الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالةُ الإِمامِ أَبي داودَ إِلى أَهلِ مكَّةَ في وصْفِ الكِتابِ وبَيان خصائِصِهِ والتِزاماتِهِ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمه الجمّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تزيح كلّ كرب وغمّة، وأشهد أنَّ سيدنا محمّدًا عبده ورسوله الذي أنار بشريعته البيضاء حلك الليالي المدلهمة، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه المخصوصين بعلوّ الهمّة.
قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة:
سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم الله (1) الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلّي على محمَّد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم كلَّما ذُكِرَ.
أمّا بعد: عافانا الله وإيّاكم عافيةً لا مكروه معها، ولا عقابَ بعدَها، فإنكم سألتموني (2) أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب "السنن" أهي أصحُّ ما عرفتُ في الباب؟ ووقفتُ على جميع ما ذكرتم.
فاعلموا أنه كذلك كله، إلَّا أن يكون قد رُوي من وجهين صحيحين: أحدهما أقوى (3) إسنادًا، والآخر صاحبه أقدم
(1) قوله: "أحمد إليكم الله"، أي: أحمد معكم الله.
(2)
في نسخة: "سألتم".
(3)
في "شروط الأئمة الخمسة": "أحدهما أقدم إسنادًا والآخر صاحبه أقوم في الحفظ"، وفي مخطوطة الظاهرية:"أحدهما أقوم إسنادًا، والآخر صاحبه أقدم في الحفظ".
في الحفظ، فربما كتبت ذلك (1)[ولا أرى في كتابي مِن هذا عشرة أحاديث].
ولم أكتب بالباب إلَّا حديثًا أو حديثين، وإن كان في الباب أحاديث صحاح فإنه يكثر [وإنما أردتُ قُربَ منفعته].
وإذا أعدتُ الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة، فإنما هو من زيادة كلام فيه، [وربما فيه كلمة زائدة على الأحاديث]، وربما اختصرتُ الحديث الطويل؛ لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعضُ مَن سمعه [المراد منه] ولا يفهم موضع الفقه منه، فاختصرته لذلك.
وأمّا المراسيل: فقد كان يحتجّ بها العلماء فيما مضى، مثل: سفيان الثوري، ومالك [بن أنس]، والأوزاعي، حتى جاء الشافعي فتكلم فيها (2)، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره (3).
فإذا لم يكن مسند غير المراسيل، ولم يوجد المسند فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتّصل في القوَّة.
وليس في كتاب "السنن" الذي صنَّفته عن رجل متروك الحديث شئ (4)، إذا كان فيه حديث منكر بيَّنت أنه منكر، وليس على نحوه في الباب غيره.
(1) أي ذلك الأقدم في الإسناد لعلو سنده مع تقدم الآخر في الحفظ.
(2)
انظر: كتاب "الرسالة" للشافعي (ص 461 - 465)، و"شرح علل الترمذي" لابن رجب الحنبلي (1/ 545 - 557).
(3)
اختلفت الرواية عن أحمد في الاحتجاج بالمرسل وعدمه، انظر:"شرح علل الترمذي"(1/ 552).
(4)
قال ابن رجب في "شرح علل الترمذي"(2/ 612): مراده أنه لم يخرج لمتروك الحديث عنده على ما ظهر له، أو لمتروك متفق على تركه.
[(1) وهذه الأحاديث ليس منها في كتاب ابن المبارك، ولا كتاب وكيع، إلَّا الشيء اليسير، وعامّته في كتاب هؤلاء مراسيل، وفي كتاب "السنن" من "موطأ مالك بن أنس" شيء صالح، وكذلك من "مصنَّفات" حمَّاد بن سلمة، وعبد الرزّاق.
وليس ثلث هذه الكتب (2) فيما أحسبه في كتب جميعهم أعني مصنَّفات مالك بن أنس، وحمَّاد بن سلمة، وعبد الرزَّاق.
وقد ألَّفته نَسَقًا على ما وقع عندي (3)، فإن ذُكرَ لك عن النبي صلى الله عليه وسلم سُنَّةٌ ليس ممَّا خرَّجته فاعلم أنه حديث واه (4)، إلَّا أن يكون في كتابي من طريق آخر، فإني لم أخرج الطرق؛ لأنه يكثر على المتعلِّم.
ولا أعرف أحدًا جمع على الاستقصاء غيري، وكان الحسن بن علي الخلَّال قد جمع منه (5) قدر تسع مئة حديث، وذكر أنَّ ابن المبارك قال: السنن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحو تسعمائة حديث، فقيل له: إنَّ أبا يوسف قال: هي ألفٌ ومئة، قال ابن المبارك: أبو يوسف يأخذ بتلك الهَنات من هنا وهنا نحو الأحاديث الضعيفة].
وما كان في كتابي من حديث فيه وهنٌ شديدٌ، فقد بَيَّنْتُه، ومنه ما لا يصحّ سنده.
(1) ما بين المعكوفتين سقط في الأصل وقد زدته من "رسالة أبي داود" المطبوعة.
(2)
أي: كتب "سننه" من الطهارة والصلاة والزكاة وما إلى ذلك، ويريد بهذه العبارة أن زيادات كتابه "السنن" عن كتب جميع هؤلاء العلماء تبلغ نحو ثلث الكتاب، والله أعلم.
(3)
يعني أنه ألَّفه على منهج واحد مطّرد حسب ما اقتضاه نظره.
(4)
قال النووي: إنَّ "سنن أبي داود" لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام، ولا معظمها، انظر:"إرشاد الفحول"(4/ 299).
(5)
أي: من حديث السنن.
وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح (1)، وبعضها أصحّ من بعض، [وهذا لو وضعه غيري لقلت أنا فيه أكثر (2)]، وهو كتاب لا يرد عليك سُنَّة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بإسناد صالح إلَّا وهي فيه، إلا أن يكون كلام اُسْتُخْرِجَ من الحديث، ولا يكاد يكون هذا.
ولا أعلم شيئًا بعد القرآن ألزم للناس أن يتعلَّموا مِن هذا الكتاب، ولا يضرُّ رجلًا أن لا يكتب من العلم - بعد ما يكتب هذا الكتاب - شيئًا، وإذا نظر فيه وتدبَّره وتفهَّمه حينئذ يعلم مقداره.
وأمّا هذه المسائل، مسائل الثوري ومالك والشافعي، فهذه الأحاديث أصولها، ويعجبني أن يكتب الرجل مع هذه الكتب من رأي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3)، ويكتب أيضًا مثل جامع سفيان الثوري، فإنه أحسن ما وضع الناسُ من الجوامع.
والأحاديث التي وضعتها في "كتاب السنن" أكثرها مشاهير، وهي عند كل مَن كتب شيئًا من الحديث إلَّا أنَّ تمييزها لا يقدر عليه كل الناس، والفخرُ بها أنها مشاهير، فإنه لا يُحْتَج بحديثٍ غريبٍ، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات مِن أئمّة العلم.
ولو احتجَّ رجل بحديث غريب وجدتَ مَن يَطْعَنُ فيه ولا يَحْتَجُّ بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريبًا شاذًّا، فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يردّه عليك أحد.
(1) أي: للاعتبار أو الحجة.
(2)
أي: لأطريته بالثناء والمدح أكثر ممّا ذكرته.
(3)
هذا القول من الإِمام أبي داود - رحمه الله تعالى- يشعر بأهميّة أقوال الصحابة واجتهاداتهم فإنها تقع كالشرح والتفسير لمشكلات السنة.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الغريبَ من الحديث، وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فانشُدْهُ كما تُنْشَد الضالةُ، فإن عُرِفَ وإلَّا فَدَعْهُ.
وأنَّ مِن الأحاديث في كتاب "السنن" ما ليس بمتَّصِل، وهو مرسل ومدلَّس، وهو إذا لم توجد الصّحاحُ عند عامّة أهل الحديث على معنى أنه متّصل، وهو مثل الحسن عن جابر، والحسن عن أبي هريرة، والحكم عن مِقْسَم عن ابن عباس، وليس بمتصل.
وسماعُ الحكَم عن مِقسَم أربعةُ أحاديث.
وأما أبو إسحاق عن الحارث (1) عن علي فلم يسمع أبو إسحاق من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس فيها مسند واحد.
و[أمّا] ما في كتاب "السنن" من هذا النحو فقليل، ولعلّ ليس للحارث الأعور في كتاب "السنن" إلَّا حديث واحد، وإنما كتبته بأَخَرةٍ (2).
وربما كان في الحديث ما تثبت (3) صحّة الحديث منه، إذا كان يخفى ذلك عليَّ، فربّما تركت الحديث إذ لم أفقهه، وربما كتبته [وبيّنته] وربّما لم أقف عليه، وربما أتوقَّف عن مثل هذا؛ لأنه ضرر على العامّة أن يكشف لهم كلُّ ما كان من هذا الباب، فيما مضى من عيوب الحديث؛ لأنَّ علم العامة يَقْصُر عن مثل هذا.
وعدد كتب (4) هذه "السنن" ثمانية عشر جزءًا مع المراسيل، منها جزء واحد مراسيل.
(1) أي: الحارث الأعور.
(2)
أي: أخيرًا.
(3)
في الأصل: "لم يثبت".
(4)
يريد بالكتب هنا: الأجزاء.
وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من المراسيل، منها ما لا يصحّ (1)، ومنها هو ما مسند عند غيري، وهو متّصل صحيح (2).
ولعلّ عدد الذي في كتبي من الأحاديث قَدْرُ أربعة آلاف وثمانمائة حديث (3)، ونحو ستمائة حديث من المراسيل (4).
فَمَن أَحَبَّ أن يُمَيِّزَ هذه الأحاديث مع الألفاظ، فربّما يجيء حديث من طريق، وهو عند العامّة من طريق الأئمة الذين هم مشهورون، غير أنه ربما طلب اللفظة التي تكون لها معانٍ كثيرة.
وممَّن عرفتُ مَن نقل مِن جميع هذه الكتب فربّما يجيء الإِسنادُ، فَيُعْلَمُ من حديث غيره أنه غير متّصل، ولا يتبيّنه السامع إلَّا بأن يعلم الأحاديث، ويكون له معرفة فيقف عليه، مثلُ ما يُرْوَى عن ابن جريج، قال: أُخْبِرتُ عن الزهري، ويرويه البُرْسَاني عن ابن جريج عن الزهري. فالذي يَسْمَعُ يَظُنُّ أنه متّصل، ولا يصحّ بتّةً، وإنما تركناه لذلك؛ لأنَّ أصل الحديث غير متّصل، [ولا يصحّ] وهو حديث معلول، ومثل هذا كثير، والذي لا يعلم يقول: قد ترك حديثًا صحيحًا من هذا، وجاء بحديث معلول.
وإنما لم أُصَنِّف في كتاب "السنن" إلَّا الأحكام، ولم أُصَنِّف كتب "الزُّهْد" و"فضائل الأعمال" وغيرها.
(1) لِعِلَّةٍ في سنده غير الإرسال، أو لكون مرسله يرسل عن الضعفاء والمتروكين.
(2)
ولما لم يكن عنده مسندًا أورده مرسلًا، أو لوجه آخر اقتضى إيراده مرسلًا.
(3)
وقد عدَّ الأستاذ الشيخ محمد محيي الدّين عبد الحميد أحاديث "سنن أبي داود" في الطبعة التي خدمها، فبلغت (5274) حديثًا، ولا غرابة في هذا لأنَ النسخ تختلف بالزيادة والنقصان في عدد الأحاديث.
(4)
عدد المراسيل حسب ترقيم الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لكتاب "المراسيل"(544) حديثًا.
فهذه أربعة آلاف والثمانُمائة، كلها في الأحكام (1)، فأمّا أحاديث كثيرةٌ صحاحٌ في "الزُّهد" و"الفضائل" وغيرها من غير هذا فلم أُخَرِّجها.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلَّى الله على سيّدنا محمَّد النَّبِيّ وعلى آله الطيّبين الطَّاهرين، وأصحابه المنتَخَبين، وأزواجه أُمَّهات المؤمنين، وسلَّم تسليمًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل (2).
انتهت الرسالة
(1) بل في كتاب "السنن" بعض أبواب لا تتعلّق أصالة بالأحكام نحو "الحروف والقراءات" و"الملاحم" و"السنَة" وغيرها.
(2)
أثبتُ بعض السقطات في الأصل، وزدت بعض الفوائد من "رسالة أبي داود" المطبوعة بتحقيق فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة رحمه الله والنسخة المطبوعة بتحقيق الدكتور محمد بن لطفي الصبّاغ.
مقدمة بذل المجهود
صورة الصفحة الأولى من مقدّمة الطبعة الهندية
بَذْلُ المَجهُودِ فِي حَلِّ سُنَنِ أبي دَاوُد
تأليف
الإِمَام الْمُحدِّثِ الْكَبِيرِ الشَّيْخ خَلِيل أَحْمَدَ السَّهَارنفوري
(ولد سنة 1269 هـ - وَتُوفِّي سنة 1346 هـ)
مَعَ تعليقات
الإِمَامِ الْمُحدِّثِ الشَّيْخ مُحَمَّد زَكَرِيَّا الْكَاندهلَوِي الْمَدَنِي
(توفّي سنة 1402 هـ)
اعتني بِهِ وَعلَّق عَلَيْهِ
الْأُسْتَاذ الدكتور تَقِيّ الدّين النَّدْوِي
الْجُزْء الأوَّل
طبع هَذَا الْكتاب عَليّ نَفَقَة سمو الشَّيْخ سُلْطَان بن زايد آل نهيان
نَائِب رَئِيس مجْلِس الوزراء لدولة الإمارات الْعَرَبيَّة المتحدة