الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس
الأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على ثبوت وصف الشرك وحكمه لمن وقع في عبادة غير الله، وإن كان جاهلاً أو متأولاً ولم تقم عليه حجة البلاغ
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة، يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل بمعناها، فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها، وهو يظن أنها تقرِّبه إلى الله.
خصوصًا: إن ألهمك الله ما قصَّ عن قوم موسى، مع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين:{اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138].
فحينئذٍ: يعظم خوفك، وحرصك على ما يخلصك من هذا أو أمثاله» (1).
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين رحمه الله تعالى:
(1)«الدرر السنية» : (1/ 71).
(2)
«عقيدة الموحدين» ، رسالة الانتصار لحزب الله الموحِّدين:(ص 11).
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين أيضًا رحمه الله:
«ومما يبيِّن أن الجهل ليس بعذر في الجملة، قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج ما قال، مع عبادتهم العظيمة. ومن المعلوم: أنه لم يوقعهم ما وقعوا فيه إلَاّ الجهل، وهل صار الجهل عذرًا لهم؟
يوضح ما ذكرنا: أن العلماء من كل مذهب، يذكرون في كتب الفقه: باب حكم «المرتد» وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه.
وأول شيء يبدأون به من أنواع الكفر: الشرك، يقولون: من اشرك بالله كفر، لأن الشرك عندهم أعظم أنواع الكفر، ولم يقولوا إن كان مثله لا يجهله، كما قالوا فيما دونه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الذنب أعظم إثمًا عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» ، فلو كان الجاهل أو المقلد، غير محكوم بردَّته إذا فعل الشرك، لم يغفلوه، وهذا ظاهر.
(الأدلة على عدم الإعذار بالجهل في الشرك الأكبر)
وقد وصف الله سبحانه أهل النار بالجهل، كقوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
وقال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104].
وقال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].
قال ابن جرير (1) - عند تفسير هذه الآية - وهذا يدل على أن الجاهل غير معذور.
ومن المعلوم: أن أهل البدع الذين كفَّرهم السلف والعلماء بعدهم، أهل علم وعبادة وفهم وزهد. ولم يوقعهم فيما ارتكبوه إلَاّ الجهل. والذين حرَّقهم علي بن أبي طالب بالنار، هل أفنهم إلَاّ الجهل؟ ولو قال إنسان: أنا أشك في البعث بعد الموت، لم يتوقف من له أدنى معرفة في كفره، والشاك جاهل، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32].
وقد قال الله تعالى عن النصارى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم: ما عبدناهم، قال صلى الله عليه وسلم:«أليس يحلُّون ما حرم الله فتحلُّونه؟ ويحرِّمونه ما أحل الله فتحرِّمونه؟» قال: بلى، قال:«فتلك عبادتهم» فذمهم الله سبحانه، وسمَّاهم مشركين، مع كونهم لم يعلموا أن فعلهم معهم هذا عبادة لهم، فلم يعذروا بالجهل.
ولو قال إنسان عن الرافضة في هذا الزمان: إنهم معذورون في سبِّهم الشيخين وعائشة، لأنهم جهال مقلِّدون، لأنكر عليه الخاص والعام، وما
(1) نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله في هذه الآية عن الإمام ابن جرير الطبري قوله وأقره عليه: «وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم: أن الله لا يعذب أحدًا على معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلاّ أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها، لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل، وهو يحسب أنه هاد، وفريق الهدى، فرق. وقد فرَّق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية» ، وقال الإمام البغوي فيها:«وفيه دليل على أن الكافر، الذي يظن أنه في دينه على الحق، والجااحد، والمعاند، سواء» .
تقدم من حكاية شيخ الإسلام رحمه الله، إجماع المسلمين على: أن من جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، أنه كافر مشرك، يتناول الجاهل وغيره.
(الشرك التعبدي لا يقع إلَاّ مع الجهل)
لأنه من المعلوم: أنه إذا كان إنسان يقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالقرآن، ويسمع ما ذكر الله سبحانه في كتابه، من تعظيم أمر الشرك، بأنه لا يغفره، وأن صاحبه مخلد في النار، ثم يقدم عليه وهو يعرف أنه شرك، هذا مما لا يفعله عاقل، وإنما يقع فيه من جهل أنه شرك، وقد قدمنا كلام ابن عقيل في جزمه بكفر الذين وصفهم بالجهل فيما ارتكبوه، من الغلو في القبور، نقله عنه ابن القيم مستحسنًا له.
والقرآن يرد على من قال: إن المقلد في الشرك معذور، فقد افترى وكذب على الله، وقد قال الله تعالى عن المقلدين من أهل النار:{إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67]. وقال سبحانه حاكيًا عن الكفار قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. وفي الآية الأخرى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].
واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها، على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد، والرسالة، وأصول الدين، وأن فرضًا على كل مكلف أن يعرف التوحيد بدليله، وكذلك الرسالة، وسائر أصول الدين، لأن أدلة هذه الأصول ظاهرة ولله الحمد، لا يختص بمعرفتها العلماء» (1).
وقال أيضًا رحمه الله تعالى:
«أجمع العلماء: على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد والرسالة» (2).
(1)«الدرر السنية» : (10/ 391 - 394).
(2)
«الدرر السنية» : (10/ 399 - 400).
وقال أيضًا رحمه الله مبيِّنًا الفرق بين أهل السنة والمعنزلة في صحة الإيمان المقلِّد:
«وفرض على كل أحد: معرفة التوحيد، وأركان الإسلام بالدليل.
ولا يجوز التقليد في ذلك، لكن العامي الذي لا يعرف الأدلة إذا كان يعتقد وحدانية الرب سبحانه، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بالبعث بعد الموت، وبالجنة والنار، وأن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند هذه المشاهد، باطلة وضلال، فإذا كان يعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا لا شك فيه، فهو مسلم وإن لم يترجم بالدليل، لأن عامة المسلمين ولو لقنوا الدليل، فإنهم لا يفهمون المعنى غالبًا.
ذكر النووي في شرح مسلم، في الكلام على حديث ضمام بن ثعلبة، قال: قال أبو عمرو بن الصلاح، فيه دلالة لما ذهب إليه أئمة العلماء، من أن العوام المقلدين مؤمنون، وأنه يكتفى منهم بمجرد اعتقاد الحق، جزمًا من غير شك وتزلزل، خلافًا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قرَّر ضمام (1)
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: «جاء رجل من أهل البداية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أن الله أرسلك. قال صدق، قال: فمن خلق السماء قال: الله، قال فمن خلق الأرض؟ قال: الله. قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل، قال: الله، قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال: صدق. قال: فبالذي أرسلك أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال: صدق، قال: ثم ولَّى. قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لئن صدق ليدخلن الجنة» .
قال الإمام النووي رحمه الله: «اعلم أن هذا الرجل الذي جاء من أهل البادية، اسمه: ضمام بن ثعلبة بكسر الضاد المعجمة، كذا جاء مسمَّى في رواية البخاري وغيره» .
صحيح مسلم بشرح النووي: 1/ 169 - 171، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1347 هـ - 1929 م.
على ما اعتمد عليه في معرفة رسالته، وصدقه، ومجرد إخباره إياه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك، ولا قال يجب عليك النظر في معجزاتي، والاستدلال بالأدلة القطعية. انتهى» (1).
ولقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى نواقض الإسلام العشرة، ونص على استواء حكم الجاد والهازل والخائف حال الوقوع فيها إلَاّ المكره، ولم يستثن غيره، مثل الجاهل، أو المتأوِّل، أو المخطئ
…
فقال رحمه الله تعالى بعد ذكره لها: «ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلَاّ المكره.
وبما أنها من أعظم ما يكون خطرًا، وأكثر ما يكون وقوعًا فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلَّى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم» (2).
وقال الشيخ سليمان بن سحمان:
إن الشرك الأكبر من عبادة غير الله، وصرفها لمن اشركوا به مع الله، من الأنبياء والأولياء والصالحين، فإن هذا لا يعذر أحد في الجهل به، بل معرفته والإيمان به من ضروريات الإسلام (3). اهـ.
(1)«الدرر السنية» : (10/ 409).
(2)
«عقيدة الموحدين» : (ص 456، 457). من أراد مراجعة النواقض العشرة، فسوف نذكرها مفصلة - إن شاء الله - في الفصل الثامن «نواقض الإسلام، وأحكام الردة والمرتدين» من الباب الثالث.
(3)
«كشف الشبهتين» : (ص 63، 64).