الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
أشهر شبهات أهل القبور، والرد الباهر عليها
لقد ظن المشركون في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا قبري عيدًا» ، أن المراد: اقصدوه في كل ساعة ووقت، ولا تجعلوه كالعيد الذي، يكون من الحول إلى الحول.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرحه على كتاب التوحيد:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» رواه أبو داود بإسناد حسن. رواته ثقات.
قوله: «ولا تجعلوا قبري عيدًا» ، قال شيخ الإسلام: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائدًا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع، أو الشهر، ونحو ذلك، وتقدم ذلك.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: العبد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإن كان اسمًا للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة، أو لغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدًا للحنفاء ومثابة، كما جعل أيام العيد فيها عيدًا، وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوَّض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى، كما عوَّضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر.
وقال غيره: هذا أمر بملازمة قبره والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه،
ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين، فكأنه قال: لا تجعلوه كالعيد الذي يكون من الحول إلى الحول، واقصدوه كل ساعة وكل وقت.
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا مراغمة ومحادَّة ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلب للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التلبيس والتدليس بعد التناقض، فقاتل الله أهل الباطل أن يؤفكون.
ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر وملازمته وكثرة انتيابه بقوله: لا تجعلوا عيدًا، فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان، وهكذا غيرت أديان الرسل، ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابِّين عنه، لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله، ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلَاّل لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ويلعن فاعل ذلك، فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها، وأن يعتاد قصدها وانتيابها، ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول؟ وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يُعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك؟ «ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدًا» ، وكيف يقول:«لا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ حيثما كنتم؟» .
وكيف لا يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك، ما فهمه هؤلاء الضلال، الذين جمعوا بين الشرك والتحريف؟! وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما، نهى ذلك الرجل أن يتحرَّى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل بالحديث وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي رضي الله عنهما، وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال، وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدًا. انتهى ....
قال شيخ الإسلام: ما علمت أحدًا، أي: من علماء السلف رخَّص فيه، - أي: قصد الرجل القبر لأجل السلام - لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدًا، ويدل أيضًا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه، لأن ذلك من اتخاذه عيدًا، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك. قال: ولن يصلح آخر هذه الأمة إلَاّ ما أصلح أولها، بل كان الصحابة والتابعون يأتون إلى مسجده صلى الله عليه وسلم فيصلون خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنه، ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا، أو خرجوا، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل ....
والمقصود أن الصحابة ما كانوا يعتادون الصلاة والسَّلام عليه عند قبره، كما يفعله من بعدهم من الخلوف، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه، إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر رضي الله عنه يفعل.
قال عبيد الله بن عمر عن نافع: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه، ثم ينصرف.
قال عبيد الله: ما نعلم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلَاّ ابن عمر. وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير. قال شيخ الإسلام: إن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة، فكان بدعة محضة (1). وفي «المبسوط» قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليسلم ويمضي.
والحكاية التي رواها القاضي عياض بإسناده عن مالك في قصته مع
(1) انظر لنص الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى لهذه المسألة في الصفحة القادمة.
المنصور، وأنه قال لمالك: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك، ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك. فهذه الرواية ضعيفة، أو موضوعة لأن في إسنادها من يتهم محمد بن حميد، ومن يجهل حاله.
ونص أحمد أنه يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، لئلا يستدبره وذلك بعد تحيته والسلام عليه، فظاهر هذا أنه يقف للدعاء بعد السلام. وذكر أصحاب مالك أنه يدعو مستقبلاً القبلة يوليه ظهره.
وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وتنازعوا هل يستقبله عند السلام أم لا؟ ومن الحجة في ذلك ما روى ابن زبالة وهو في «أخبار المدينة» عن عمر بن هارون، عن سلمة بن وردان - وهما ساقطان - قال: رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو.
(تحريم شد الرحال إلى القبور، لأنه من أعظم أسباب الشرك بها، وبأصحابها)
وفي الحديث (1) دليل على منع شد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم، وإلى غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها أعيادًا، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، كما وقع من عبَّاد القبور الذين يشدون إليها الرحال، وينفقون في ذلك الكثير من الأموال، وليس لهم مقصود إلَاّ مجرد الزيارة للقبور تبركًا بتلك القباب والجدران فوقعوا في الشرك.
هذه المسألة التي أفتى فيها شيخ الإسلام، أعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ومشاهدهم، ونقل فيها اختلاف العلماء في الإباحة
(1) أي: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا قبري عيدًا» .
والمنع، فمن مبيح لذلك كأبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي، ومن منع لذلك كابن بطة وابن عقيل وأبي محمد الجويني والقاضي عياض، وهو قول الجمهور نص عليه مالك، ولم يكن يخالفه أحد من الأئمة وهو الصواب. فقام عليه بعض المعاصرين له كالسبكي ونحوه فنسبه إلى إنكار الزيارة مطلقًا وهو لم ينكر منها إلَاّ ما كان بشد رحل، كما أنكره جمهور العلماء قبله أو الزيارة التي يكون فيها دعاء الأموات، والاستغاثة بهم في الملمات، مع ما ينضم إلى ذلك من أنواع المنكرات.
ومما يدل على النهي عن شد الرحل إلى القبور ونحوها، ما أخرجاه في «الصحيحين» عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تشد الرحال إلَاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» ، فدخل في ذلك شدهما لزيارة القبور والمشاهد، فإما أن يكون نهيًا، وإما أن يكون نفيًا للاستحباب. وقد جاء في رواية في «الصحيح» بصيغة النهي صريحًا فتعين أن يكون للنهي.
ولهذا فهم منه الصحابة المنع، كما في «الموطأ» و «السنن» عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تُعمل المطي إلَاّ إلى صلاة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» .
وروى الإمام أحمد، وعمر بن شبة في «أخبار المدينة» بإسناد جيد عن قزعة قال: أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور. فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور فلا تأته.
وروى أحمد وعمر بن شبة أيضًا، عن شهر بن حوشب قال: سمعت
أبا سعيد وذكر عنده الصلاة في الطور، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» ، فأبو سعيد جعل الطور مما نهي عن شد الرحال إليه، مع أن اللفظ الذي ذكر إنما فيه النهي عن شدها إلى المساجد، فدل على أنه علم أنه غير المساجد أولى بالنهي، والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة، وأن الله تعالى سماه الوادي المقدس والبقعة المباركة، وكلَّم الله موسى هناك» (1).
* * *
* لقد ظن عبَّاد القبور: جواز التوجه إلى الله بالأموات قياسًا على جواز التوجه إليه سبحانه بدعاء الأحياء، ثم جعلوا ذلك سُلَّمًا إلى عبادة الأموات، وإلى الشرك والتنديد بربِّ الأرض والسموات.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله في شرحه على كتاب التوحيد:
«ولكن لعباد القبور على هذا (2) شبهات، ذكر المصنف كثيرًا منها في «كشف الشبهات» ونحن نذكر هنا ما لم يذكره.
فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه الترمذي في «جامعه» حيث قال: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا عثمان بن عمرو، ثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال:«إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك» قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني
(1)«تيسير العزيز الحميد» : (ص 236 - 243).
(2)
أي على جواز دعاء الأموات، فيما لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسموات.
توجهت به إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفِّعه فيَّ»، قال: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلَاّ من رواية أبي جعفر، وهو غير الخطمي، هكذا رواه الترمذي، ورواه النسائي، وابن شاهين، والبيهقي كذلك، وفي بعض الروايات «يا محمد إني أتوجه» إلى آخره.
وهذه اللفظة هي التي تعلق بها المشركون، وليست عند هؤلاء الأئمة. قالوا: فلو كان دعاء غير الله شركًا لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء غير الله.
والجواب من وجوه:
الأول: أن هذا الحديث من أصله، وإن صححه الترمذي، فإن في ثبوته نظرًا، لأن الترمذي يتساهل في التصحيح كالحاكم، لكن الترمذي أحسن نقدًا، كما نصّ على ذلك الأئمة، ووجه عدم ثبوته أنه قد نص: أنَّ أبا جعفر الذي عليه مدار هذا الحديث هو غير الخطمي، وإذا كان غيره، فهو لا يعرف، ولعل عمدة الترمذي في تصحيحه أن شعبة لا يروي إلَاّ عن ثقة، وهذا فيه نظر، فقد قال عاصم بن علي: سمعت شعبة يقول: لو لم أحدثكم إلَاّ عن ثقة لم أحدثكم إلَاّ عن ثلاثة، وفي نسخة عن ثلاثين، ذكره الحافظ العراقي، وهذا اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره فينظر في حاله، ويتوقف الاحتجاج به على ثبوت صحته.
الثاني: أنه في غير محل النزاع، فأين طلب الأعمى من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، وتوجهه بدعائه مع حضوره، من دعاء الأموات والسجود لهم ولقبورهم، والتوكل عليهم، والالتجاء إليه في الشدائد والنذر والذبح لهم، وخطابهم بالحوائج من الأمكنة البعيدة: يا سيدي يا مولاي افعل بي كذا؟!
فحديث الأعمى شيء، ودعاء غير الله تعالى والاستغاثة به شيء آخر،
فليس في حديث الأعمى شيء غير أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، ويشفع له، فهو توسل بدعائه وشفاعته، ولهذا قال في آخره:«اللهم فشفعه فيَّ» فعلم أنه شفع له.
وفي رواية أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فدل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم شفع له بدعائه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو الله ويسأله قبول شفاعته، فهذا من أعظم الأدلة على أن دعاء غير الله شرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأل قبول شفاعته، فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعى، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يقدر على شفائه إلَاّ بدعاء الله له.
فأين هذا من تلك الطوام؟ والكلام إنما هو في سؤال الغائب، أو سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلَاّ الله، أما أن تأتي شخصًا يخاطبك فتسأله أن يدعو لك، فلا إنكار في ذلك، على ما في حديث الأعمى، فالحديث سواء كان صحيحًا أو لا، وسواء ثبت قوله فيه:(يا محمد) أو لا، لا يدل على سؤال الغائب، ولا على سؤال المخلوق، فيما لا يقدر عليه إلا الله بوجه من وجوه الدلالات. ومن ادعى ذلك، فهو مفتر على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه إن كان سأل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فهو لم يسأل منه إلَاّ ما يقدر عليه، وهو أن يدعو له، وهذا لا إنكار فيه وإن كان توجه به من غير سؤال منه نفسه، فهو لم يسأل منه، وإنما سأل من الله به، سواء كان متوجهًا بدعائه، كما هو نص أول الحديث وهو الصحيح، أو كان متوجهًا بذاته على قول ضعيف.
(التوجه إلى الخالق بذوات المخلوقين بدعة منكرة، وأجنبية عن الشريعة وفهم حامليها)
فإن التوجه بذوات المخلوقين، والإقسام بهم على الله بدعة منكرة، لم تأت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، ولا
الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة الدين.
قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلَاّ به، وقال أبو يوسف: أكره بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام، وقال القدوري: المسألة بحق المخلوق لا تجوز، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو أنبيائك، ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، واختاره العز بن عبد السلام، إلَاّ في حق النبي صلى الله عليه وسلم خاصة إن ثبت الحديث، يشير إلى حديث الأعمى، وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إلَاّ أنه توسل بدعائه لا بذاته» (1).
* * *
* لقد جزم عباد القبور بالتجربة العملية المعتادة، وبأخبار شيعتهم المتواترة: بأن الدعاء عند القبور هو الدواء الشافي لكافة الأدواء الدنيوية والأخروية.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن - رحمهما الله تعالى - نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -:
«ثم أورد (2) سؤالاً يورده من يتبرك بالدعاء عند القبور، ويرى فضله. قال فإن قيل: فقد نقل عن بعضهم أنه قال: قبر معروف الترياق المجرب.
ويروى عن معروف أنه أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره. وذكر أبو علي الخرقي في قصص من هجره أحمد: أن بعض هؤلاء المهجورين كان يجيء إلى قبر أحمد، ويتوخى الدعاء عنده، وأظنه ذكر ذلك عن المروزي، ونقل عن جماعات أنهم دعوا عند قبور جماعات من الأنبياء والصالحين، من أهل
البيت وغيرهم، فاستجيب لهم الدعاء، وعلى هذا عمل كثير من الناس
…
وإنما ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق العلم والدين، لأنه غاية ما يتمسَّك به القبوريون.
ثم أجاب عن هذا السؤال بقوله: قلنا الذي ذكرنا كراهته، لا ينقل في استحبابه شيء ثابت عن القرون الثلاثة، التي أثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليها حيث قال:«خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ، مع شدة المقتضى فيهم لذلك، لو كان فيه فضيلة، فعد أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة المقتضى لو كان فيه فضل يوجب القطع بأن لا فضل فيه، وأما من بعد هؤلاء فأكثر ما يفرض أن الأمة اختلفت، فصار كثير من العلماء إلى فعل ذلك، وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك، فإنه لا يمكن أن يقال: قد اجتمعت الأمة على استحباب ذلك، لوجهين:
أحدهما: أن كثيرًا من الأمة كره ذلك وأنكره قديمًا وحديثًا.
الثاني: أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحباب فعل، لو كان حسنًا لفعله المتقدِّمون، ولم يفعلوه، فإن هذا من باب تناقض الإجماعات، وهي لا تتناقض. وإذا اختلف فيه المتأخرون، فالفاصل بينهم هو الكتاب، أو السنة، وإجماع المتقدمين، نصًا واستنباطًا، فكيف والحمد لله، لم ينقل هذا عن إمام معروف ولا عالم متبع؟
بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذبًا على صاحبه، مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي رحمه الله أنه قال:«إني إذا نزلت بين شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة، فأجاب» أو كلامًا هذا معناه.
وهذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار، عند من له معرفة بالنقل، فإن الشافعي لما قدم بغداد، لم يكن ببغداد لأبي حنيفة، ولا غيره قبر ينتاب
للدعاء عنده البتة، بل ولم يكن هذا معروفًا على عهد الشافعي، وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والعراق والشام ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين، من كان أصحابها عنده، وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء، فما باله لم يتوخ الدعاء إلَاّ عند أبي حنيفة؟
ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل: أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وطبقتهم، لم يكونوا يتحرُّون الدعاء عند قبر أبي حنيفة ولا غيره. ثم قد تقدم عن الشافعي، ما هو ثابت في كتابه، من كراهة تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها، وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه» (1).
* * *
* لقد اعتقد كثير من المشركين: بأن الذي يملك النفع والضر هو الله، وظنوا أن هذا هو لب التوحيد، ومن ثم جعلوا بينهم وبين الله وسائط في عبادته، ليقربوهم إليه زلفى - بزعم أن هذا لا ينقض التوحيد -، وفرقوا في هذا المقام بين التوجه إلى الله بالأصنام والأحجار، والتوجه بالأنبياء والأولياء والصالحين، وبهذا ترسخ الشرك في قلوبهم، وعضُّوا عليه بالنواجذ.
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى في إبطال هذا الإفك:
«فلا إله إلَاّ الله، نفي، وإثبات الإلهية كلها لله. فمن قصد شيئًا من قبر، أو شجر، أو نجم، أو ملك مقرب، أو نبي مرسل، لجلب نفع، وكشف ضر، فقد اتخذه إلهًا من دون الله، مكذب بلا إله إلَاّ الله، يستتاب، فإن تاب وإلَاّ قتل.
فإن قال هذا المشرك: لم أقصد إلَاّ التبرك، وإني لأعلم أن الله هو الذي ينفع ويضر، فقل له: إن بني إسرائيل ما أرادوا إلَاّ ما أردت كما أخبر الله عنهم أنهم لما جاوزوا البحر: {فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا
(1)«راجع منهاج التأسيس والتقديس» : (ص 148 - 160).
مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، فأجابهم بقوله:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138].
وحديث أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] لتركبن سنن من كان قبلكم» .
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، وفي الصحيح عن ابن عباس وغيره: كان يلت السويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره.
فيرجع هذا المشرك، يقول: هذا في الشجر، والحجر، وأنا اعتقد في أناس صالحين، أنبياء وأولياء، أريد منهم الشفاعة عند الله، كما يشفع ذو الحاجة عند الملوك، وأريد منهم القربة إلى الله، فقل له: هذا دين الكفار بعينه، كما أخبر سبحانه بقوله:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقوله:{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس: 18].
وقد ذكر أناسًا يعبدون المسيح وعزيرًا، فقال الله: هؤلاء عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجونها، ويخافون عذابي كما تخافونه، وأنزل الله سبحانه:{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً} [الإسراء: 56]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ
…
} الآيتين [سبأ: 40، 41].
والقرآن، بل والكتب السماوية من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا
الدين، وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسوله، وأنهم أولياء الشيطان، وأنه سبحانه لا يغفر لهم، ولا يقبل عملاً منهم، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]، وقال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]، وقال تعالى:{فَلَا تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22].
قال ابن مسعود وابن عباس: لا تجعلوا له أكْفاء من الرجال، تطيعونهم في معصية الله، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال:«أجعلتني لله ندًا؟ قل: ما شاء الله وحده» ، وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر» ، فسئل عنه فقال:«الرياء» .
وبالجملة: فأكثر أهل الأرض، مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان، ولم يتخلص من ذلك إلَاّ الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وعبادتها في الأرض من قبل قوم نوح كما ذكر الله، وهي كلها، ووقوفها، وسدانتها، وحجابتها، والكتب المصنفة في شرائع عبادتها، طبق الأرض، قال إمام الحنفاء:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وقد قصَّ الله ذلك عنهم في القرآن، وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين» (1).
* * *
* وأخيرًا لا آخرًا: قررَّ المشركون أن دينهم قائم على أصل أصيل، وركن ركين، ألا وهو إجماع المسلمين، فالعلماء - بزعمهم - من كافة الأمصار، والأمة من ورائهم تبع - قد استحسنوا دعاء الأموات، ولم يرونه شركًا ولا بدعة، بل ولا منكرًا من القول!!!
(1)«الدرر السنية» : (2/ 87 - 89).
وها هو الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين نراه يهدم هذا الأصل الذي ليس أصيلاً، والركن غير الركين، فقد سئل - رحمه الله تعالى - سؤالاً جاء فيه:
قال السائل: إن قال قائل، تقرُّون: أن إجماع الأمة حجة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، وأنتم قد خالفتم جميع العلماء، من أهل الأمصار قاطبة، وادعيتم ما لم يدعه غيركم، وأنكرتم ما لم ينكر في جميع الأرض، وافتريتم أمرًا أنكرته جميع علماء الأمة، والإشارة هنا إلى التوحيد، وما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتكفير من أشرك بالله في ألوهيته عند المشاهد وغيرها، فما الجواب لذلك؟
فأجاب قدس الله روحه: أما دعوى هذا المبطل إجماع العلماء، على جواز دعاء أهل القبور والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم بالنذور، والذبائح، فهذا كذب ظاهر، وشبهته: أن هذه الأمور ظاهرة في جميع الأمصار، ولم يسمعوا أن عالمًا أنكره، فيقال بل: أنكره كثير من علماء هذا الزمان، ووافق عليه خواص من علماء الحرمين واليمن، وسمعنا منهم مشافهة، ولكن الشوكة لغيرهم. وصنَّف فيه جماعة. كالنعمي من أهل اليمن، له مصنف في ذلك حسن، وكذلك الشوكاني، ومحمد بن إسماعيل، وغيرهم، ورأيت مصنفًا لعالم من أهل جبل سليمان في إنكار ذلك، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» ، وليس المراد الظهور بالسيف، بل الحجة دائمًا وبالسيف أحيانًا.
ولو قال هذا المجادل: إن أكثر الناس على ما يرى، لكان صادقًا، وهذا مصداق الحديث:«بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ» .
وأيضًا: فالبناء على القبور وإسراجها وتجصيصها: ظاهر غالب في
الأمصار التي نعرف، مع أن النهي عن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنصوص على النهي في جميع المذاهب، فهل يمكن هذا المبطل، أن يقول: إن الأمة مجمعة على جواز ذلك لكونه ظاهرًا في الأمصار؟ والله سبحانه إنما افترض علي الخلق طاعته، وطاعة رسوله، وأمرهم أن يردوا إلى كتابه وسنَّة رسوله، ما تنازعوا فيه، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد والرسالة.
فإذا عرف: أن الشرك عبادة غير الله، وعرف معنى العبادة، وعلم كل قول وعمل يحبه الله ويرضاه، ومن أعظم ذلك الدعاء، لأنه مخ العبادة، وعلم ما يفعل عند القبور، من دعاء أصحابها بسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، عرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي هو عبادة غير الله تعالى، فإذا تحقق الإنسان ذلك، عرف الحق، ولم يبال بمخالفة أكثر الناس، ويعتقد أن الأمة لا تجتمع على ذلك، لأنه ضلالة.
فإن قال هذا المجادل: إن هذه الأفعال التي تفعل عند القبور، وعلي القبور جائزة شرعًا، فهو محادٌّ لله ولرسوله، وإن قال: هذه الأمور لا تجوز، لكنها ليست شركًا، مع دعواه أن علماء الزمان أجمعوا على ذلك، فيلزمه أن الأمة أجمعت على ضلالة، والإنسان إذا تبيَّن له الحق، لم يستوحش من قلة الموافقين وكثرة المخالفين، لا سيما في آخر هذا الزمان.
وقول الجاهل: لو كان هذا حقًا ما خفي على فلان وفلان، هذه دعوى الكفار، في قولهم:{لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]، {أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]، وقد قال علي رضي الله عنه: اعرف الحق تعرف أهله.
وأما الذي في حَيرة ولبس، فكل شبهة تروج عليه، فلو كان أكثر الناس اليوم على الحق، لم يكن الإسلام غريبًا، وهو والله اليوم في غاية الغربة» (1).
(1)«الدرر السنية» : (10/ 398 - 401).