المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌تَقْدِيمُ الْكِتَابِ بقلم: سماحة العلامة الشيخ السيد أبي الحسن - بذل المجهود في حل سنن أبي داود - جـ ١

[خليل أحمد السهارنفوري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق

- ‌عملي في هذا الكتاب

- ‌تقديم

- ‌تَقْدِيمُ الْكِتَابِ

- ‌خصائص هذا الشرح

- ‌كلمة عن "سنن أبي داود" وشرحه "بذل المجهود" في غاية الوجازة

- ‌كلمة عن الإِمام أبي داود

- ‌التعريف بكتاب "السنن" له

- ‌ فقد تلخّص من كلمات الإِمام أبي داود وغيره أمور:

- ‌كلمة في المولِّف الإِمام وخصائص شرحه

- ‌كلمة في شرح سنن أبي داود

- ‌وبالجملة نلخِّص القول في شيء من خصائصه:

- ‌ترجمة مؤلِّف بذل المجهود من "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر

- ‌ترجمة المؤلف الشيخ السهارنفوري بقلم أحد كبار العلماء

- ‌عصر أبي داود

- ‌الإِمَام أبو دَاوُدقبسات من سيرته، ولمحات من فضله

- ‌اسمه ونسبه ونسبته:

- ‌ولادته:

- ‌ارتحاله إلى الآفاق:

- ‌شيوخه:

- ‌ومن أعيانهم:

- ‌تلاميذه:

- ‌زهده وورعه:

- ‌اعتزازه بكرامة العلم والعلماء:

- ‌اعتراف الأئمة بفضله وكماله:

- ‌تحرِّيه في الإِسناد:

- ‌مذهبه الفقهي:

- ‌وفاته:

- ‌ابنه أبو بكر:

- ‌مؤلَّفاته:

- ‌ سُنَن أبي دَاوُد" تأليفه - مكانته - خصائصه

- ‌موضوع الكتاب ومعظم مقصود الإِمام في تأليفه:

- ‌كتاب "سنن أبي داود" جامع للأحاديث التي استدلّ بها فقهاء الأمصار وبنوا عليها الأحكام:

- ‌ثناء الأئمة على "السنن

- ‌مكانة "سنن أبي داود" بين الكتب الستّة تدريسًا:

- ‌شروط الإِمام أبي داود في "السنن

- ‌مكانة "سنن أبي داود" بين الكتب الستّة صحّة:

- ‌الكلام على ما سكت عليه أبو داود:

- ‌مدة تأليف "السنن

- ‌عدد روايات "السنن

- ‌يكفي الإِنسان لدينه أربعة أحاديث:

- ‌خصائص الكتاب:

- ‌تجزئة الكتاب:

- ‌الأحاديث المنتقدة في "سنن أبي داود

- ‌درجات أحاديث "السنن

- ‌نسخ الكتاب:

- ‌ سنن أبي داود" ورواته:

- ‌شروح الكتاب والكتب المؤلفة حوله

- ‌رسالةُ الإِمامِ أَبي داودَ إِلى أَهلِ مكَّةَ في وصْفِ الكِتابِ وبَيان خصائِصِهِ والتِزاماتِهِ

- ‌مُقَدِّمَةُ "بَذْلِ الْمَجْهُودِ

- ‌(1) كِتابُ الطَّهَارَةِ

- ‌(1) بَابُ التَّخَلّي عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ

- ‌(2) بَابُ الرَّجُلِ يَتبوَّأُ لِبَوْلِهِ

- ‌(3) بَابُ مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ

- ‌(4) بَابُ كَرَاهِيَّةِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلةِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ

- ‌(5) بَابُ الرُّخْصَة في ذَلِك

- ‌(6) بَابٌ: كيْفَ التَكَشُّفُ عِنْدَ الْحَاجَةِ

- ‌(7) بَابُ كَرَاهِيَةِ الْكَلَامِ عِنْدَ الْخَلَاء

- ‌(8) بَاب: في الرَّجُلِ يَرُدُّ السَّلَامَ وَهُوَ يَبُولُ

- ‌(9) بَابٌ: في الرَّجُلِ يَذْكُرُ الله تَعَالَى عَلَى غيرِ طُهْرٍ

- ‌(10) بَابُ الْخَاتَمِ يَكُونُ فِيهِ ذِكرُ الله تَعَالَى يُدْخَلُ بِهِ الْخَلَاءُ

- ‌(11) بَابُ الاسْتِبْرَاءِ مِنَ الْبَوْلِ

- ‌(12) بَابُ الْبَوْلِ قَائِمًا

- ‌(13) بَاب: في الرَّجُلِ يَبُولُ بِاللَّيْلِ في الإِنَاءِ ثُمَّ يَضَعُهُ عِنْدَهُ

- ‌(14) بَابُ الْمَواضِعِ الَّتِي نُهِي عَنِ الْبَوْلِ فِيهَا

- ‌(15) بَابٌ: في الْبَوْلِ في الْمُسْتَحَمّ

- ‌(16) بَابُ النَّهْيِ عنِ الْبَوْلِ في الْجُحْرِ

- ‌(17) بَابُ مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ

- ‌(18) بَابُ كَرَاهِيَّةِ مَسِّ الذَّكَر بِاليَمِينِ في الاستِبْرَاءِ

- ‌(19) بَابٌ: في الاِسْتِتَارِ في الْخَلاءِ

- ‌(20) بَابُ مَا يُنْهَى عَنْهُ أَنْ يُستَنْجَى بِهِ

- ‌(21) بَابُ الاسْتِنْجَاءِ بِالأَحْجَارِ

- ‌(22) بَابٌ: في الاسْتِبْرَاءِ

- ‌(23) بَابٌ: في الاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ

- ‌(24) بَابُ الرَّجُلِ يَدْلُكُ يدَهَ بِالأَرْضِ إِذَا اسْتَنْجَى

- ‌(25) بَابُ السِّواكِ

- ‌(26) بَابٌ: كَيْفَ يَسْتَاكُ

- ‌(27) بَابٌ: في الرَّجُلِ يَسْتَاكُ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ

- ‌(28) بَابُ غَسْلِ السِّواكِ

- ‌(29) بَابٌ: السّوَاكُ مِنَ الْفِطْرَة

- ‌(30) بَابُ السِّوَاكِ لِمَنْ قَامَ بِاللَّيْلِ

- ‌(31) بَابُ فَرْضِ الْوُضُوءِ

- ‌(32) بَابُ الرَّجُلِ يُجَدّدُ الْوُضُوءَ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ

- ‌(33) بَابُ مَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ

- ‌(34) بَابُ مَا جَاءَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ

- ‌(35) بَابُ الْمَاءِ لَا يُجْنِبُ

- ‌(36) باب الْبَوْلِ فِى الْمَاءِ الرَّاكِدِ

- ‌(37) بَابُ الْوُضُوءِ بِسُؤْرِ الْكَلْبِ

- ‌(38) بَابُ سُؤْرِ الْهِرَّةِ

- ‌(39) بَابُ الْوُضُوءِ بفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ

- ‌(40) بَابُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ

- ‌(41) بَابُ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ

- ‌(42) بَابُ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ

- ‌(43) بَابٌ: أَيُصَلِّي الرَّجُلُ وهُوَ حَاقِنٌ

- ‌(44) بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْمَاءِ في الْوُضُوءِ

- ‌(45) بَابٌ: في الإِسْرَافِ في الْوُضُوءِ

- ‌(46) بابٌ فِى إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ

- ‌(47) بَابُ الْوُضُوءِ في آنِيَةِ الصُّفْرِ

- ‌(48) بَابٌ: في التَّسْمِيَةِ عَلَى الْوُضُوءِ

- ‌(49) بابٌ فِى الرَّجُلِ يُدْخِلُ يَدَهُ فِى الإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا

- ‌(50) بَابٌ: يُحَرِّكُ يَدَهُ في الإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا

- ‌(52) بَابُ الْوُضُوءِ ثَلاثًا ثَلاثًا

- ‌(53) بَابٌ: في الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ

- ‌(54) بابُ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً

- ‌(55) بَابٌ فِى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ

- ‌(56) بابٌ: فِى الاِسْتِنْثَارِ

- ‌(57) بَابُ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ

- ‌(58) بَابُ الْمَسْحِ عَلَى العِمَامَةِ

- ‌(59) بَابُ غَسْلِ الرِّجْلِ

- ‌(60) بابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ

- ‌(61) بَابُ التَّوْقِيتِ في الْمَسْحِ

- ‌(62) بابُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ

- ‌(63) بَابٌ

- ‌(64) بابٌ: كَيْفَ الْمَسْحُ

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌تَقْدِيمُ الْكِتَابِ بقلم: سماحة العلامة الشيخ السيد أبي الحسن

بسم الله الرحمن الرحيم

‌تَقْدِيمُ الْكِتَابِ

بقلم: سماحة العلامة

الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي (1)

الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيّين محمد، وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد: فيسعدكاتب هذه السطور أن يقدّم لكتاب "بذل المجهود في حل أبي داود" للعلَّامة المحدّث الكبير، والمربِّي الجليل، مولانا خليل أحمد السهارنفوري- رحمة الله عليه-، وقد سعد الكاتب ووُفِّقَ لتقديم عدة كتب قيمة ومؤلفات عظيمة لتلميذه الأبرّ الأكبر شيخنا العلَّامة محمد زكريا بن محمد يحيى الكاندهلوي السهارنفوري (2)، كـ "مقدمة أوجز المسالك" و"مقدمة لامع الدراري" و"جزء حجة الوداع وعمرات النبي صلى الله عليه وسلم" و"الأبواب والتراجم للبخاري".

(1) قد انتقل رحمه الله إلى جوار ربه يوم الجمعة 22 من شهر رمضان 1420 هـ الموافق 31 من شهر ديسمبر 1999 م، فإنا لله وإنَّا إليه راجعون.

(2)

تُوفي إلى رحمة الله تعالى في غرة شعبان 1402 هـ، انظر ترجمته في:"كتاب تذكرة حياته" لسماحة الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي بالأردية، والمجلة الأحمدية العدد السابع - 2001 م الصادرة من دبي بعنوان "الإِمام المحدث محمد زكريا الكاندهلوي وآثاره في علم الحديث" لولدي العزيز الدكتور ولي الدين الندوي.

ص: 23

وكاتب هذه السطور يشهد الله على أن هذه الكتابات لم تخدعه عن نفسه، وقد كان يتقدم إليها في كل مرة متهيبًا خاشعًا أمام جلال الموضوع، ومكانة الكتاب العلمية، ومنزلة المؤلف الدينية، وعلو كعبه واختصاصه في علم الحديث، مؤمنًا بضآلة قدر نفسه، وقلة بضاعته، وبأنه متطفل على مائدة هذا الفن الشريف، يعتبر- عَلِمَ الله- أن إقدامه إلى هذا التقديم جسارة تكاد تكون وقاحة وإساءة أدب وقلة حياء، وبأن في القطر الهندي وحده، فضلًا عن شبه القارة الهندية، فضلًا عن العالم الإِسلامي، من هو أجدر وأقدر وأولى بهذه التقديمات، والتعريف بالتأليف والمؤلف.

ولا يستطيع الكاتب أن يُعلِّل هذا التكريم المتكرر إلَّا بحكمة إلهية خفية، وأسلوب من أساليب التربية، التي خص الله بها كبار المربين وحُذَّاق المعلمين، وأن لهم في ذلك مرامي بعيدة ومقاصد دقيقة {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (1) ،ولعل ذلك لإِثارة كوامن الشوق وتشحيذ العزم الفاتر، والهمَّة الكليلة في دراسة هذا الفن الشريف، وإعادة الخيط النوراني الذي يربط القلوب بهذا العلم، والذي ضعف وكاد ينقطع.

وعلى كلٍّ فالكاتب يعتقد كل ذلك من أعظم نعم الله سبحانه وتعالى عليه، التي لا يستوفي حق شكرها.

فلو أن لي في كل منبت شعرة

لسانًا لما استوفيت واجب حمده

وكتاب "بذل المجهود" هو واسطة العقد بين هذه الكتب التي أمرت بالتقديم لها، واهتمام شيخنا العلامة محمد زكريا بنشره في الحروف العربية ووصوله إلى أيدي علماء الحديث والمشتغلين بتدريسه وتحقيقه، وانتشاره في الأوساط العلمية والمدارس الدينية، وحلوله المحل اللائق به من بين شروح الحديث التي ألفت في العصور الأخيرة أعظم وأكثر، إذ هو ليس مجرد تأليف لشيخه- الذي أحبه واقترنت حياته العلمية بحياته، وليست

(1) سورة المدثر: الآية 31.

ص: 24

إلَّا ظلاًّ ممدودًا لهذه الشجرة الطيبة المباركة- بل هو فلذة كبده وقطعة نفسه، وأحبُّ أعماله إليه كما سيقرأ القارئ في السطور الآتية.

فأصبح خروج هذا الكتاب في الثوب القشيب والمظهر الجديد أعَزَّ أمانيه وأكبر آماله، يتلذَّذ بالحديث عنه ويتسلَّى بالتفكير فيه، وقد طابت له الحياة، وهانت عليه المحن والخطوب في سبيل نشر هذا الأثر العلمي العظيم، وتذكار شيخه الأثير الحبيب، وانتظار خروجه واكتماله.

ومن دواعي الغبطة والسرور لكاتب هذه السطور أن يكون له نصيب في هذا العمل، وأن يكون عاملًا صغيرًا في تحقيق هذه الأمنية العزيزة وإظهار هذه المأثرة الخالدة.

وكلمة وجيزة عن مكانة "سنن أبي داود" ومنزلته من بين دواوين السنَّة ومجاميع الحديث، وإن كان هذا الموضوع قد استوفي في كتب أصول الحديث، ومقدمات علم الحديث، وتاريخ تدوين السنَّة، ولم يترك الأول للآخِر شيئًا، ولا يجاوز عمل كاتب مثلي إعادة ما قيل، وإجمال ما فُصِّل، ووقفة قصيرة عند شروح هذا الكتاب وتعليقاته، ونظرة إجمالية في هذا الشرح، ومكانته من بين الشروح، والثغرة التي يسدها، ولماذا احتاج المؤلف إلى وضعه؟ ومدى ارتباط المؤلف بهذا الكتاب وتفانيه فيه، وتعلقه به، ومدى نجاحه في هذا العمل، وكيف تم تأليف هذا الكتاب، وما هو سهم تلميذ المؤلف النابغة في تأليفه؟ وما فضله وتأثيره في حياته ونجاحه ونبوغه؟ فلكل ذلك قصة ممتعة مفيدة، فيها عبرة لمن اعتبر، ودروس مفيدة لتلاميذ المدارس النجباء، وروّاد العلم الأذكياء، وأولي الهمم من المؤلفين والعلماء {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} (1).

أما "سنن أبي داود" فهو من كتب الحديث التي تلقتها الأمة بالقبول، وتلقاها علماء الصناعة وأئمة الفن بالاعتناء التام، وعليه المعوَّل والاعتماد

(1) سورة الأعراف: الآية 176.

ص: 25

قديمًا وحديثًا، وهو ثالث الأركان أو الرابع - في قول بعض المحققين- التي قام عليها بناء السنَّة.

ونبدأ بكلام الإِمام أبي داود نفسه في وصف كتابه وذكر خصائصه، فهو الثقة الصدوق فيما يقول، ولا يصف كتابًا ولا يعرف غوامضه مثل مؤلفه.

* قال رحمه الله في رسالة أرسلها إلى أهل مكة في صفة كتابه:

"وهو كتابٌ لا يرد عليك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ صالح إلَّا وهو فيه، إلَّا أن يكون كلام استخرج من الحديث ولا يكاد يكون هذا، ولا أعلم شيئًا بعد القرآن ألزم للناس أن يتعلموه من هذا الكتاب، ولا يضر رجلًا أن لا يكتب من بعد ما يكتب هذا الكتاب شيئًا، وإذا نظر فيه وتدبره وتفهمه يعلم مقداره"(1).

* وقال أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد ابن الأعرابي - وهو أحد كبار تلاميذ الإِمام أبي داود وصاحب النسخة المشهورة للـ "سنن"-: "لو أن رجلًا لم يكن عنده من العلم إلَّا المصحف الذي فيه كتاب الله ثم هذا الكتاب- وأشار إلى نسخة "السنن" وهي بين يديه- لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة"(2).

* وقال أبو سليمان الخطابي صاحب "معالم السنن": "واعلموا - رحمكم الله- أن كتاب "السنن" لأبي داود كتاب شريف، لم يصنف في علم الدين كتاب مثله، وقد رُزِق القبول من الناس كافةً، فصار حَكَمًا بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، فلكلٍّ فيه وِرْدٌ ومنه شرب، وعليه معوَّل أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب، وكثير من مدن أقطار الأرض.

(1) مقتبس من (رسالة أبي داود السجستاني في وصف تأليفه لكتاب "السنن" ص 6 - 7) رواية أبي الحسين بن جميع عن محمد بن عبد العزيز الهاشمي عنه، طبعت في مطبعة الأنوار بالقاهرة سنة 1369 ص بتحقيق العلامة محمد زاهد الكوثري.

(2)

ذكره الخطابي في مقدمته سماعًا من ابن الأعرابي "معالم السنن"(1/ 14).

ص: 26

فأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتاب محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد، إلا أن كتاب أبي داود أحسن رصفًا وأكثر فقهًا، وكتاب أبي عيسى أيضًا كتاب حسن، والله يغفر لجماعتهم، ويُحسن على جميل النية فيما سعوا له مثوبتهم برحمته.

إلى أن قال: وكان تصنيف علماء الحديث- قبل زمان أبي داود- الجوامع والمسانيد ونحوهما، فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخبارًا وقصصًا ومواعظَ وآدابًا.

فأما السنن المحضة فلم يقصد واحد منهم جمعها واستيفاءها ، ولم يقدر على تخليصها واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة، ومن أدلة سياقها على حسب ما اتفق لأبي داود، ولذلك حل هذا الكتاب عند أئمة الحديث وعلماء الأثر محل العجب، فضربت فيه أكباد الإِبل ودامت إليه الرحل" (1).

* وقال شيخ الإِسلام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي - شارح "صحيح مسلم" وصاحب المؤلفات الكثيرة الشهيرة-، في قطعة كتبها في شرح "سنن أبي داود":"وينبغي للمشتغل بالفقه وغيره الاعتبار بـ "سنن أبي داود" بمعرفته التامة، فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتجّ بها فيه مع سهولة تناوله وتلخيص أحاديثه وبراعة مصنفه واعتنائه بتهذيبه"(2).

* وقال العلَّامة الحافظ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب "زاد المعاد" والمؤلفات المقبولة، في شرحه لاختصار المنذري- لـ "سنن أبي داود"-: ولما كان كتاب "السنن" لأبي داود سليمان بن الأشعث رحمه الله من الإِسلام بالموضع الذي خصه به، بحيث صار حكمًا بين

(1)"معالم السنن"(1/ 12 - 13).

(2)

العبارة منقولة من "الحطة في ذكر الصحاح الستَة"، للأمير العلامة صديق حسن خان القنوجي (ص 106)، المطبعة النظامية كانفور طبع 1283 هـ.

ص: 27

أهل الإِسلام، وفصلًا في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضَى المحققون، فإنه جمع شمل أحاديث الأحكام، ورتَّبها أحسنَ ترتيب، ونظمها أحسن النظام مع انتقائها أحسن الانتقاء واطِّراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء" (1).

وفيما نقلناه بلاغ ومقنع للدلالة على مكانة الكتاب وأهميته.

وكانت نتيجته الطبيعية ومقتضى إجلال العلماء له واحتياج الفقهاء والمحدثين إليه أن يكثر الاهتمام بشرحه وخدمته، والتعليق عليه، فتناوله بالشرح كبار علماء الأمة وأئمة علم الحديث في كل عصر ومصر.

- ومن أقدم شروحه وأشهرها، وأغزرها مادة، وأكثرها فوائد وأصولًا ونكتًا شرح "معالم السنن" لأبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (المتوفى سنة 388 هـ).

ولا يعزبن عن البال أن الخطابي - رحمه الله تعالى- لم يشرح جميع الأحاديث، بل يأتي إلى الباب الذي تعددت فيه الروايات، فإذا كان المآل فيها واحدًا شرح منها حديثًا واحدًا، وكأنه بذلك شرح جميع الباب، وإلَّا شرح أكثر من ذلك على حسب ما يتراءى له، وإلى ذلك الإشارة بقوله: من باب كذا (2).

إلَّا أن الكتاب مجمع على فضله واحتوائه على فوائد كثيرة تنير السبيل للمستفيدين، وتنشئ فيهم ملكة الاستنباط وفقه الحديث، وقد جاءت في ثنايا الكتاب ثروة ذات قيمة من مقاصد الشريعة وأسرارها كما نوَّهَ بذلك شيخ الإِسلام الشيخ أحمد بن عبد الرحيم ولي الله الدهلوي في مقدمة "حجة الله البالغة"(3).

(1)"تهذيب مختصر سنن أبي داود" لابن القيم (1/ 8).

(2)

مقتبس من مقدمة الشيخ الراغب الطباخ على "معالم السنن" للخطابي، طبع حلب.

(3)

وفي مكتبة دار العلوم "ديوبند" مقدمة للشيخ أبي طاهر أحمد بن محمد السّلَفي

الأصبهاني، كتبها بطلب من جماعة للفقهاء حين إملائه لـ "معالم السنن" في سنة =

ص: 28

- وشرحه الشيخ قطب الدين أبو بكر بن أحمد بن دعين (1) اليمني الشافعي (م سنة 752 هـ) في أربعة مجلدات كبار.

- وقد تناوله بالشرح شيخ الإِسلام محيي الدين النووي (م سنة 676 هـ)، إلا أن هذا الشرح لم يتم، ولو تم لكانت له مكانة مرموقة؛ لاقتدار صاحبه على الشرح والإِيضاح، ورسوخه في علوم الحديث وسلامة ذهنه.

- وشرحه الحافظ علاء الدين مغلطاي بن قليج (م سنة 762 هـ) ولم يكمله، وهو كتاب عظيم كثير الفوائد.

- وشرحه شهاب الدين أبو محمود أحمد بن محمد بن إبراهيم بن هلال المقدسي (م سنة 765 هـ) سماه "انتحاء السنن واقتفاء السنن".

- وشرحه الشيخ سراج الدين عمر بن علي ابن الملقن الشافعي (م سنة 804 هـ).

- وشرحه الشيخ العلامة ولي الدين أبو زرعة أحمد ابن الحافظ أبي الفضل زين الدين العراقي (م سنة 826 هـ).

قال السيوطي: هو شرح مبسوط جدًا كتب منه من أوله إلى سجود السهو في سبع مجلدات، ولو كمل لجاء أكثر من أربعين مجلدًا.

- وشرحه الحافظ شهاب الدين أحمد بن حسين بن رسلان الرملي

= 546 هـ للتعريف بصاحب "السنن" الإِمام أبي داود وبشارحه أبي سليمان الخطابي، يقول في هذه المقدمة: وقد أردت أن أقدِّم ها هنا فصلًا، في التنبيه على جلالة أبي داود وما صنفه، وفضل أبي سليمان وشرحه.

وقد جاءت هذه المقدمة في 22 صفحة من القطع الكبير، وهي خطية لم تطبع بعد، (مخطوطات دار العلوم ص 95).

[وقد طبع هذا الكتاب في مطبعة أنصار السنة المحمدية بالقاهرة، وألحق في نهاية "معالم السنن"].

(1)

انظر "كشف الظنون"(2/ 1005).

ص: 29

الشافعي (1)(م 844 هـ) في أحد عشر مجلدًا، وقد رأى الشيخ العلَّامة حسين بن محسن الأنصاري شرحه في بعض بلاد العرب، وذكر أنه في ثمان مجلدات كبار، كما جاء في "غاية المقصود"(ص 9)(2).

- وشرحه العلامة بدر الدين محمود بن أحمد العيني الحنفي (م 855 هـ)، ولم يكمل (3).

وشرحه العلامة جلال الدين السيوطي (م 911 هـ)، وسمَّاه:"مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود".

وعليه حاشية للعلَّامة السيد علي بن سليمان الدمنتي البُجُمْعَوي - المتوفى في أوائل القرن الرابع عشر-، وسمَّاه:"درجات مرقاة الصعود"، وقد قال في مقدمته:"هذا اختصارنا لـ "مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود" للعلَّامة السيوطي، وهو تعليق على نسق أصله الذي لخص به "معالم السنن" للإِمام أبي سليمان الخطابي.

وضم إليه الفوائد الزوائد والخرائد الشرائد، وهو في جزء واحد، طبع في المطبعة الوهبية سنة 1298 هـ -.

- وقد شرحه العلامة الشيخ محمود (4) محمد خطاب السبكي المصري

(1) اقرأ ترجمته الحافلة في: "البدر الطالع" للشوكاني (1/ 49) و"الضوء اللامع"(1/ 282) و"شذرات الذهب"(7/ 248).

(2)

استفدنا في هذا الباب من كتاب: "الحطة في ذكر الصحاح الستَة"، للعلامة صدِّيق حسن القنوجي و"مقدمة غاية المقصود".

(3)

قد طبع هذا الشرح في بيروت، سنة 1421 هـ.

(4)

هو المصلح الكبير الداعي إلى الله الشيخ محمود خطاب السبكي، تعلم العلم كبيرًا، وتخرج في الأزهر، وكانت دراسته بكاملها في نحو سنة، كما حكى هو عن نفسه في كتابه "فتاوى أئمة المسلمين"، ودرَّس في الأزهر، وقام بدعوة دينية إصلاحية، كان لها تأثير كبير في اتباع السنة وطريقة السلف الصالح وإزالة البدع والمنكرات، وأسِّس =

ص: 30

(م 1352 هـ) وسمَّاه: "المنهل العذب المورود شرح سنن الإِمام أبي داود"، وهو شرح حافل في عشرة أجزاء ولم يتم، وقد وصل المؤلف في شرحه إلى "باب التلبيد".

* وكان نصيب علماء الهند من خدمة هذا الكتاب الجليل نصيبًا غير منقوص، شأنهم في خدمة علم الحديث عامة، وخدمة الصحاح الستة بصفة خاصة.

- فأول من شرحه من علماء الهند: العلامة أبو الحسن السندي ابن عبد الهادي المدني (م 1139 هـ) وسمِّاه: "فتح الودود على سنن أبي داود".

وتلاه علماء آخرون:

- فعني به العلامة المحدِّث الكبير شمس الحق الديانوي (م 1329 هـ)، فبدأ في شرح عظيم محيط بمباحث الكتاب والمتون والأسانيد، لو تم لكان عملًا جليلًا، ومن شروح الحديث الكبيرة الشاملة، إلَّا أنه لِسَعَةِ دائرته وضخامة عمله لم يتم، وسمَّاه:"غاية المقصود" وقد احتوى على بحوث مفيدة وفوائد كثيرة، ولعلَّ المؤلف قد شعر بأن هذا العمل لا يتم في حياته، فضيق دائرة التأليف، وصغَّر إطار الكتاب، وأخرج الكتاب في أربعة أجزاء، وسمَّاه "عون المعبود"، ونسبه إلى أخيه الشيخ محمد أشرف، وهو من تأليفه حقيقة (1).

= جمعية سمَّاها: "الجمعية الشرعية لتعامل العاملين بالكتاب والسنة المحمديَّة".

لقيتُ ابنه وخليفته الشيخ أمين محمود خطاب في مصر سنة 1380 هـ، وتعرفت بكثير من أعضائها. راجع:"مذكرات سائح في الشرق العربي" لكاتب هذه السطور، (ص 34).

(1)

راجع ترجمة مولانا شمس الحق الديانوي في "نزهة الخواطر" للعلَاّمة عبد الحي الحسني (8/ 179).

ص: 31

- وترجمه الشيخ وحيد الزمان اللكهنوي الحيدرآبادي الملقب بوقار نواز جنك (م 1338 هـ)، وتناوله بالشرح والإِيضاح، وسمَّاه:"الهدي المحمود في ترجمة سنن أبي داود".

- وقد جمع أحد تلاميذ العلامة محمد أنور شاه الكشميري (م 1352 هـ) -وهو الشيخ أبو العتيق عبد الهادي محمد صديق النجيب آبادي- إفاداته في درس "سنن أبي داود"، وضم إليها فوائد اقتبسها من "بذل المجهود" للعلامة خليل أحمد السهارنفوري، وزاد فوائد أخرى التقطها من درس العلَّامة محمود حسن الديوبندي المعروف بشيخ الهند لـ "صحيح البخاري"، ودرس العلامة شبير أحمد العثماني لكتاب "صحيح مسلم"، وألف مقتَبِسًا من كل ذلك كتابًا أسماه "أنوار المحمود" في جزئين (1)، وتم الشرح فيهما.

- وللشيخ فخر الحسن الكَنكَوهي (م 1315 هـ) تعليق على "سنن أبي داود"، وسمَّاه "التعليق المحمود".

- وللشيخ العلامة المحدث القاضي حسين بن محسن (2) الأنصاري اليماني تعليقات على "سنن أبي داود".

- ولتلميذه العلَّامة السيد عبد الحي الحسني مؤلف "نزهة الخواطر" تعليق على "السنن" كذلك، لم يتم.

* وكان الشيخ العلَامة المحدث الكبير مولانا خليل أحمد السهارنفوري من كبار المعنيين بـ "سنن أبي داود" تدريسًا وتحقيقًا.

وكان مما جرت به العادة ووقع عليه الاتفاق في مدرسة مظاهر علوم - التي كان مديرها ورئيس أساتذتها- أن يباشر هو تدريس هذا الكتاب أو

(1) طبع هذا الكتاب في تجلي بريس دهلي سنة 1330 هـ، وعدد صفحات الجزء الأول 610، وعدد صفحات الجزء الثاني 568، [وقد طبع في باكستان في مجلدين أيضًا].

(2)

راجع ترجمته في: "نزهة الخواطر"(8/ 121).

ص: 32

يتولاه الشيخ العلَّامة محمد يحيى بن إسماعيل الكاندهلوي (1)(م 1334 هـ) لا يتخطاهما إلَّا نادرًا.

وكانت فكرة شرح هذا الكتاب تراود الشيخ منذ أيام الطلب وعنفوان الشباب، وكان يتمنى على الله أن يوفق لهذا العمل الجليل، وقد شرع في ذلك فعلًا، وبدا له أن يسميه:"حل المعقود الملقب بالتعليق المحمود على سنن أبي داود"، وأقبل على هذا العمل بعد أن عين مدرسًا، وقد شرع فيه ثلاث مرار، وكان الشروع فيه للمرة الثالثة سنة 1311 هـ، إلَّا أنه لم يقدر له الاستمرار فيه وإكماله في ذلك الحين، فصرفته عنه الأشغال العلمية، والدروس المرهقة، والأسفار المتتابعة.

وقد كانت لله في ذلك حكمة خفية، فقد أراد الله أن يتم هذا العمل على يده، وقد بلغ درجة النبوغ والنضج العقلي وتوسعت دراسته، واتسع علمه، وظهرت كتب جديدة في شرح هذا الكتاب، فجاء الكتاب حصيلة دراسته وعصارة مطالعته.

وكان الباعث الأول على تأليف هذا الشرح هو شغفه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يعرف مداه وسره إلَّا من ذاق حلاوة الحب، وشغف بمحبوبه وبكل ما يصدر عنه ويتصل به وينسب إليه، وحرصه على الاشتغال بالحديث لفظًا ومعنًى، ومنطوقًا ومفهومًا، وشرحًا وتحقيقًا، وفحصًا وبحثًا.

ولما كان الشرح ضامنًا كافلًا بهذا الاشتغال والخوض في أعماق الحديث، آثره الشيخ والتزمه، فإن تمَّ الشرح وتحققت الأمنية، فنعم وحَبَّذا، وإلَّا فقد قضى هذه المدة في شغل عزيز لذيذ، وفي سعادة وغبطة وسرور.

(1) انظر ترجمته في: "أوجز المسالك"(1/ 133)، و"لامع الدراري"، (1/ 483).

ص: 33

مُنًى إن تكن حقًّا تكن أحسن المنى!

وإلَّا فقد عِشْنا بها زمنًا رغدًا

وكان الباعث الثاني عليه هو: عدم وجود شرحٍ وافٍ لهذا الكتاب الجليل بقلم عالِمٍ حنفيٍّ يجمع بين التبحر في الحديث والتضلع في الفقه، مع أن الكتاب من أهم الكتب التي يعتمد عليها في إثبات مذهب أو رد مذهب، لأن موضوعه الخاص وميزته الكبرى هو أحاديث الأحكام، وهي التي يكثر فيها الخلاف، وتتجلَّى فيها القدرة على التحقيق وقوة الاستدلال، وذلك ما أهم المؤلف وشغل خاطره.

ولم يزل علماء الإِسلام منذ قديم الزمان يشرحون كتب الحديث- وفي مقدمتها الصحاح الستة- بوجهة نظرهم الخاص، ويطبقون بين الأحاديث وآراء مذهبهم، ويقدمون دلائلها من كتب الحديث الموثوق بها، المعتمد عليها، كما فعل الإِمام أبو جعفر الطحاوي (1) في "شرح معاني الآثار"، وكما فعل العلامة الزيلعي (2) في "نصب الراية"، والعلامة علاء الدين ابن التركماني (3) في "الجوهر النقي".

وسادتنا الشافعية- والحق أحق أن يقال- قد أحرزوا قصب السبق في ميدان التأليف والتدوين، فإذا ألف أحدهم شرحًا لكتاب من كتب الصحاح تلاه عالم كبير من علماء المذهب الحنفي فألف شرحًا آخر لهذا الكتاب، وإذا ألف أحد كبار علماء الشافعية أو المالكية كتابًا في التفسير أو في أصول الفقه وتَلَقَّاه الناس بالقبول، وسارت به الرُّكْبان، وشغف به الأوساط

(1) انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ"(3/ 808)، و"وفيات الأعيان"(1/ 53)، و"شذرات الذهب"(3/ 88)، و"الجواهر المضيئة"(1/ 104).

(2)

انظر ترجمته في: "ذيل طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص 62)، و"الدرر الكامنة"(2/ 310).

(3)

انظر ترجمته في: "الدرر الكامنة"(3/ 84)، و"الجواهر المضيئة"(1/ 366)، و"الفوائد البهية"(ص 51).

ص: 34

العلمية والحلقات التعليمية، جاء عالم حنفي فألف كتابًا في نفس الموضوع قد يفوقه، وقد يدرك شأوه، وقد يتخلف عنه، شأن الكتب العلمية والجهود البشرية في كل زمان ومكان، وهذه قصة "عمدة القاري" للعلامة بدر الدين العيني (1) مع "فتح الباري" للعلَّامة الحافظ ابن حجر العسقلاني (2).

وهذا هو الدافع النبيل الذي دفع بعض كبار علماء الحنفية إلى تأليف كتاب في تفسير القرآن بعد ما كثرت مؤلفات علماء الشافعية في التفسير، وانتشرت في الآفاق، وأقبل عليها الطلبة والعلماء درسًا وتدريسًا، كما فعل العلامة أبو البركات حافظ الدين النسفي (3)(م 810 هـ) في كتابه "مدارك التنزيل وحقائق التأويل"، والعلامة أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العمادي (4)(م 982 هـ) في تفسيره المسمى بـ "إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم"، والمحدث الكبيرِ والفقيه الشهير القاضي ثناء الله الباني بتي (5)(م 1225 هـ) في "التفسير المظهري".

والعلم الثالث الذي له صلة وثيقة بالمذاهب والآراء الفقهية، وعليه أساس استنباط المستنبطين واجتهاد المجتهدين، هو علم أصول الفقه، فكان المجال الثالث لتأليف فحول علماء المذاهب ونوابغهم، فألف العلامة أبو الحسين البصري (6)، وإمام الحرمين العلامة أبو المعالي عبد الملك الجويني (7)، وحجة الإِسلام محمد بن محمد الغزالي (8)، والعلَّامة علي بن

(1) انظر ترجمته في: "شذرات الذهب"(7/ 286)، و"الجواهر المضيئة"(2/ 165).

(2)

انظر ترجمته في: "الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإِسلام ابن حجر" للسخاوي، و"شذرات الذهب"(7/ 270).

(3)

انظر ترجمته في: "الدرر الكامنة"(2/ 248)، و"الجواهر المضيئة"(1/ 270).

(4)

انظر ترجمته في: "شذرات الذهب"(8/ 398).

(5)

انظر ترجمته في: "نزهة الخواطر"(7/ 115).

(6)

انظر ترجمته في: "وفيات الأعيان"(4/ 271)، و"شذرات الذهب"(3/ 259).

(7)

انظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء"(18/ 468)، و"شذرات الذهب"(3/ 358).

(8)

انظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء"(19/ 322)، و"شذرات الذهب"(4/ 10).

ص: 35

أبي المظفر الآمدي (1)، والإِمام فخر الدين الرازي (2)، وغيرهم من كبار علماء الشافعية، والعلَّامة جمال الدين ابن الحاجب (3)، والعلامة أبو إسحاق الشاطبي (4) من علماء المالكية، والإِمام محمد بن الحسين أبو يعلى (5) والعلامة ابن قدامة المقدسي (6) من علماء الحنبلية، مؤلفاتهم الشهيرة في علم الأصول، وسارت بها الركبان، ودرجت الأجيال على دراستها، وحفظ بعضها وشرحها عدة قرون.

وصنف الإِمام علي بن محمد بن عبد الكريم فخر الإِسلام البزدوي (7)(م 482 هـ) من علماء الحنفية كتابه المشهور بـ "أصول البزدوي"، وصنف الشيخ العلَّامة حسام الدين محمد بن محمد بن عمر أخسيكثي الحنفي (8)(م 644 هـ) كتابه "المنتخب الحسامي"، وألف الشيخ العلامة كمال الدين بن همام الحنفي (9)(م 861 هـ) كتابه المشهور "التحرير".

وتداولت الأيدي هذه الكتب، وأقبل عليها العلماء دراسة وتدريسًا

وشرحًا وتلخيصًا، حتى جاء الشيخ العلَّامة محب الله بن عبد الشكور الحنفي البِهَاري الهندي (10)(م 1119 هـ) فصنّف كتابه المشهور "مسلَّم الثبوت"، فتهافت عليه العلماء والمؤلفون، وتناولوه بالشرح والتعليق، وقد شغل هذا الكتاب أذكى علماء البلاد وأبرعهم أكثر من قرن، وبلغ عدد شروحه وتعليقاته

(1) انظر ترجمته: "وفيات الأعيان"(3/ 75).

(2)

انظر ترجمته: "وفيات الأعيان"(3/ 381)، و"طبقات الشافعية"(5/ 33).

(3)

انظر ترجمته: "وفيات الأعيان"(3/ 248)، و"شذرات الذهب"(5/ 234).

(4)

انظر ترجمته في: "معجم المؤلفين"(1/ 118).

(5)

انظر ترجمته في: "شذرات الذهب"(3/ 306)، و"الأعلام" للزركلي (6/ 331).

(6)

انظر ترجمته في: "شذرات الذهب"(5/ 88).

(7)

انظر ترجمته في: "سيرأعلام النبلاء"(18/ 602)، و"الجواهر المضيئة"(2/ 52).

(8)

انظر ترجمته في: "الجواهر المضيئة"(2/ 120)، و"الفوائد البهية"(ص 188).

(9)

انظر ترجمته في: "الضوء اللامع"(8/ 127)، و"شذرات الذهب"(7/ 298).

(10)

انظر ترجمته في: "نزهة الخواطر"(6/ 152).

ص: 36

التي اشتهرت بين الناس ثمانية شروح على ما جاء في كتاب "الثقافة الإِسلامية في الهند " للعلَّامة السيد عبد الحي الحسني، وكان ذلك طبيعيًا ومعقولًا، ومما اقتضته طبيعة اختلاف المذاهب وطبيعة العلم والبحث.

إن هذه الحركة العلمية القوية التي انتشرت في مختلف أنحاء العالم الإِسلامي، واستمرت إلى عهد قريب، وظهرت بشكل خاص في مجال شروح الحديث وكتب التفسير وأصول الفقه، أفادت النشاط العقلي والعلمي في العالم الإِسلامي إفادًة كبيرة، لأنها مخضت المكتبة الإِسلامية الدينية، وغربلتها غربلة، ونخلت كتب الحديث والرجال وعلمي الأصول، للاحتجاج لما كان يراها المؤلفون وعلماء المذاهب من الآراء الفقهية من الكتاب والسنَّة والحديث الصحيح، وإقامة الدليل والبرهان عليه، فلم يبق جانب من جوانب الحديث النبوي وما يتصل به من علوم ومقدمات إلَّا وكشف عنه، ولا موضوع له نسب قريب أو بعيد بالسنَّة وآيات الأحكام إلَّا وبحث ودرس ونوقش، واستعملت العقول في ذلك إلى أقصى حدودها، فكان كل ذلك بما يعود على الشريعة الإِسلامية بالنفع، وتكوَّنت هذه المكتبة الدينية التي لا نظير لها في الملل والأمم.

وفي سنة 1335 هـ حين بلغ الشيخ أربعًا وستين سنة من عمره، جاء الوقت الموعود المقدر لتأليف هذا الكتاب، فذكر أمنيته القديمة التي لم تفارقه مدة حياته الدراسية والتأليفية لتلميذه الذي ظهرت عليه آثار النجابة والنبوغ، واختص بالشيخ اختصاصًا لم يكتب لغيره، وهو العالم الناهض محمد زكريا- ابن صديقه مولانا محمد يحيى الكاندهلوي- الذي تخرج من المدرسة حديثًا، وعيِّن مدرسًا صغيرًا فيها، وذكر أنه لا يزال عنده حنين كامن لتأليف هذا الكتاب، إلَّا أن الأسباب لم تتهيَّأ له، وقد وهنت قواه وضعف بصره.

وكان أكبر الاعتماد في إنجاز هذا العمل على والده العظيم الشيخ محمد يحيى الذي رزق قسطًا كبيرًا من الذكاء وحسن الملكة في علم الحديث، وكان من أنجب تلاميذ الشيخ الإِمام المحدث مولانا رشيد أحمد

ص: 37

الكَنكَوهي (1)، وكان شديد التجاوب معه، عجيب التوارد في المباحث العلمية، والمسائل الغامضة الدقيقة خصوصًا في تطبيق الحديث والفقه، وبيان الحجج والدلائل للمذهب الحنفي، وقد توفي رحمه الله في سنة 1334 هـ، ففقد لوفاته العضد الأيمن والمساعد الأكبر، وحزن عليه حزنًا شديدًا لخسارة العلم ورزيئة صناعة التعليم فيه، وكان دائمًا يشعر بمكانه الشاغر، وقال له وهو يمشي معه مرة: إذا ساعدتني أنت وزميلك حسن أحمد (2) في تأليف هذا الشرح فلعل ذلك يحقق أمنيتي.

ولما وصل الشيخ الكبير إلى هذه النقطة من حديثه اهتزَّ له تلميذه النجيب، وصادف ذلك رغبة ملحة دفينة في نفسه في الحرص على خدمة الحديث الشريف والمثابرة عليه، والتفاني فيه، وإفناء العمر والقوى في سبيله، ولم يكن يجد لذلك سبيلًا، ولا يصدق أنه ممكن؛ لأنه الآن في الشوط الأول من التدريس، فمتى يصل إلى الاشتغال بكتب الحديث، وكيف تتأتى له هذه الفرصة؟ فكان قد دعا الله مخلصًاومبتهلًا حين قرأ فاتحة الفراغ على والده وأستاذه، أن لا ينقطع عن الاشتغال بالحديث، ويظل حياته عاكفًا عليه بالتدريس والتأليف، فكأنما تكلم الشيخ على لسانه، وعَبَّر عن جَنانه، وتحقق حلمه اللذيذ الذي كان يراه بعيد المنال وضربًا من المحال فلم يتمالك نفسه، وانفجر قائلًا:{هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (3).

ولعلَّ الله أجاب دعائي وقص عليه القصة بطولها، وفرح الشيخ ودعا له بالتوفيق، وأملى أسماء كتب يُستعان بها في هذا الموضوع، وابتدأ العمل من غدٍ، وكان ذلك لليلة خلت من ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وثلاث مائة وألف.

(1) انظر ترجمته في: "نزهة الخواطر"(8/ 148)، و"أوجز المسالك"(1/ 142).

(2)

كان من تلاميذ الشيخ الأذكياء المرجويين، ومات شابًا رحمه الله.

(3)

سورة يوسف: الآية 100.

ص: 38

وكان منهج التأليف أن الشيخ كان يرشد إلى مظان الموضوع في الكتب التي جمعت، وتوجد في مكتبة المدرسة، وكان التلميذ يجمع المواد العلمية وما كتبه المتقدمون من الشراح والمؤلفين، ويقرأها على الشيخ، فيختار منها ما يستحسنه، ويملي الشرح.

واستمر العمل، والشيخ لا هَمَّ له ولا لذة إلَّا في هذا العمل الذي يعدُّه من أعظم القربات، ومن أفضل العبادات، والتلميذ لا شغل له - إلَّا ساعات تمضي في دروس معدودة- إلَّا مطالعة الكتب وجمع المواد وعرضها على الشيخ.

ومضت على ذلك تسعة أشهر، وتمَّ شرح الجزء الأول في سلخ ذي القعدة 1335 هـ، وكان الشيخ قد ملكته فكرة هذا التأليف وتغلغلت في أحشائه، وخالطت لحمه ودمه، وسيطرت على مشاعره وتفكيره وذوقه، حتى كان آخر ما يفكر فيه قبل النوم وأول ما يهتم به عند اليقظة، وحق له أن ينشد بلسان الشاعر الحماسي (1):

أآخر شيء أنت في كل هَجْعَة؟

وأول شيء أنت عند هبوبي

ولا يفهم ذلك إلَّا من أكرمه الله بالغرام بمبدأ سام ومقصد رفيع، فكان ذلك عنده مقياس الرضا ووسيلة القرب، فبمقدار عناء الرجل في هذا العمل وإعانته عليه ومساهمته فيه كان حظيًا عنده، وجيهًا في عينه، وقد عرف الناس ذلك وانتفعوا به، وتقربوا إليه.

ذكرني هذا بما ذكره القاضي ابن شدّاد (2) عن السلطان صلاح الدين الأيوبي (3)، يقول: "ولقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيمًا، بحيث ما كان له حديث إلَّا فيه،

(1) انظر: "ديوان الحماسة"(ص 114).

(2)

انظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء"(22/ 383)، و"وفيات الأعيان"(7/ 84).

(3)

انظر ترجمته في: "وفيات الأعيان"(7/ 139).

ص: 39

ولا نظر إلَّا في آلته، ولا كان له اهتمام إلَّا برجاله، ولا ميل إلَّا إلى من يذكره ويحث عليه، وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد" (1).

ومن يقرأ كتب التراجم والطبقات، يرى أمثلة هذا الشغف والاستغراق عند كثير من العلماء والمؤلفين والعظماء والمصلحين في مشاربهم وأذواقهم.

وإذا استولى هذا الحب على إنسان، وجرى منه مجرى الروح والدم أتى بالعجائب، وكان مصدر إلهام وتوجيه، وقد وقع للشيخ بعض حوادث غريبة، فمنها أنه رأى مرة فيما يرى النائم كأن مُنَبِّهًا يُنَبِّهَهُ على خطأ في هذا الشرح، وقد فرغ منه، فلما استيقظ دعا تلميذه الشيخ محمد زكريا، وأخبره بهذه الرؤيا ، ولما راجع هذا المقام وجد أن فيه خطأ فأصلحه.

وكان العمل قائمًا على قدمٍ وساقٍ، وكان الشيخ منصرفًا إليه بقلبه وقالبه، وتلميذه مقبلًا عليه بجميع قواه ومواهبه، إذ عرضت للشيخ رحلة إلى الربوع المقدسة مهبط الوحي ومدرسة الحديث الأولى، وأبدى التلميذ - بما رأى من حرص الشيخ على إتمام هذا الكتاب مع ضعفه وعلوّ سنّه - رغبته في المرافقة، فقبلها الشيخ مسرورًا، وأَمَلَ في تمام هذا العمل، وتوجَّها على بركة الله إلى الحرمين الشريفين، وذلك في شهر شوال سنة 1344 هـ. ولم يزالا مكبين على إتمام هذا الشرح، منقطعين إليه، لا يتخللهما إلَّا العبادة والفرائض الدينية والأمور الطبيعية.

وكان الشيخ له دعوات ثلاث، وأماني عزيزة، لا تعدل بها أمنية، أُولاهما: أن تقوم في الحجاز حكومة إسلامية مستقرة، ويسود في ظلها الأمن والسلام وتستقر الأمور، والثانية: إكمال "بذل المجهود"، والثالثة:

(1)"النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية"(ص 16).

ص: 40