الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخامس: أنَّ ثلثي الكتاب أحاديث صحاح، وما عداها حسان وضعاف ضعفًا يسيرًا.
السادس: أنَّ كتابه أكثر فقهًا من كتاب البخاري، وأنَّ مؤلّفه فاق جميع أرباب الصّحاح تفقُّهًا.
السابع: أنه أوفى كتاب في أحاديث الأحكام، ولا يحتاج أحد بعده إلى كتاب غيره في الأحاديث المتعلقة بمذاهب الفقهاء والأئمة، اللَّهُمَّ إلَّا أن يكون كتاب "شرح معاني الآثار" للإِمام أبي جعفر الطحاوي نابغة عصره في الحديث والفقه والتوحيد ومشكلات الآثار. ومِن أجل هذا تراه مِن أنفع كتب الحديث لمن يُعنى بأحاديث الأحكام في الحلال والحرام.
ولذا تَرَى الإِمام أبا بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص عظيم الاهتمام به وجيِّد إلاستحضار لأحاديثه، خاصة في شرحيه على نسختي "الجامع الكبير" وشَرْحَيْه على "مختصر الطحاوي" و"مختصر الكرخي" وفي "أحكام القرآن" وغيرها مِن مؤلَّفاته، بحيث تجد أحاديثه على طرف لسانه يسوقها بسنده كلما لزم مع سعة دائرة روايته في أحاديث الأحكام من سائر دواوين الحديث، قاله الكوثري.
وأرى في هذا القدر كفاية للباحث الخبير.
كلمة في المولِّف الإِمام وخصائص شرحه
إنَّ هذه الأُمّة المحمَّديّة تباهي بأفرادها وأفذاذها دائمًا، لا يخلو قرن من القرون الإِسلاميّة إلَّا ونجد هناك رجالًا مِن علمائها وصالحيها تتباهى بهم الملائكة، كلّ منهم إمام أمّة يُدْعى في ملكوت السماوات عظيمًا تفتخر به أهل السماء وأهل الأرض، وكل عصر من العصور الإِسلامية، وكل بلدٍ من البلاد الإِسلامية تجد هناك منهم رجالًا، فحينًا تظهر عبقريّتهم في حقائق إلهيّة، وحينًا في العلوم النبويّة، وحينًا في العلوم الإِسلاميّة، وتارةً في عبادة وتقوى وخشية إلهيّة، وتارةً في ورع وزهد وتعب ونصب وترك الشهوات
والملذّات، وتارةً في إصلاح نفوس وتزكية قلوب وتربية أرواح، ومرة في حبّ جهاد ونشر دعوة في ربوع العالم وأقطار البسيطة، ومرة أُخرى في إيثار وحبّ خمول واستقامة ومواجيد عرفانية وذوقية من علوم العرفاء، وحينًا في تدريس وتأليف ووعظ وإرشاد، وحينًا تجتمع فضائل من هذه الخصائل المتضادّة في بعض أفرادها، وما إلى ذلك من كمالات علمية وعرفانية يتلألأ فيها النبوغ الخارق والعبقرية الفذّة، وتتجلّى فيهم كمالات النبوّة ووراثتها وإن لم يكونوا أنبياء.
وهناك نشاهد ما قاله صلى الله عليه وسلم: "مثل أُمَّتي كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره (1) "، فلكون هؤلاء الأفذاذ أصبحوا منابع للخير والرشد كأنه وقع الذهول عن أول الأمة وبركاتها وخيراتها فجاء هذا التعبير، وإن كان أول هذه الأمة أَبَرّها قلوبًا وأعمقها علومًا وأقربهم إلى الله زلفى.
ويحدِّثنا التاريخ أنَّ هذه البلاد الهندية وإن كان حظّها ضئيلًا في نشأة الأمر في الرجال والأفذاذ، ولكن يرى أنَ سُحُب الرَّحمة الإِلهية قد جادت من أوَّل الألف الثاني جودًا غزيرًا، فنشأت شخصيّات وعبقريّات لا يُماثِلُها في البلاد الإِسلامية الأخرى.
فالإِمام الرَّبَّاني الشيخ أحمد السرهندي، وأنجاله البررة الأتقياء وخلفاؤه الأصفياء، ثم الشيخ الشاه وليّ الله الدهلوي وأنجاله، خصوصًا: الحجّة عبد العزيز الإِمام، وابن أخيه الشيخ إسماعيل الشهيد، وشيخه السيد أحمد البريلوي الشهيد، ثم قطب العصر الحاج إمداد الله التهانوي المهاجر المكي، والشيخ الحجة محمد قاسم النانوتوي، ومحدِّث هذه العصور وفقيهها الشيخ رشيد أحمد الكَنكَوهي، ورجالات من النابغين في:"كاندهلة"، و"ديوبند"، و"تهانه بهون"، و"سهارنفور"، و"كَنكَوه"، نبغوا في هذه العصور الأخيرة فأصبحوا محلّ إعجاب وتقدير
(1) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(2/ 276) رقم (1349) وابن عبد البر في "التمهيد"(20/ 252).
للأُمّة الإِسلامية، وقد نفع الله الأمة بأنفاسهم القدسية الطَّاهرة علمًا وعملًا ، ظاهرًا وباطنًا.
وأرى أنَّ الشيخ المحدِّث الفقيه الأصولي الشيخ خليل أحمد بن مجيد علي الأنصاري شارح "سنن أبي داود" كان من هؤلاء النوابغ في عصره، تلقّى مبادئ العلوم ثم العلوم النقلية والعقلية من المشايخ الذين كانوا غرر عصرهم، وكانوا كشامة في محيَّا الدهر من علماء وفقهاء ومحدِّثين ربّانيِّين أصفياء أرباب التُّقى والإِخلاص، كالشيخ يعقوب بن مملوك العلي النانوتوي، والشيخ محمد مظهر النانوتوي، والشيخ فيض الحسن السهارنفوري وغيرهم من مشايخ ديوبند وسهارنفور.
واستجاز في رحلاته عن مشايخ الحرمين كـ: الشيخ عبد الغني الفاروقي العمري المجددي، والشيخ أحمد زيني دحلان، والشيخ السيد أحمد البرزنجي وغيرهم. وفاز بإجازة إرشاد ولبس الخرقة من حضرة العارف المحقِّق الشيخ إمداد الله التهانوي ثم المكي- قدس الله سرّه -، وألبسه عمامته إشارة إلى خلافته وكونه أهلًا لنيابته هداية وإرشادًا. فترعرع شابًّا فاضلًا يُشار إليه بالأصابع في إبان شبابه وريعان عمره.
ثم بايع على يد قطب عصره (1)، فقيه هذه الأمة بعصره، لم يأت بعدَ حجّة العصر الشاه عبد العزيز الدهلوي ابن الشاه وليّ الله الدهلوي مثله في الجمع بين علوم الظاهر والباطن وتفقُّه النفس والتفاني في اتّباع السُّنَّة وترويجها، وإماتة البدع المنكرة، ومن وُضع له القَبول في الأرض بعد ما وضع له القَبول في ملائكة السماوات، وجَابَ العقبات، وارتاض بالمجاهدات، وبأذكار وأشغال على طريقة أهلها، فوصل إلى ما وصل من معارف إلهية ومواجيد عرفانية، فجمع إلى كمالاته العلمية هذه المزايا العرفانية.
(1) هو الإِمام المحدث العالم الرباني الشيخ رشيد أحمد الكَنكَوهي المتوفى سنة 1323 هـ.
فكسته بيعة الشيخ وصحبته وتوجُّهاته الروحية القلبية أنفاسًا نقيّة وأخلاقًا زكيًّة وأعمالًا رضيًّة وإخلاصًا عظيمًا، حتى أصبح عارفًا بعد ما كان عالمًا، وأصبح خير خلف لسلفه في إخلاص وتقوى ورد بدع ونشر سنّة.
وبقي عاكفًا على تدريس علوم شتّى في شتّى المراكز العلمية في "بهوفال"، و"سكندرآباد"، و"بهاولفور"، و"بريلي"، ثم "ديوبند"، ثم "سهارنفور" نحو خمسين عامًا، يدرِّس ويؤلِّف ويرشد ويخدم العلم والدِّين بشتّى الوسائل، فأصبح عالمًا عارفًا فقيهًا محدِّثًا.
وكان وسيم الطلعة جميل المحيّا، يملأ العين جمالًا والقلب سرورًا، وكان لطيف الروح خفيف الجسم ربعًا من الرجال خفيف اللحية.
قد تشرَّفتُ بزيارته المغتبطة نحو ساعة في مجلس بـ "ديوبند" حينما زار "ديوبند" مستودعًا الشيخ الحافظ أحمد ابن الشيخ القاسم النانوتوي والشيخ حبيب الرحمن الديوبندي قبل رحلته الأخيرة إلى الحرمين الشريفين، وتشرَّفتُ بالمصافحة وتقبيل يديه الكريمتين، وكأنَّ الشيخ ماثل أمامي انظر إليه بعينيّ، وذلك في شعبان سنة 1344 هـ قبل خمسين عامًا إلَّا عامًا.
فقد جمع الله سبحانه مع هذا الجمال الظاهر جمال الباطن، وجمع له مع علوم الظاهر علوم الباطن مع توفيق إلهي دائم مستمرّ بإخلاص ونشاط، حتى كان آخر حياته المباركة في خير بقاع الأرض "طيبة النبي" - عليه صلوات الله وسلامه -، وهناك توفي رحمه الله في ربيع الآخر سنة 1346 هـ عن سبع وسبعين سنة، ودُفِن بالبقيع في جوار سيِّدنا ذي النورين عثمان بن عفّان رضي الله عنه بجنب شيخه الشيخ عبد الغني المجددي المهاجر المدني.
ففاز بحياة طيِّبة ملؤها علم ودين ومعرفة وإرشاد، تدريس وتأليف، أذكار وأشغال، وذبّ عن الدِّين وإحياء للسُّنة وإماتة للبدع، وغضب في الله وحمية دينية لله، لا يخاف في الله لومة لائم، مجتهدًا في خدمة العلم والدِّين بطرف غير نائم وفكر مستمر دائم.
فجزاه الله عنّا وعن سائر أهل العلم خير ما جزى عباده المحسنين والعلماء الربّانيَّين.
ويكفي نباهة لمثله بما أثنى عليه مثل شيخه القطب الربّاني فقيه هذه الأمة وحكيمها، وعارف هذه الملَّة وزعيمها الشيخ رشيد أحمد الكَنكَوهي المتوفَّى سنة 1323 هـ - قدَّس الله سرّه - في "مكاتيبه"، ما ترجمته بالعربية:
"المولوي خليل أحمد - مدَّ الله فيوضهم -:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وصل خطابكم وكشف أحوالكم، إنَّ تلك الواردات - القلبية الغيبية - من الإِنابة إلى الله من بواعث الفرح والسرور، تستوجب حمد الله سبحانه، فإنها أكبر نعمة، وآلاف آلاف من نعم الدنيا لا تعدل جناح بعوضة في مقابلة هذه النعمة، وهذه الحالة مفخرة لي ومن بواعث الحمد والشكر.
وإني وإن كنت محرومًا عن مثل هذه العطايا والمزايا ولكن - والحمد لله - أنَّ أحبابي تواترت عليهم أمثال هذه العطيّات الإِلهيّة، وأتمثَّل ببيت من الفارسية ما معناه:
أحب أن آخذ شعرة من رأسك معي في القبر لكي أستظلّ بها يوم القيامة
…
والسلام". (مكاتيب رشيدية ص 40 رقم 43).
وكتب مرة:
"وصل خطابكم، وذكَّرني عهد الوداد، إني أراكم ذخيرة خيرات، فلا أنساكم أبدًا، ولستم ممن ينسون، وأرجو دعواتكم، والسلام". (مكاتيب رشيدية ص 38 رقم 40).
فيا سبحان الله! إمام كبير وشيخ عظيم مثل القطب الكَنكَوهي يخاطبه بهذه الطيبة، ليست هي من رجل عامي أو شاعر إسلامي يكون من دأبه المبالغة والإِطراء، ولا من صاحب له يثني على شيخه، ولا من مسترشد