والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفرًا من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربًا إليه لحرم، وإن قال فيه باسم الله، كما قال فعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
فتأمل رحمك الله هذا الكلام، وتصريحه فيه: بأن من ذبح لغير الله من
هذه الأمة، فهو كافر مرتد، لا تباح ذبيحته، لأنه يجتمع فيها مانعان.
الأول: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع.
الثاني: أنها مما أهل به لغير الله، وقد حرَّم الله ذلك في قوله:{قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [الأنعام: 145].
وتأمل قوله: ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. والله أعلم ....
(حكم ساب النبي صلى الله عليه وسلم)
وقال الشيخ رحمه الله تعالى في كتاب «الصارم المسلول على شاتم الرسول» : قال الإمام إسحاق بن راهويه، أحد الأئمة، يعدل بالشافعي وأحمد: أجمع المسلمون: أن من سبَّ الله أو رسوله، أو دفع شيئًا مما أنزل الله، أنه كافر بذلك، وإن كان مقرًا بكل ما أنزل الله.
وقال محمد بن سحنون - أحد الأئمة من أصحاب مالك - أجمع العلماء على أن شاتم الرسول كافر، وحكمه عند الأئمة القتل، ومن شك في كفره كفر، قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن: على من سبه القتل.
وقال الإمام أحمد فيمن سبَّه يقتل، قيل له: فيه أحاديث؟ قال: نعم، منها: حديث الأعمى الذي قتل المرأة، وقول ابن عمر: من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل، وعمر بن عبد العزيز يقول: يقتل، وقال في رواية عبد الله: لا يستتاب، فإن خالد بن الوليد قتل رجلاً شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستتبه. انتهى.
فتأمل رحمك الله: كلام إسحاق بن راهويه، ونقله الإجماع على أن من سبَّ الله، أو سبَّ رسوله، أو دفع شيئًا مما أنزل الله أنه كافر، وإن كان مقرًا بكل ما أنزل الله، يتبين لك: أن من تلفظ بلسانه بسبِّ الله تعالى، أو سبِّ
رسوله فهو كافر مرتد عن الإسلام، وإن أقر بجميع ما أنزل الله، وإن كان هازلاً بذلك لم يقصد معناه بقلبه، كما قال الشافعي: من هزل بشيء من آيات الله فهو كافر، فكيف بمن هزل بسبِّ الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم؟
ولهذا قال الشيخ تقي الدين: قال أصحابنا وغيرهم، من سبَّ الله تعالى كفر، مازحًا أو جادًا، لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
…
} [التوبة: 65، 66]. قال: وهذا هو الصواب المقطوع به. انتهى.
ومعنى قول إسحاق رحمه الله تعالى: أو دفع شيئًا مما أنزل الله، أن يدفع أو يرد شيئًا مما أنزل الله في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الفرائض، أو الواجبات، أو المسنونات، أو المستحبات، بعد أن يعرف أن الله أنزله في كتابه، أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، أو نهى عنه، ثم دفعه بعد ذلك، فهو كافر مرتد، وإن كان مقرًا بكل ما أنزل الله في كتابه من الشرع، إلَاّ ما دفعه وأنكره، لمخالفته لهواه أو عادته، أو عادة أهل بلده، وهذا معنى قول العلماء: من أنكر فرعًا مجمعًا عليه كفر، فإذا كان من أنكر النهي عن الأكل بالشمال، أو النهي عن إسبال الثياب، بعد معرفته أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فهو كافر مرتد، ولو كان من أعبد الناس وأزهدهم ....
فصل: قال في الإقناع وشرحه «باب حكم المرتد» ، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، نطقًا، أو شكًا، أو فعلاً، ولو مميزًا، فتصح ردته كإسلامه، لا مكرهًا، لقوله:{إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، ولو هازلاً، لعموم قوله تعالى:{مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} [المائدة: 54]، وأجمعوا على وجوب قتل المرتد؛ فمن أشرك بالله تعالى، كفر بعد إسلامه، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}
[النساء: 116].
أو جحد ربوبيته، أو جحد صفة من صفاته، أو اتخذ له صاحبة أو ولدًا كفر، أو ادَّعى النبوة، أو صدَّق من ادَّعاها بعد النبي صلى الله عليه وسلم كفر، لأنه مكذِّب لقوله تعالى:{وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، أو جحد نبيًا، أو كتابًا من كتب الله، أو شيئًا منه، أو جحد الملائكة، أو واحدًا ممن ثبت أنه ملك كفر، لتكذيبه القرآن، أو جحد البعث كفر، أو سبَّ الله ورسوله كفر، أو استهزأ بالله أو كتبه، أو ورسله، لقوله:{قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ} [التوبة: 65].
قال الشيخ: أو كان مبغضًا لرسوله، أو لما جاء به اتفاقًا، أو جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم، كفر إجماعًا، لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام، قائلين:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
أو أتى بقول، أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين، الذي شرعه الله، كفر، للآية السابقة، أو وجد منه امتهان للقرآن، كفر.
وإن أتى بقول يخرجه عن الإسلام، مثل أن يقول: هو يهودي، أو نصراني، فهو كافر، أو سخر بوعد الله، أو وعيده، فهو كافر، لأنه كالاستهزاء بالله، أو لم يكفر من دان بغير الإسلام أو شك في كفرهم - إلى أن قال - ومن قال: أنا محتاج إلى محمد، في علم الظاهر، دون علم الباطن، أو قال: من الأولياء من يسعه الخروج عن الشريعة، كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى، فهو كافر.
ومن سبَّ الصحابة رضي الله عنهم، أو واحدًا منهم، واقترن بسبِّه دعوى أن عليًا إله، وأن جبرائيل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره، وأما من لعن، أو قبَّح مطلقًا، فهذا محل الخلاف، توقف أحمد في تكفيره وقتله» (1).
(1)«الدرر السنية» : (10/ 149 - 239).