الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخُبُثِ والْخَبَائِثِ". [جه 296، حم 4/ 369، خزيمة 69، ق 1/ 96]
(4) بَابُ كَرَاهِيَّةِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلةِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ
===
(فإذا أتى (1) أحدكم الخلاء) أي أراد إتيان الخلاء، وقد تقدم الكلام فيه (فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث).
(4)
(بَابُ كَرَاهِيَّةِ (2) اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ)
القبلة ما يُستقبل وُيتَوَّجَهُ إليها، والمراد بها ها هنا جهة الكعبة، فكما أمر في الصلاة بالاستقبال إليها تعظيمًا واحترامًا لها، كذلك نُهِي عن استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة احترامًا وتكريمًا لها.
واختلف العلماء في ذلك على أقوال ومذاهبَ، قال العيني في "شرح البخاري" (3): ثم اعلم أن حاصل ما للعلماء في ذلك أربعة مذاهب، أحدها: المنع المطلق وقد ذكرناه، الثاني: الجواز مطلقًا، الثالث: أنه لا يجوز الاستقبال في الأبنية والصحراء، ويجوز الاستدبار فيهما وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله، الرابع: أنه يحرم الاستقبال والاستدبار في الصحراء دون البنيان، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق وأحمد في رواية، انتهى.
ثم ذكر العيني ها هنا ثلاثة مذاهب أخرى (4) لا نطوِّل الكلام بذكرها.
(1) أعم من لفظ الترمذي "دخل"، قال ابن رسلان: احتجَّ بظاهره جماعة، فأباحوه في الخلاء لحقيقة "أتى". (ش).
(2)
قلت: وظاهر صنع المصنف أن الاستقبال عنده مكروه مطلقًا، مرخَّص ضرورة، حيث ترجم بعد ذلك "باب الرخصة في ذلك". (ش).
(3)
"عمدة القاري"(2/ 394).
(4)
وذكر صاحب "الغاية" ثمانية مذاهب، وكذا في "الأوجز"(4/ 162)(ش).
7 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدِ، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (1)، عن الأعمَشِ ،
===
والحديث دليل على عدم جواز استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط، سواء كان في الصحراء أو في البنيان (2)، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وبه قال أبو أيوب الأنصاري ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري وأبو ثور وأحمد في رواية، ونسبه في "البحر" إلى الأكثر، ذكره الشوكاني في "النيل"(3).
7 -
(حدثنا مسدد بن مسرهد، ثنا أبو معاوية) بضم الميم وألف بعد العين، محمد بن خازم- بمعجمتين - التميمي السعدي مولاهم، الكوفي، الضرير، عمي وهو صغير (4)، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره، وقد رمي بالإرجاء، وقال يعقوب بن شيبة: كان من الثقات، ربما دلَّس، وكان يرى الإرجاء، وقال الآجري عن أبي داود: كان مرجئًا، وقال مرة: كان رئيس المرجئة بالكوفة، وذكرها ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان حافظًا متقنًا، ولكنه كان مرجئًا خبيثًا، مات سنة 195 هـ، وله اثنتان وثمانون سنة.
(عن الأعمش) سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي مولاهم، أبو محمد، الكوفي، ثقة حافظ، لكنه يدلس، ولد يوم قتل الحسين - رضي الله تعالى عنه -، ومات سنة 47 هـ، أو سنة 48 هـ (5).
(1) وفي نسخة أخرى "أبو معوذ" غلط. كذا في "غاية المقصود". (ش).
(2)
قال ابن دقيق العيد: اختلفوا في العلة، فقيل: كشف العورة ، فيحرم الوطء أيضًا، وقيل: خروج النجس؛ فلا يدخل. (ش). (انظر: "إحكام الأحكام" 1/ 53).
(3)
"نيل الأوطار"(1/ 103).
(4)
ابن ثمان سنين (ش).
(5)
أي بعد المئة. (ش).
عن إِبْرَاهِيمَ ،
===
(عن إبراهيم)(1) بن يزيد بن قيس بن أسود النخعي بنون ومعجمة مفتوحتين، أبو عمران الكوفي، قال ابن معين: مراسيل إبراهيم أحبُّ إليّ من مراسيل الشعبي، ثقة إلَّا أنه يرسل كثيرًا، قال الحافظ أبو سعيد العلائي: هو مكثر من الإرسال، وجماعة من الأئمة صحَّحوا مراسيله (2)، قال ابن المديني: لم يلق النخعي أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: فعائشة؟ قال: هذا لم يروه غير سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم وهو ضعيف، ورواية سعيد عن أبي معشر ذكرها ابن حبان بسند صحيح إلى سعيد عن أبي معشر أن إبراهيم حدثهم: أنه دخل على عائشة فرأى عليها ثوبًا أحمر، وقال ابن معين: أُدخل على عائشة رضي الله عنها وهو صغير، ونقموا عليه قوله:"لم يكن أبو هريرة فقيهًا".
قال الذهبي: قلت: استقر الأمر على أن إبراهيم حجة، مات سنة 96 هـ، وهو ابن خمسين، قلت: قول علي بن المديني: إن إبراهيم لم يلق أحدًا من الصحابة، وكذا قول أبي حاتم: لم يلق النخعي أحدًا من الصحابة إلَّا عائشة ولم يسمع منها، وأدرك أنسًا ولم يسمع منه، مات سنة 96 هـ، وولادته سنة 55 هـ عجيب؛ لأنه ذكره ابن حبان في "ثقات التابعين"(3)، وقال: سمع المغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك، ودخل على عائشة وكان مولده سنة خمسين، ومات [سنة] خمس أو ست وتسعين.
وقال الترمذي في "كتاب العلل"(4): حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر
(1) نسبه ابن رسلان هكذا: إبراهيم بن يزيد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن سعد بن مالك بن النخع، المعروف بالنخعي. (ش). [انظر ترجمته في:"تهذيب التهذيب"(1/ 177).
(2)
قال ابن القيم: كل من له ذوق في الحديث إذا قال إبراهيم: قال: عبد الله، لا يتوقف فيه. (ش) انظر:"زاد المعاد"(5/ 580).
(3)
"كتاب الثقات"(4/ 8).
(4)
(5/ 755) في آخر كتاب "سنن الترمذي".
عن عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ يَزِيدَ عن سَلْمَانَ (1)
===
الكوفي، نا سعيد بن عامر، عن شعبة، عن سليمان الأعمش قال: قلت لإبراهيم النخعي: أسند لي عن عبد الله بن مسعود؟ فقال إبراهيم: إذا حدثتكم عن عبد الله فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله فهو عن غير واحد عن عبد الله، انتهى.
وقد عرفت أنه وُلد باعترافهم سنة خمس وخمسين وهو زمان جمع كثير وجم غفير من الصحابة في الكوفة والبصرة ومكة والمدينة وغيرها، كابن أبي أوفى وابن أنيس وأنس وأبي الطفيل وابن الأسقع وغيرهم كثيرون، بل أبو الطفيل وغيره ماتوا بعده بكثير، فكيف لا يسمع منهم مع وجود كثير منهم، والكوفة وغيرها مملوءة منهم؟
وفي "مسند الخوارزمي"(2) تصريح بسماعه عن أنس بن مالك في فرضية طلب العلم، فإنكارهم سماعه عن الصحابة ولقاءه لا يُعبأ به.
(عن عبد الرحمن بن يزيد) بن قيس النخعي، أبو بكر الكوفي، وثقه ابن معين وابن سعد والعجلي والدارقطني، مات أو قتل في الجماجم سنة 83 هـ، قال الدارقطني: هو أخو الأسود وابن أخي علقمة وكلهم ثقات.
(عن سلمان) الفارسي أبو عبد الله ابن الإِسلام، ويقال له: سلمان الخير، أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وتوفي في خلافة عثمان (3) رضي الله عنه سنة 36 هـ. يقال: إنه بلغ ثلاث مئة وخمسين سنة، قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" (4): وقرأت بخط أبي عبد الله الذهبي: رجعت عن القول بأنه قارب ثلاث مئة أو زاد عليها، وتبين لي أنه ما جاوز الثمانين، ولم يذكر مستنده في ذلك.
(1) من المُعَمَّرين "أسد الغابة"(2/ 350). (ش).
(2)
وانظر: "العلل المتناهية" لابن الجوزي (1/ 68) رقم (61).
(3)
بالمدائن. (ش).
(4)
(4/ 139)، وانظر ترجمته في:"أسد الغابة"(2/ 347) رقم (2151).
قَالَ: قِيلَ لَهُ: "لَقَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ! قَالَ: أَجَلْ، لَقَدْ نَهَانَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَأَنْ لَا نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ ،
===
(قال) عبد الرحمن: (قيل له) أي لسلمان، والقائلون (1) كفار المدينة، وهذا القول صدر منهم طعنًا وتنقيصًا:(لقد علَّمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة)(2) بكسر الخاء والمد، أدب التخلي والقعود للحاجة، قال الخطابي (3): أكثرهم يفتحون الخاء، وقال الجوهري: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، (قال) أي سلمان:(أجل) حرف إيجاب، أي: نعم يعلمنا كل شيء حتى الخراءة، أجاب على أسلوب الحكيم (4) ولم يلتفت إلى استهزائهم.
(لقد نهانا (5) صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة (6) بغائط (7) أو بول وأن لا نستنجي) (8) لفظة "لا" زائدة (باليمين) أما النهي عن الاستنجاء باليمين، فقال النووي (9): وقد أجمع العلماء على أنه منهي عنه، ثم الجمهور على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم، وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه
(1) قال ابن رسلان: رجل يهودي. (ش).
(2)
قال ابن رسلان: هي الهيئة، أما نفس الحدث فبحذف التاء وبكسر الخاء وفتحها. (ش).
(3)
"معالم السنن"(1/ 11).
(4)
يعني نحن نحتاج إليه أيضًا في أمور الدين لآداب الخلاء. "ابن رسلان". (ش).
(5)
وهذا مستدل من قال: إن النهي يختص بالاستقبال. "غاية المقصود". (ش).
(6)
قال ابن رسلان: احتج به المانعون مطلقًا، وهو قول أبي أيوب الأنصاري ومجاهد والنخعي والثوري وأبي ثور وأحمد في رواية. "ابن رسلان". (ش).
(7)
أصله المطمئن من الأرض، ثم صار كناية عن الخارج من الدبر، فالباء بمعنى في "ابن رسلان". (ش).
(8)
والاستنجاء مسح موضع النجو، والنجو: الخرء (الغائط). (ش).
(9)
"شرح صحيح مسلم"(2/ 158).
وَأَنْ لَا يَسْتَنْجِي أَحَدُنَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ ،
===
حرام، قال: وأشار إلى تحريمه جماعة من أصحابنا، ولا تعويل على إشارتهم، انتهى. وعلة النهي عن الاستنجاء باليمين احترامها.
(وأن لا يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار)(1) لفظة "لا" ها هنا أيضًا زائدة، وقد سقط عن بعض النسخ.
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال، قال الشوكاني في "النيل" (2): وقد ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور إلى وجوب الاستنجاء، وأنه يجب أن يكون بثلاثة أحجار أو ثلاث مسحات، وإذا استنجى للقبل والدبر وجب ست مسحات لكل واحد ثلاث مسحات، قالوا: والأفضل أن يكون بست أحجار، فإن اقتصر على حجر واحد له ستة أحرف أجزأه، وذهب مالك وداود إلى أن الواجب الإنقاء، فإن حصل بحجر أجزأه، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي، وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى أنه ليس بواجب، انتهى.
فالنهي الذي ورد في هذا الحديث عند الحنفية محمول على أن في غالب الأحوال لا تحصل التنقية إلَّا بها، وأما إذا حصلت التنقية بأقل منها، أو كانت الحالة أنه لم يتلطخ المحل بالنجاسة، ولا يحتاج إلى الاستنجاء كما يشاهد في بعض الأحيان، فحينئذ لو اكتفى على حجرين أو حجر أو لم يستنج أصلًا فالظاهر أنه لا يكره ذلك.
ونظير قولنا في عدم وجوب التثليث قول الشافعية في غسل الطيب عن المحرم، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في رجل جاءه وعليه جبة متضمخة بطيب:
(1) قال ابن القصار: ذكر الثلاثة باعتبار الأغلب، فإن لم تحصل التنقية بها يحتاج إلى الزيادة، وإن اكتفى بحجر له أحرف يجوز. وبسطه ابن رسلان، وقال ابن العربي في "العارضة" (1/ 33): في الحديث ست مسائل. (ش).
(2)
"نيل الأوطار"(1/ 96).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
"أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات"، قال النووي: إنما أمر بالثلاث مبالغة في إزالة لونه وريحه، والواجب الإزالة، فإن حصلت بمرة كفته ولم تجب الزيادة، انتهى.
وقد أشبع الكلام في هذه المسألة العلامة العيني في شرحه على البخاري ذيل حديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسعود يقول: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالثة فلم أجدها، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: هذا ركس".
قال العلامة العيني (1): قال الخطابي: فيه إيجاب عدد الثلاثة في الاستنجاء إلى آخر ما نقل عن الخطابي، ثم أجاب عنه بقوله: قلت: لا نسلم أن فيه إيجاب عدد الثلاث بل كان ذلك للاحتياط، لأن التطهير في الواحد أو الاثنين لم يكن محققًا، فلذلك نص على الثلاث، لأن في الثلاث يحصل التطهر غالبًا، ونحن نقول أيضًا: إذا تحقق شخص أنه لا يطهر إلَّا بالثلاث يتعين عليه الثلاث، والتعيين ليس لأجل التوقيت فيه، وإنما هو للإنقاء الحاصل فيه، حتى إذا احتاج إلى رابع أو خامس وهلم جرًّا يتعين عليه ذلك، على أن الحديث متروك الظاهر، فإنه لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف جاز بالإجماع.
وقوله: وليس في قوله: "فأخذ الحجرين" دليل على أنه اقتصر عليهما لجواز أن يكون بحضرته ثالث، فيكون قد استوفاها عددًا ليس كذلك، بل فيه دليل على ذلك، لأنه لو كان الثلاث شرطًا لطلب الثالث، فحيث لم يطلب دل على ما قلناه، وتعليله بقوله: لجواز أن يكون بحضرته
(1)"عمدة القاري"(2/ 432).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
ثالث، ممنوع؛ لأن قعوده عليه الصلاة والسلام للغائط كان في مكان ليس فيه أحجار، إذ لو كانت هناك أحجار لما قال له:"ائتني بثلاثة أحجار"، لأنه لا فائدة لطلب الأحجار وهي حاصلة له، وهذا معلوم بالضرورة.
وقوله: ولو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة، قلنا: إن ذكر الثلاث لم يكن للاشتراط بل للاحتياط إلى آخر ما ذكرناه الآن، قوله: ونظيرها العدة بالأقراء، غير مسلَّم، لأن العدد فيه شرط بنص القرآن والحديث، ولم يعارضه نص آخر بخلاف العدد ها هنا، لأنه ورد:"من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج".
قلت: أخرجه أبو داود في باب الاستتار في الخلاء، وابن ماجه في باب الارتياد للغائط والبول، وأحمد أيضًا (1).
قال الشوكاني (2): أخرجه ابن حبان والحاكم والبيهقي، ومداره على أبي سعيد الحبراني الحمصي، وفيه اختلاف، وقيل: إنه صحابي، قال الحافظ: ولا يصح، والراوي عنه حصين الحبراني وهو مجهول، وقال أبو زرعة: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في "العلل"، انتهى.
قلت: وأيضًا يدل على ذلك ما أخرجه أبو داود في "باب الاستنجاء بالأحجار" عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنها تجزئ عنه"، قال الشوكاني: روى أحمد والنسائي وأبو داود والدارقطني
(1) انظر "سنن أبي داود" رقم (35) و"سنن ابن ماجه" رقم (3498) و"مسند أحمد"(2/ 371).
(2)
"نيل الأوطار"(1/ 93).
أَوْ يَسْتَنْجِيَ بِرَجِيع أَوْ عَظْمٍ". [م 262، ت 16، ن 41، جه 316]
===
وقال: إسناده صحيح حسن، فإن العلة التي ذكرت في الحديث تدل على أنهم أمروا بالاستطابة بثلاثة أحجار، لأن هذا العدد يكفي في غالب الأحوال لحصول الإنقاء، وهذا هو الذي تقول به الحنفية، ويقولون لمن أوجب ذلك: إن الحديث متروك الظاهر عندكم أيضًا، فإنه لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف جاز عندكم، فعُلِمَ من هذا أن تثليث الأحجار عندكم غير واجب.
(أو يستنجي برجيع) كأمير: عذرة (1) وروث، سمِّي به إذ رجع عن كونه طعامًا أو علفًا (أو عظم) والاستنجاء برجيع أو عظم يكره اتفاقًا إلَّا أن البعض قالوا: لو استنجى برجيع أوعظم لا يطهر محل النجاسة، لأنه ورد في رواية الدارقطني (2):"إنهما لا تطهران"، وعندنا يكره ذلك، فلو استنجى بهما أحد يجوز ذلك مع الكراهة.
وحاصل البحث في ذلك أن عندهم قليل النجاسة وكثيرها يمنع الصلاة، فإذا استنجى أحد بثلاثة أحجار أو بحجر واحد له ثلاثة أحرف يطهر محل الاستنجاء بذلك، ولو لم يستنج بثلاثة أحجار أو بحجر له ثلاثة أحرف لا يطهر محل الاستنجاء، وإن حصلت التنقية بالكلية كما تحصل بثلاثة أحجار، واستدلوا على هذا بمفهوم ذلك الحديث، وقالوا: لما وقع التنصيص بأن الروث والعظم لا يطهران فغيرهما من الحجر والمدر وما يلحقهما يطهران بشرط أن يبلغ العدد الثلاث.
وأما عندنا معشر الحنفية، فالاستنجاء سواء كان بحجر أو مدر أو روث أو بعر أو عظم: غير مطهّر، بل مُنْق ومقلِّل للنجاسة، ولهذا يبقى
(1) إن أريد به الأعم فذاك، وإن اختص بالروث، فعذرة الإنسان وغيرها في حكمه. (ش).
(2)
وأجاب عنه الزيلعي بأن فيه سلمة بن رجاء الكوفي وهو ضعيف. (ش).
[انظر: "سنن الدارقطني" 1/ 56، و"نصب الراية" 1/ 219].
8 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قَالَ: ثَنَا ابنُ الْمُبَارَكِ، عن مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ ،
===
المحل بعد الاستنجاء نجسًا، ولكن الله سبحانه وتعالى لما رأى ضعفنا وعجزنا وأراد اليسر بنا عفا عنا ذلك القدر من النجس ، فإذا استنجى أحد بشيء منها يبقى المحل نجسًا بعد الاستنجاء، فإن بدن الإنسان إذا تنجّس بنجاسة رطبة لا يتطهّر إلَّا بالماء أو ما في معناه، فكذا هذا المحل لا يتطهر إلَّا بالماء أو ما في معناه، حتى لو أن الذي لم يستنج بالماء دخل في الماء القليل أفسده، فعلى هذا قوله عليه الصلاة والسلام:"إنهما لا تطهران"، لا يخالف الحنفية، فإنهم قائلون بأنهما لا تطهران كما أنهم قائلون بأن الحجر والمدر أيضًا لا يطهران.
وأما الاستدلال بالمفهوم فلا يعتبر عندنا، ووجه كراهة الاستنجاء بالرجيع نجاسته، وكراهة الاستنجاء بالعظم كونه زاد الجن، كما ورد في الأحاديث.
8 -
(حدثنا عبد الله بن محمد) بن علي بن نفيل، بنون وفاء مصغرًا، القضاعي (النفيلي) أبو جعفر الحراني، الحافظ، أحد الأئمة، ثقة مأمون، مات سنة 234 هـ.
(قال: ثنا ابن المبارك) عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزي، أحد الأئمة الأعلام وشيوخ الإِسلام، ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد، ولد سنة 118 هـ، ومات 181 هـ.
(عن محمد بن عجلان) القرشي، أبو عبد الله المدني، أحد العلماء العاملين، وثقه أحمد وابن معين، وذكره البخاري في "الضعفاء"، قال في "ميزان الاعتدال" (1): وقد تكلم المتأخرون من أئمتنا في سوء حفظه، قال يحيى القطان: كان مضطربًا في حديث نافع، قال مالك بن أنس: لم يكن
(1)(3/ 644).
عن الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيم، عن أَبِي صَالِحٍ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلّمُكُمْ، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ
===
ابن عجلان يعرف هذه الأشياء ولم يكن عالمًا، مكث ابن عجلان في بطن أمه ثلاث سنين، فَشُقَّ بطنها لما ماتت، وأُخرج وقد نبتت أسنانه، وكان عجلان مولى لفاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، توفي سنة 148 هـ.
(عن القعقاع بن حكيم) الكناني المدني، قال أحمد وابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، (عن أبي صالح) السمان الزيات، اسمه ذكوان المدني، ثقة ثبت، وكان يجلب الزيت إلى الكوفة، مولى جويرية بنت الأحمس الغطفاني، مات سنة 101 هـ.
(عن أبي هريرة)(1) الدوسي اليماني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحافظ الصحابة، كناه أبا هريرة، قيل لأجل هرة كان يحمل أولادها، واختلف في اسمه واسم أبيه اختلافًا كثيرًا (2)، توفي سنة 57 هـ، وهو ابن ثمان وسبعين.
(قال: قال رسول الله): إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم) كلام تأنيس، كما أن الوالد يؤدّب ولده (3)، كذلك أنا أعلمكم أمور دينكم وأؤدبكم بآداب الشرع. (فإذا أتى (4) أحدكم) أي أراد
(1) انظر ترجمته في: "أسد الغابة"(5/ 119) رقم (6328).
(2)
أشار النووي إلى خمسة وثلاثين قولاً، واختلف في صرفه ومنع الصرف أيضًا، ذكر القولين القاري في "المرقاة"(1/ 138). (ش).
(3)
قال ابن رسلان: اختلفوا في أن التعليم مستحب أو واجب كما يجب عليه النظر في ماله، وفيه دليل على أن حق الشيخ كحق الوالد بل أولى منه، ولذا قالوا: إن عقوقه لا يغفر بالتوبة. (ش).
(4)
هو أعم من لفظ دخل فإنه يشمل الصحراء. "ابن رسلان". (ش).
الْغَائِطَ، فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا، وَلَا يَسْتَطِبْ بِيَمِنهِ" ،
===
(الغائط) أي إتيان الغائط (فلا يستقبل (1) القبلة) وقد تقدم الكلام عليه (ولا يستدبرها).
قال العيني (2): احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذا الحديث على عدم جواز استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط، سواء كان في الصحراء أو في البنيان، أخذًا في ذلك بعموم الحديث، انتهى (3).
والرواية الثانية عن الإِمام الأعظم - رحمه الله تعالى - أن الاستدبار غير منهي عنها لحديث ابن عمر الآتي قريبًا" قال: لقد ارتقيت على ظهر البيت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته".
قال الحلبي في "شرحه الكبير على المنية"(4): والصحيح الأول، لأنه إذا تعارض قوله عليه السلام وفعله رجِّح القول؛ لأن الفعل يحتمل الخصوص والعذر وغير ذلك، وكذلك إذا تعارض المحرم والمبيح رجح المحرم، انتهى.
(ولا يستطب بيمينه)(5) أي: لا يستنج باليمنى.
(1) بكسر اللام على الجزم لأنه نهي. "ابن رسلان". (ش).
(2)
"عمدة القاري"(2/ 393)
(3)
وأجاب عنه ابن رسلان بثلاثة أجوبة، أحسنها: أن الغائط حقيقة في المكان الواسع، والثاني: أن حقيقة الاستقبال يكون في الصحراء. (ش).
(4)
(ص 38).
(5)
قال ابن رسلان: الاستطابة والاستنجاء يكونان بالحجارة والماء، والاستجمار يكون بالحجارة فقط. (ش).
وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارِ، وَيَنْهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ. [م 265، ن 40، جه 313، حم 5/ 437، خزيمة 74]
9 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ، ثنَا سُفْيَانُ ،
===
(وكان) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث)(1) بفتح الراء وسكون الواو: رجيع ذات الحوافر (والرمة) جمع رميم وهو العظم البالي، قال في "المجمع" (2): ونهى عنه لاحتمال كونها نجسة ميتة أو لأنها لا تقوم مقام الحجر لملامستها، قلت: وقد وقع التصريح بعلة النهي عنه، لأنها زاد إخوانكم من الجن وهي أولى بالبيان.
9 -
(حدثنا مسدد بن مسرهد، ثنا سفيان)(3) بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي مولاهم، أبو محمد الأعور الكوفي، أحد أئمة الإِسلام.
قال في "ميزان الاعتدال"(4): أجمعت الأمة على الاحتجاج به وكان يدلس، لكن المعهود منه أنه لا يدلس إلَّا عن ثقة، وقال أحمد: كنت أنا وابن المديني فذكرنا أثبت من يروي عن الزهري، فقال علي: سفيان، فقلت أنا: مالك، فإن مالكًا أقل خطأ، وابن عيينة يخطئ في نحو من عشرين حديثًا عن الزهري، ثم ذكرت ثمانية عشر منها، فقلت: هات ما أخطأ فيه مالك فجاء بحديثين أو ثلاثة، فرجعت فإذا ما أخطأ فيه سفيان أكثر من عشرين حديثًا، قال أحمد: وعند مالك عن الزهري نحو من ثلاث
(1) وفي رواية البخاري: "ألقى الروثة وقال: هذا ركس"، وكذا في رواية الترمذي، وأغرب النسائي فقال: الركس طعام الجن. (ش).
(2)
(2/ 385).
(3)
ذكر النووي في سفيان ثلاثة أوجه: ضم السين والفتح والكسر، والأول أشهر؛ وفي عيينة ضم العين وكسرها. (انظر:"تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 224). (ش).
(4)
(2/ 170).
عن الزُّهْرِيِّ ،
===
مئة حديث، وكذا عند ابن عيينة عنه نحو ثلاث مئة، وروى محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي عن يحيى بن سعيد القطان قال: أشهد أن سفيان بن عيينة اختلط سنة 197 هـ، فمن سمع منه فيها فسماعه لا شيء، قلت: سمع منه فيها محمد بن عاصم، ويغلب على ظني أن سائر شيوخ الأئمة الستة سمعوا منه قبل سنة سبع (1)، وأنا أستبعد هذا الكلام من القطان، وأعدّه غلطًا من ابن عمار، مع أن يحيى متعنّتٌ جدًا في الرجال وسفيان ثقة مطلقًا، انتهى ملخصًا.
وردّ ذلك الاستبعاد الحافظ العسقلاني في "تهذيب التهذيب"(2) وقال: وهذا الذي لا يتّجه غيره، لأن ابن عمار من الأثبات المتقنين، وما المانع أن يكون يحيى بن سعيد سمعه من جماعة ممن حج في تلك السنة واعتمد قولهم وكانوا كثيرًا، وقد وجدت عن يحيى بن سعيد شيئًا يصلح أن يكون سببًا لما نقله عنه ابن عمار في حق ابن عيينة، وذلك ما روى أبو سعد بن السمعاني في "ذيل تاريخ بغداد": أن عبد الرحمن بن بشر بن الحكم قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت لابن عيينة: كنت تكتب الحديث، وتحدث اليوم، فتزيد في إسناده أو تنقص منه، فقال: عليك بالسماع الأول، فإني قد سمنتُ، وقد ذكر أبو معين الرازي أن هارون بن معروف قال له: إن ابن عيينة تغير أمره بأخرة، وأن سليمان بن حرب قال له: إن ابن عيينة أخطأ في عامة حديثه عن أيوب، انتهى ملخصًا، ولد سنة 107 هـ، ومات سنة 198 هـ، وله إحدى وتسعون سنة.
(عن الزهري) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن
(1) أي: سنة سبع وتسعين ومئة.
(2)
(4/ 120).
عن عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَن أَبِي أَيُّوبَ رِوَايةً
===
شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة القرشي الزهري، أبو بكر المدني، أحد الأئمة الأعلام، وعالم الحجاز والشام، متفق على جلالته وإتقانه، قال في "الميزان" (1): محمد بن مسلم الزهري الحافظ الحجة، كان يُدَلِّسُ في النادر، قال الحافظ: قال خليفة: ولد سنة 51 هـ، وقال يحيى بن بكير: سنة 56 هـ، وقال الواقدي: سنة 58 هـ، وكانت وفاته سنة ثلاث أو أربع وعشرين ومئة.
(عن عطاء بن يزيد) الليثي ثم الجُنْدُعي بمضمومة ونون ساكنة فضم دال وبعين مهملة، ثقة، توفي سنة 105 هـ أو 107 هـ، وهو ابن ثمانين سنة.
(عن أبي أيوب)(2)، هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة الأنصاري النجاري الخزرجي المدني، شهد العقبة وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها، نزل عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة حتى بني بيوته ومسجده، ولزم الجهاد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن توفي في غزاة القسطنطينية سنة 52 هـ، ودفن إلى أصل حصن بالقسطنطينية، وأهل الروم يستسقون به.
(رواية) أي عن النبي صلى الله عليه وسلم هي من صيغ الرفع، نصب مصدرًا بفعل حذف عنه أي: رواه رواية ، قال الحافظ في "شرح النخبة" (3): ويلتحق بقولي: "حكمًا" ما ورد بصيغة الكناية في موضع الصيغ الصريحة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، كقول التابعي عن الصحابي: يرفع الحديث أو يرويه أو ينميه أو رواية أو يبلغ به أو رواه، انتهى. فهذه صيغ الرفع حكمًا، فالحديث الذي يقول التابعي فيه عن الصحابي من هذه الألفاظ يكون مرفوعًا حكمًا.
(1)(4/ 40).
(2)
انظر ترجمته في: "أسد الغابة"(4/ 381) رقم (5715).
(3)
(ص 78).
قَالَ: "إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا ". [خ 144، م 264، ت 9، ن 20 - 21 - 22، جه 18]
===
(قال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الغائط) أراد به المعنى الحقيقي وهو المطمئن من الأرض، ومنه قيل لموضع قضاء الحاجة، لأن العادة أن يقضي في المنخفض من الأرض، لأنه أستر له، ثم اتسع حتى أطلق على النجو نفسه - أي الخارج - تسمية للحال باسم محله.
(فلا تستقبلوا القبلة بغائط (1) ولا بول)، والمراد بالغائط ها هنا المعنى المجازي، يعني الخارج المعروف وهو النجو، فتقديره عند إخراج غائط أو بول. أخرج هذا الحديث الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه بألفاظ مختلفة، ولكن الألفاظ التي في رواية أبي داود ومسلم متقاربة، أما في رواية البخاري ومسلم:"فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها"، فهذه الجملة الأخيرة سقطت من رواية أبي داود، فلا ندري هذا اختصار من المصنف أو أحد من الرواة أو سقوط من الناسخ.
(ولكن شرّقوا (2) أو غرّبوا) (3)، أي: توجهوا إلى جهة المشرق
(1) قال ابن رسلان: ظاهره اختصاص النهي بخروج النجس ، ففي معناه دم الفصد والحجامة والحيض والقيء وغيرها، أو المعنى: النهي عن كشف العورة، ففي حكمه الوطء - إذا كان مع الكشف - والاستحداد وغير ذلك، وقال أيضًا بعد ذلك: ويجوز عندنا الاستقبال والاستدبار حالة الجماع في البنيان والصحراء بلا كراهة، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، واختلف فيه على مالك، انتهى.
قلت: الوطء عندنا يكره تنزيهًا، والتغوط تحريمًا، وقال ابن العربي: العلة حرمة القبلة لخمسة وجوه دون حرمة المصلين كما نقل عن الشعبي. انظر: "عارضة الأحوذي"(1/ 24). (ش).
(2)
هذا المذهب الثامن في الاستقبال إذ قالوا: إن المنع يختص بأهل المدينة. (ش).
(3)
بسط ابن رسلان في صورة شَرِّقوا أو غَرِّبوا. (ش).
فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، فَكُنَّا نَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ الله.
===
والمغرب لئلا يقع استقبالكم واستدباركم إلى القبلة، وهذا خطاب مختص لأهل المدينة ومن في حكمهم من الساكنين في جهة الشمال والجنوب من الكعبة، فأما من كانت قبلته إلى جهة الغرب أو الشرق، فإنه ينحرف إلى الجنوب أو الشمال.
(فقدمنا الشام)(1) أي غزاة ففتحناها (فوجدنا مراحيض قد بُنيت قِبَلَ القبلة)، مراحيض بفتح الميم والحاء المهملة والضاد المعجمة كمصابيح، جمع مرحاض (2) كمحراب، أمكنة غسل وخلاء، والظاهر أن قدوم أبي أيوب رضي الله عنه الشام كان عند فتح الشام، وكانت المراحيض التي بنيت فيها من بناء الكفار النصارى الذين يسكنون فيها قبل فتح المسلمين، فبنوها متوجهًا إلى جهة الكعبة، وبعيد غاية البعد أن يكون بناؤها من المسلمين مستقبل الكعبة.
(فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله) تعالى، يعني كنا نجلس (3) مستقبَل القبلة نسيانًا على وفق بناء المراحيض، ثم ننتبه على تلك الهيئة المكروهة، فننحرف عنها، ونستغفر الله تعالى (4) عنها، وتأويل الاستغفار لباني الكنف في غاية البعد.
(1) وفي رواية النسائي و"موطأ مالك": "بمصر" فتأمل. (ش).
(2)
أصله المغتسل من قولهم: رحضت الثوب، ثم استعير للمستراح، لأنه موضع غسل النجو (ش).
(3)
كذا قاله ابن دقيق العيد، انظر:"إحكام الأحكام"(1/ 55). (ش).
(4)
فإن قيل: الساهي لا يأثم ، قلت: أهل الورع والمناصب العلية يستغفرون لمثل هذا "ابن رسلان". وقال ابن العربي في "العارضة"(1/ 25): هذا يحتمل ثلاثة أوجه. (ش).
10 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسمَاعِيلَ قَالَ: ثَنَا وُهَيْب قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عن أَبِي زيد، عن مَعْقِلِ بْنِ أَبِي مَعْقِلٍ الْأسَدِيِّ
===
10 -
(حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا وهيب) بالتصغير، ابن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصري، ثقة ثبت، لكنه تغير قليلًا بأخرة، مات سنة 165 هـ، وقيل بعدها (قال: ثنا عمرو بن يحيى) هو ابن عمارة بن أبي الحسن الأنصاري المازني (1) المدني، ثقة عند أكثر المحدثين، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: صويلح وليس بالقوي، مات 140 هـ.
قال في "تهذيب التهذيب"(2): وقول المصنف: "إنه ابن بنت عبد الله بن زيد" وهم، تبع فيه صاحب "الكمال"، وسببه ما في رواية مالك عن عمرو بن يحيى عن أبيه أن رجلًا سأل عبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى، فظنوا أن الضمير يعود إلى عبد الله وليس كذلك، بل إنما يعود إلى الرجل وهو عمرو بن أبي حسن عم يحيى، وقيل له جد عمرو بن يحيى تجوُّزًا، لأن العم صنو الأب، فما قال صاحب "غاية المقصود" في ترجمة عمرو بن يحيى:"سبط عبد الله بن زيد بن عاصم" وهم وغلط، هذا من آفة التقليد وقلة تتبع الكتب، وفقنا الله للصواب.
(عن أبي زيد) مولى بني ثعلبة، قيل: اسمه الوليد، قال ابن المديني: ليس بالمعروف، وقال في "التقريب": مجهول (عن معقل (3) بن أبي معقل الأسدي) (4) حلفًا، والأنصاري نسبًا أو بالعكس، ويقال له: ابن أبي الهيثم، ويقال: معقل بن الهيثم، ويقال: معقل بن أم معقل، صحابي، له ولأبيه صحبة، مات في زمن معاوية رضي الله عنه.
(1) مازن بن النجار، قاله القاري في "المرقاة"(2/ 96). (ش).
(2)
(8/ 119).
(3)
بفتح الميم وكسر القاف فيهما.
(4)
انظر ترجمته في: "أسد الغابة"(4/ 170) رقم (5038).
قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَتَيْنِ بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ". [جه 319، حم 17383]
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَأَبُو زيدٍ هُوَ مَوْلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ.
11 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْن فَارِس قَالَ: ثَنَا صَفْوَانُ ابْنُ عِيسَى ،
===
(قال) أي معقل: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين)(1) أي الكعبة وبيت المقدس (ببول أو غائط) فيحتمل أنه احترام لبيت المقدس مدة كونه قبلة لنا، أو لأن باستقباله تستدبر الكعبة لمن كان بنحو طيبة، فليس النهي لحرمة المقدس، وهو نهي تنزيه لا تحريم اتفاقًا، وقال أحمد: هو منسوخ بحديث ابن عمر.
(قال أبو داود: وأبو زيد هو مولى بني ثعلبة).
11 -
(حدثنا محمد بن يحيى بن فارس) هو محمد بن يحيى (2) بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذهلي (3)، الحافظ أبو عبد الله النيسابوري الإِمام، ثقة حافظ جليل، مات سنة 258 هـ على الصحيح (قال: ثنا صفوان بن عيسى) الزهري، أبو محمد البصري القسام (4)، ثقة، مات 198 هـ.
(1) وهو المذهب السابع من المذاهب الثمانية في الباب، وهو مذهب النخعي وغيره، وبه قال بعض الشافعية، ونقل الخطابي الإجماع على جوازه إلى بيت المقدس، انتهى. وقال ابن رسلان: خلاف النخعي وغيره يرد من نقل الإجماع على جوازه، وأجابوا عنه بجوابين: الأول: أنه كان حين كان قبلة فجمعهما الراوي، فهذا تأويل أبي إسحاق المروزي وغيره، والثاني: أنه يلزم الاستدبار للكعبة، وزعم ابن حزم أن النهي عن استقبال بيت المقدس لا يصح، انتهى. (ش).
(2)
والبخاري في "الصحيح" تارًة يقول: محمد، ومرة: محمد بن عبد الله، ومرة: محمد ابن خالد. "ابن رسلان". (ش).
(3)
نسبة إلى قبيلة ذهل بن ثعلبة. "ابن رسلان". (ش).
(4)
تولى البصرة سنة مئتين في خلافة عبد الله بن هارون. "ابن رسلان". (ش).
عن الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ، عن مَرْوَانَ الأَصْفَرِ قَالَ: "رَأَيْتُ ابنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمنِ، أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا؟ قَالَ: بَلَى، إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ في الْفَضَاءِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ
===
(عن الحسن بن ذكوان) بفتح معجمة وسكون كاف، أبو سلمة البصري، صدوق يخطئ، ضعفه كثير من المحدثين، ورمي بالقدر، وكان يُدلِّس.
(عن مروان الأصفر) أبو خلف البصري، يقال: هو مروان بن خاقان، وقيل: سالم، ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات" (قال) أي مروان:(رأيت ابن عمر)(1) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن، ولد بعد المبعث بيسير، واستُصْغر يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو أحد المكثرين من الصحابة والعبادلة، وكان من أشد الناس اتباعًا للأثر، مات سنة 73 هـ في آخرها.
(أناخ راحلته مستقبل (2) القبلة ثم جلس) أي ابن عمر (يبول إليها) أي متوجهًا إلى الراحلة، فكان متوجهًا بالبول إلى الكعبة، (فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أليس قد نهي عن هذا) أي عن الاستقبال بالبول إلى القبلة؟ (قال) أي ابن عمر:(بلى، إنما نهي عن ذلك) أي عن الاستقبال بالبول إلى القبلة (في الفضاء) أي الصحراء والأرض الواسعة (فإذا كان بينك وبين القبلة
(1) انظر ترجمته في: "أسد الغابة"(3/ 42) رقم (3082).
(2)
بالنصب على الحال من المستتر "ابن رسلان"، وما حكى العيني يدل على أنه جلس مستقبل بيت المقدس، فتأمل، ونحو أبي داود أخرجه الحاكم والبيهقي. (ش).
شَيْءٌ يَسْتُرُك فَلَا بَأْسَ" (1). [قط 1/ 58، ق 1/ 92، ك 1/ 154]
===
شيء يسترك (2) فلا بأس).
قال الشوكاني في "النيل"(3): وقول ابن عمر يدل على أن النهي عن الاستقبال والاستدبار إنما هو في الصحراء مع عدم الساتر، وهو يصلح دليلًا لمن فرَّق بين الصحراء والبنيان، ولكنه لا يدل على المنع في الفضاء على كل حال، كما ذهب إليه البعض بل مع عدم الساتر، وإنما قلنا بصلاحيته للاستدلال، لأن قوله:"إنما نهي عن هذا في الفضاء"، يدل على أنه قد علم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه قال ذلك استنادًا إلى الفعل الذي شاهده ورآه، فكأنه لما رأى النبي في بيت حفصة مستدبرًا للقبلة فهم اختصاص (4) النهي بالبنيان، فلا يكون هذا الفهم حجة، ولا يصلح هذا القول للاستدلال به، وأقل شيء الاحتمال، فلا ينتهض لإفادة المطلوب، وأيضًا قال: أخرجه أبو داود وسكت عنه، وقد صح عنه أنه لا يسكت إلَّا عن ما هو صالح للاحتجاج، وكذلك سكت عنه المنذري، ولم يتكلم عليه في تخريج "السنن"، وذكره الحافظ ابن حجر في "التلخيص" ولم يتكلم عليه بشيء، وذكر في "الفتح" أنه أخرجه أبو داود والحاكم بإسناد حسن.
قلت: سكوت المحدثين عليه وقول الحافظ: إسناده حسن، عجيب، فإن حسن بن ذكوذان راوي الحديث ضعفه كثير من المحدثين، فكيف يصلح
(1) قلت: ولأبي داود شيخ آخر في هذا الحديث، ذكره المزي في "تحفة الأشراف" (5/ 330) رقم (7451) فقال: "أبو داود عن محمد بن يحبى بن فارس، وأحمد بن إبراهيم، كلاهما عن صفوان بن عيسى
…
"، ثم قال: "أحمد بن إبراهيم في رواية أبي الحسن بن العبد ولم يذكره أبو القاسم".
(2)
على قدر ثلثي ذراع كدابة أو كثيب رمل. "ابن رسلان". (ش).
(3)
(1/ 101).
(4)
هكذا في الأصل و"نيل الأوطار" والظاهر: فهم عدم اختصاص النهي بالبنيان.