الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَ الدَّابَّةَ وَنَفَقَتْ عِنْدَهُ. وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا إِلَيْهِ وَأَنَّهَا نَفَقَتْ عِنْدَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ شُهُودَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَال، لِمَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِالْغَصْبِ وَمَا عَلِمُوا بِالرَّدِّ، فَبَنَوُا الأَْمْرَ عَلَى ظَاهِرِ بَقَاءِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إِلَى وَقْتِ الْهَلَاكِ، وَشُهُودُ الْغَاصِبِ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ بِالرَّدِّ حَقِيقَةَ الأَْمْرِ وَهُوَ الرَّدُّ؛ لأَِنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ، فَكَانَتِ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الرَّدِّ أَوْلَى.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ. (1)
وَرَأَى الْمَالِكِيَّةُ مَا رَآهُ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنِ اخْتَلَفَ الْغَاصِبُ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ فِي دَعْوَى تَلَفِ الْمَغْصُوبِ، أَوْ فِي جِنْسِهِ، أَوْ صِفَتِهِ، أَوْ قَدْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ الْقَوْل قَوْل الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ إِنْ أَشْبَهَ فِي دَعْوَاهُ، سَوَاءٌ أَشْبَهَ رَبَّهُ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ قَوْل الْغَاصِبِ لَمْ يُشْبِهْ فَالْقَوْل لِرَبِّهِ بِيَمِينِهِ. (2)
(1) البدائع 7 / 163 وما بعدها، تكملة الفتح 7 / 387، اللباب مع الكتاب 2 / 194.
(2)
الشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 456، الشرح الصغير 3 / 601، 602 وما بعدها، القوانين الفقهية ص331.
ضَمَانُ الْمَغْصُوبِ إِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْغَاصِبُ أَوْ غُصِبَ مِنْهُ:
29 -
قَدْ يَتَصَرَّفُ الْغَاصِبُ فِي الْمَغْصُوبِ بِالْبَيْعِ أَوِ الرَّهْنِ أَوِ الإِْجَارَةِ أَوِ الإِْعَارَةِ أَوِ الْهِبَةِ أَوِ الإِْيدَاعِ، عِلْمًا بِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ حَرَامٌ، فَيَهْلَكُ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْمُتَصَرِّفِ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَحْدُثُ تَكْرَارُ الْغَصْبِ، فَيَغْصِبُ الشَّيْءَ غَاصِبٌ آخَرُ فَمَنِ الضَّامِنُ لِلْمَغْصُوبِ حِينَئِذٍ؟
يَرَى الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّهُ إِذَا تَصَرَّفَ الْغَاصِبُ فِي الْمَغْصُوبِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ الْغَاصِبِ الأَْوَّل، أَوِ الْمُرْتَهِنِ، أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ، أَوِ الْمُسْتَعِيرِ، أَوِ الْمُشْتَرِي مِنَ الْغَاصِبِ. أَوِ الْوَدِيعِ الَّذِي أَوْدَعَهُ الْغَاصِبُ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ، فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ الأَْوَّل، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ أَوِ الْمُسْتَأْجِرُ أَوِ الْوَدِيعُ أَوِ الْمُشْتَرِي، رَجَعُوا عَلَى الْغَاصِبِ بِالضَّمَانِ؛ لأَِنَّهُمْ عَمِلُوا لَهُ، وَالْمُشْتَرِي إِذَا ضَمِنَ الْقِيمَةَ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْغَاصِبِ الْبَائِعِ؛ لأَِنَّ الْبَائِعَ ضَامِنٌ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ، وَرَدُّ الْقِيمَةِ كَرَدِّ الْعَيْنِ.
وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ مِنَ الْغَاصِبِ أَوِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، أَوِ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً الْغَصْبَ؛
لأَِنَّهُ يَعْمَل فِي الْقَبْضِ لِنَفْسِهِ. (1)
وَإِذَا غَصَبَ شَخْصٌ شَيْئًا مِنْ آخَرَ، فَجَاءَ غَيْرُهُ وَغَصَبَهُ مِنْهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ الأَْوَّل؛ لِوُجُودِ فِعْل الْغَصْبِ مِنْهُ، وَهُوَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ الثَّانِيَ أَوِ الْمُتْلِفَ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِالْغَصْبِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لأَِنَّ الْغَاصِبَ الثَّانِي أَزَال يَدَ الْغَاصِبِ الأَْوَّل الَّذِي هُوَ بِحُكْمِ الْمَالِكِ فِي أَنَّهُ يَحْفَظُ مَالَهُ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ عَلَيْهِ (أَيْ عَلَى الْمَالِكِ) وَلأَِنَّهُ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَى مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَالْجَهْل غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلضَّمَانِ؛ وَلأَِنَّ الْمُتْلِفَ أَتْلَفَ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ فَضَمِنَهُ بِفِعْل نَفْسِهِ.
فَإِنِ اخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ الأَْوَّل، وَكَانَ هَلَاكُ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ الثَّانِي، رَجَعَ الْغَاصِبُ الأَْوَّل بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي؛ لأَِنَّهُ بِدَفْعِهِ قِيمَةَ الضَّمَانِ مَلَكَ الشَّيْءَ الْمَضْمُونَ (أَيِ الْمَغْصُوبَ) مِنْ وَقْتِ غَصْبِهِ، فَكَانَ الثَّانِي غَاصِبًا لِمِلْكِ الأَْوَّل.
وَإِنِ اخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ الثَّانِي أَوِ الْمُتْلِفِ، لَا يَرْجِعُ هَذَا بِالضَّمَانِ عَلَى أَحَدٍ، وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ فِي ذِمَّتِهِ؛ لأَِنَّهُ ضَمِنَ
(1) رد المحتار 5 / 139.
فِعْل نَفْسِهِ، وَهُوَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ أَوِ اسْتِهْلَاكِهِ وَإِتْلَافِهِ.
وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ الضَّمَانِ مِنْ شَخْصٍ، وَبَعْضَهُ الآْخَرَ مِنَ الشَّخْصِ الآْخَرِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ مَبْدَأِ تَخْيِيرِ الْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَوْقُوفَ الْمَغْصُوبَ إِذَا غُصِبَ، وَكَانَ الْغَاصِبُ الثَّانِي أَمْلأََ مِنَ الأَْوَّل، فَإِنَّ مُتَوَلِّي الْوَقْفِ يُضَمِّنُ الثَّانِيَ وَحْدَهُ. (1)
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَالِكَ مَتَى اخْتَارَ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ الأَْوَّل أَوِ الثَّانِي يَبْرَأُ الآْخَرُ عَنِ الضَّمَانِ بِمُجَرَّدِ الاِخْتِيَارِ، فَلَوْ أَرَادَ تَضْمِينَهُ بَعْدَئِذٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا رَدَّ الْغَاصِبُ الثَّانِي الْمَغْصُوبَ عَلَى الأَْوَّل بَرِئَ مِنَ الضَّمَانِ، وَإِذَا رَدَّهُ إِلَى الْمَالِكِ بَرِئَ الاِثْنَانِ. (2)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إِذَا رُفِعَتْ لَهُ حَادِثَةُ الْغَصْبِ أَنْ يَمْنَعَ الْغَاصِبُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال الْمِثْلِيِّ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى يَتَوَثَّقَ بِرَهْنٍ أَوْ حَمِيلٍ (أَيْ كَفِيلٍ) ، وَإِذَا غَصَبَ الْمَغْصُوبَ شَخْصٌ آخَرُ
(1) البدائع 7 / 144، 146، الأشباه مع الحموي 2 / 96 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار 5 / 126 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير 3 / 457، مغني المحتاج 2 / 279، فتح العزيز شرح الوجيز 11 / 252، المغني 5 / 252، المجلة (م 910) .
(2)
الدر المختار 5 / 138، المجلة (م 910) .
ضَمِنَ، وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ آكِل الْمَغْصُوبِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِالْغَصْبِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لأَِنَّهُ بِعِلْمِهِ بِالْغَصْبِ صَارَ غَاصِبًا حُكْمًا مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ، وَبِأَكْلِهِ الْمَغْصُوبَ يُصْبِحُ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنُ، وَالْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ وَوَارِثُهُ وَمَوْهُوبُ الْغَاصِبِ كَالْغَاصِبِ إِنْ عَلِمُوا بِالْغَصْبِ، فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ الْمِثْلِيِّ بِمِثْلِهِ وَالْقِيَمِيِّ بِقِيمَتِهِ، وَيَضْمَنُونَ الْغَلَّةَ وَالْحَادِثَ السَّمَاوِيَّ؛ لأَِنَّهُمْ غُصَّابٌ بِعِلْمِهِمْ بِالْغَصْبِ، وَلِلْمَالِكِ أَنْ يُتْبِعَ بِالضَّمَانِ أَيَّهُمَا شَاءَ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْيْدِيَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى يَدِ الْغَاصِبِ أَيْدِي ضَمَانٍ وَإِنْ جَهِل صَاحِبُهَا الْغَصْبَ؛ لأَِنَّ وَاضِعَ الْيَدِ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَالْجَهْل لَيْسَ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ، بَل يُسْقِطُ الإِْثْمَ فَقَطْ، فَيُطَالِبُ الْمَالِكُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، لَكِنْ لَا يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الآْخِذِ مِنَ الْغَاصِبِ إِلَاّ بِعِلْمِهِ بِالْغَصْبِ، حَتَّى يَصْدُقَ عَلَيْهِ مَعْنَى الْغَصْبِ، أَوْ إِنْ جَهِل بِهِ وَكَانَتْ يَدُ الْوَاضِعِ فِي أَصْلِهَا يَدَ ضَمَانٍ، كَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمُقْتَرِضِ وَالسَّائِمِ؛ لأَِنَّهُ تَعَامَل مَعَ الْغَاصِبِ عَلَى الضَّمَانِ، فَلَمْ يَغُرَّهُ.
(1) الشرح الصغير 3 / 585، 590، 602.
أَمَّا إِنْ جَهِل الْوَاضِعُ يَدَهُ عَلَى الْمَغْصُوبِ بِالْغَصْبِ، وَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ أَمَانَةٍ بِلَا اتِّهَابٍ، كَوَدِيعٍ وَشَرِيكٍ مُضَارِبٍ، فَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ دُونَ الآْخِذِ؛ لأَِنَّهُ تَعَامَل مَعَ الْغَاصِبِ عَلَى أَنَّ يَدَهُ نَائِبَةٌ عَنْ يَدِ الْغَاصِبِ، وَأَمَّا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الأَْظْهَرِ؛ لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ لَيْسَتْ يَدَ ضَمَانٍ بَل يَدَ أَمَانَةٍ، إِلَاّ أَنَّ أَخْذَهُ الشَّيْءَ لِلتَّمَلُّكِ. (1)
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْغَاصِبِ فِي الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ حَرَامٌ وَغَيْرُ صَحِيحَةٍ، لِحَدِيثِ: مَنْ عَمِل عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ (2) أَيْ مَرْدُودٌ، وَتَكُونُ الأَْرْبَاحُ لِلْمَالِكِ وَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّ الشَّخْصَيْنِ شَاءَ: الْغَاصِبِ أَوِ الْمُتَصَرِّفِ لَهُ؛ لأَِنَّ الْغَاصِبَ حَال بَيْنَ الْمَالِكِ وَبَيْنَ مِلْكِهِ وَأَثْبَتَ الْيَدَ الْعَادِيَةَ (الضَّامِنَةَ) عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُتَصَرِّفُ لَهُ فَلأَِنَّهُ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَى مِلْكٍ مَعْصُومٍ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ إِذَا كَانَ الْمُتَصَرِّفُ لَهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْغَصْبِ، فَإِنْ عَلِمَ الْمُتَصَرِّفُ لَهُ بِالْغَصْبِ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ،
(1) مغني المحتاج 2 / 279، السراج الوهاج ص267.
(2)
حديث: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 301) ومسلم (3 / 1344) من حديث عائشة، واللفظ لمسلم.