الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن أطعم أكلة عدها غنيمة، تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التنوخية التي أسس جدى اجتماعها، وشد مملكتها، ومنعها من عدوها؛ فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا، وإن لها مع ذلك آثارًا ولبوسًا1، وقرى وحصونًا، وأمورًا تشبه بعض أمور الناس -يعني اليمن- ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس، قال النعمان: أصلح الله الملك. حق2 لأمة الملك منها أن يسمو فضلها، ويعظم خطبها، وتعلو درجتها؛ إلا أن عندي جوابًا في كل ما نطق به الملك، في غير رد عليه، ولا تكذيب له؛ فإن أمنني من غضبه نطقت به، قال كسرى: قل فأنت آمن.
1 الدروع.
2 حق لك أن تفعل كذا وحققت أن تفعله بمعنى.
31-
خطبة النعمان بن المنذر:
قال النعمان: أما أمتك أيها الملك؛ فليست تنازع في الفضل، لموضعها الذي هي به: من عقولها وأحلامها، وبسطه محلها، وبحبوحة عزها، وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك. وأما الأمم التي ذكرت، فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها. قال كسرى بماذا؟ قال النعمان: بعزها، ومنعتها، وحسن وجوهها، وبأسها، وسخائها، وحكمة ألسنتها، وشدة عقولها، وأنفتها، ووفائها.
فأما عزها ومنعتها؛ فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد، ووطدوا الملك وقادوا الجند، لم يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيلهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء، وجنتهم السيوف، وعدتهم الصبر، إذ غيرها من الأمم إنما عزها من الحجارة والطين وجزائر البحور.
وأما حسن وجوها وألوانها، فقد يعرف فضلهم في ذلك على غيرهم: من الهند المنحرفة، والصين المنحفة، والترك المشوهة، والروم المقشرة.
وأما أنسابها وأحسابها؛ فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيرًا من أولها، حتى إن أحدهم ليسأل وراء أبيه دنيا1؛ فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أبًا فأبًا، حاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه.
وأما سخاؤها؛ فإن أدناهم رجلًا، الذي تكون عنده البكرة والناب2، عليها بالغه3 في حموله4 وشبعه وريه، فيطرقه الطارق، الذي يكتفي بالفلذة5، ويحتري بالشبة؛ فيعقرها له، ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر.
وأما حكمة ألسنتهم؛ فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم، وحسنه ووزنه وقوافيه، ومع معرفتهم الأشياء، وضربهم للأمثال، وإبلاغهم في الصفات، ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس ثم خيلهم أفضل الخيل، ونساؤهم أعف النساء، ولباسهم أفضل اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وحجارة جبالهم الجزع6. ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر، ولا يقطع بمثلها بلد فقر.
وأما دينها وشريعتها؛ فإنهم متمسكون به، حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهرًا حرمًا، وبلدًا محرمًا، وبيتًا محجوجًا، ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون فيه ذبائحهم، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه، وهو قادر على أخذ ثأره، وإدراك رغمه7 منه؛ فيحجزه كرمه، ويمنعه دينه عن تناوله بأذى.
1 هو ابن عمي دنيا بضم الدال وكسرها مع التنوين، وبكسرها بلا تنوين: أي لحمًا.
2 الناقة المسنة.
3 البلاغ: الكفاية.
4 الحمولة والأحمال جمع حمل.
5 القطعة من الشيء.
6 الجزع ويكسر: الخرز اليماني الصيني فيه سواد وبياض، تشبه به العيون.
7 الذل.
وأما وفاؤها، فإن أحدهم يلحظ اللحظة، ويومئ الإيماءة، فهي ولث1 وعقدة، لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عودًا من الأرض فيكون رهنًا بدينه، فلا يغلق2 رهنه، ولا تخفر3 ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلًا استجار به وعسى أن يكون نائيا عن داره. فيصاب، فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته، لما أخفر من جواره، وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث، من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله.
وأما قولك أيها الملك يئدون أولادهم، فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار، وغيرة من الأزواج.
وأما قولك إن أفضل طعامهم لحوم الإبل _على ما وصفت منها_ فما تركوا ما دونها إلا احتقارًا لها، فعمدوا إلى أجلها وأفضلها، فكانت مراكبهم وطعامهم، مع أنها أكثر البهائم شحومًا، وأطيبها لحومًا، وأرقها ألبانًا، وأقلها غائلة4، وأحلاها مضغة، وإنه لا شيء من اللحمان يعالج ما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه.
وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضًا، وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم، فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من نفسها ضعفًا، وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد، يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون لهم بأزمتهم، وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين، مع أنفتهم من أداء الخراج والوطث5 بالعسف.
1 عهد.
2 غلق الرهن: استحقه المرتهن، وذلك إذا لم يفتك في الوقت المشروط.
3 خفر به وأخفره: نقض عهده وغدره.
4 شرا.
5 الوطث: الضرب الشديد بالرجل على الأرض.
وأما اليمن التي وصفها الملك؛ فإنما أتى جد الملك إليها الذي1 أتاه، عند غلبة الحبش له، على ملك متسق، وأمر مجتمع؛ فأتاه مسلوبًا طريدًا مستصرخًا، ولولا ما وتر به من يليه من العرب؛ لمال إلى مجال، ولوجد من يجيد الطعان، ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار".
فعجب كسرى لما أجابه النعمان به، وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة في أهل إقليمك، ثم كساه من كسوته، وسرحه إلى موضعه من الحيرة.
فلما قدم النعمان الحيرة، وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين2 أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة التميميين، وإلى الحارث بن عباد، وقيس بن مسعود البكريين، وإلى خالد بن جعفر، وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل العامريين، وإلى عمرو بن الشريد السلمي، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المرى؛ فلما قدموا عليه في الخورنق، قال لهم: قد عرفتم هذه الأعاجم، وقرب جوار العرب منها، وقد سمعت من كسرى مقالات، تخوفت أن يكون لها غور، أو يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خولًا، كبعض طماطمته3، في تأديتهم الخراج إليه4، كما يفعل بملوك الأمم الذي حوله؛ فاقتص عليهم مقالات كسرى، وما رد عليه؛ فقالوا: أيها الملك، وفقك الله! ما أحسن ما رردت! وأبلغ ما حججته به! فمرنا بأمرك، وادعنا إلى ما شئت. قال: إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكت وعززت بمكانكم، وما تخوف من ناحيتكم، وليس شيء أحب إلي مما سدد الله به أمركم، وأصلح به شأنكم، وأدام به عزكم، والرأى أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط، وتنطلقوا إلى كسرى؛ فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم
1 هو سيف بن ذي يزن.
2 تقبيح واستهجان، والهجنة من الكلام: ما يعيبه.
3 رجل طمطم "بكسر الطامين" وطمطماني "بضمهما": في لسانه عجمه.
4 كان الفرس يعفون عرب الحيرة من دفع الأتاوة مقابل أن يقوموا بحمايتهم من كل غارة من نواحيهم.
بما حضره؛ ليعلم أن العرب على غير ما ظن، أو حدثته نفسه، ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه؛ فإنه ملك عظيم السلطان، كثير الأعوان، متزن، معجب بنفسه، ولا تتخزلوا1 له انخزال الخاضع الذليل، وليكن أمر بين ذلك، تظهر به وثاقة حلومكم، وفضل منزلتكم، وعظيم أخطاركم، وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي، ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم التي وضعتكم بها؛ فإنما دعاني إلى التقدمة إليكم، علمي بميل كل رجل منكم إلى التقدم قبل صاحبه، فلا يكونن ذلك منكم، فيجد في آدابكم مطعنًا؛ فإنه ملك مترف، وقادر مسلط. ثم دعا لهم بما في خزائنه من طرائف حلل الملوك، كل رجل منهم حلة وعممه عمامة، وختمه بياقوتة، وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مهرية2 وفرس نجيبة، وكتب معهم كتابًا:
"أما بعد: فإن الملك ألقى إلي أمر العرب ما قد علم، وأجبته بما قد فهم، مما أحببت أن يكون منه على علم، ولا يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتجزت دونه بمملكتها، وحمت ما يليها بفضل قوتها، تبلغها وشيء من الأمور، التي تعزز بها ذوو الحزم والقوة والتدبير والمكيدة، وقد أوفدت إليها الملك رهطًا من العرب لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم؛ فليسمع الملك، وليغمض عن جفاء إن ظهر من منطقهم، وليكرمني بإكرامهم، وتعجيل سراحهم، وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم".
فخرج القوم في أهبتهم حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن؛ فدفعوا إليه كتاب النعمان فقرأه، وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلسًا منهم؛ فلما أن كان بعد ذلك بأيام، أمر مرازبته3 ووجوه أهل مملكته، فحضروا وجلسوا على كراسي، عن يمينه
1 الانخزال: مشية في تثاقل.
2 النجيب: البعير والفرس إذا كانا كريمين عتيقين، والمهرية: نسبة إلى مهرة بن حيدان، حي تنسب إليه الإبل النجيبة.
3 جمع ززبان، بفتح الميم وضم الزاي، هو الرئيس من الفرس.