الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
259-
خطبة الزرقاء بنت عدي الهمداني
ة:
وذكرت الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية عند معاوية يومًا، فقال لجلسائه: أيكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين. قال: فأشيروا علي في أمرها، فأشار بعضهم بقتلها، فقال: بئس الرأي أيحسن بمثلي أن يقتل امرأة! ثم كتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي محارمها، وعدة من فرسان قومها، وأن يمهد لها وطاءً1 لينًا، ويسترها بستر خصيف2، ويوسع لها في النفقة، فأرسل إليها، فأقرأها الكتاب، فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار إلي، فإني لا آتيه، وإن كان حتَّم فالطاعة أولى، فحملها وأحسن جهازها، على ما أمر به، فلما دخلت على معاوية. قال: مرحبًا بك وأهلا! قدمت خير مقدمة قدمه وافد، كيف حالك؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، أدام الله لك النعمة. قال: كيف كنت في مسيرك؟ قالت: ربيبة بيت، أو طفلًا ممهدًا. قال: بذلك أمرناهم، أتدرين فيم بعثت إليك؟ قالت: وأنى لي بعلم ما لم أعلم؟ قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر، والواقفة بين الصفين بصفين، تحضين على القتال، وتوقدين الحرب؟ فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس وبتر الذنب، ولن يعود ما ذهب، والدهر ذو غير3 ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر، قال لها معاوية: أتحفظين كلامك يومئذ؟ قالت: لا والله لا أحفظه، ولقد أنسيته. قال: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين:
"أيها الناس: ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة4. فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء لا تسمع لناعقها، ولا تنساق
1 الفراش.
2 أصله من خصف النعل بخصفها، كضرب: ظاهر بعضها على بعض وخرزها وهي نعل خصيف، وكل ما طورق بعضه على بعض فقد خصف.
3 أحداث، جمع غيرة بالكسر أو مفرد، وجمعه أغيار.
4 جادة الطريق.
لقائدها، إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد. ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه. أيها الناس: إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرًا يا معشر المهاجرين والأنصار على العصص، فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة الحق، ودمغ الحق الظلمة، فلا يجهلن أحد فيقول: كيف، وأنى؟ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم ما بعده، والصبر خير في الأمور عواقبا:
إيهًا1 في الحرب قدما، غير ناكصين، ولا متشاكسين".
ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد شركت عليًا في كل دم سفكه. قالت: أحسن الله بشارتك، وأدام سلامتك! فمثلك بشر بخير وسر جليسه. قال: أويسرك ذلك؟ قالت: نعم. والله لقد سررت بالخبر! فأنى لي بتصديق الفعل! فضحك معاوية، وقال: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته، اذكري حاجتك. قالت: يا أمير المؤمنين آليت على نفسي ألا أسأل أميرًا أعنت عليه أبدًا، ومثلك أعطى عن غير مسألة، وجاد عن غير طلبة. قال: صدقت، وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز وكسًا.
"العقد الفريد 1: 130، وصبح الأعشى 1: 252".
1 إيها: كلمة زجر بمعنى حسبك "وإيه بالكسر منونة وغير منونة كلمة استزادة واستنطاق" والقدم: المضي أمام، وهو يمشي القدم: إذا مضى في الحرب، ورجل قدم: أي شجاع. وفي الحديث "طوبى لعبد مغبر قدم في سبيل الله" القدم: الإقدام، أقدم على قرنه إقدامًا وقدمًا: تقدم عليه بجراءة صدر.