المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ خطبة معاوية وقد بلغه هلاك الأشتر: - جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة - جـ ١

[أحمد زكي صفوت]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌فهرس: مآخذ الخطب في هذا الجزء:

- ‌الباب الأول: الخطب والوصايا في العصر الجاهلي

- ‌إصلاح مرثد الخير بين سبيع بن الحارث، وبين ميثم بن مثوب

- ‌مدخل

- ‌ مقال مرثد الخير:

- ‌مقال سبيع بن الحارث

- ‌ مقال ميثم بن مثوب:

- ‌ مقال مرثد الخير:

- ‌ طريف بن العاصي والحارث بن ذبيان يتفاخران

- ‌وفود العرب يعزون سلامة ذا فائش بابن له مات

- ‌مدخل

- ‌ خطبة الملبب بن عوف

- ‌ خطبة جعادة بن أفلح:

- ‌ تساؤل عامر بن الظرب وحممة بن رافع: عند أحد ملوك حمير:

- ‌ خطبة عامر بن الظرب العدواني وقد خطبت ابنته

- ‌ حديث بعض مقاول حمير مع ابنيه:

- ‌ إحدى ملكات اليمن وخاطبوها

- ‌ رواد مذحج يصفون ما ارتادوا من المراعي:

- ‌ ما دار من الحديث بين المنذر بن النعمان الأكبر وبين عامر بن جوين الطائي

- ‌قيس بن رفاعة والحارث بن أبي شمر الغساني

- ‌ قيس بن خفاف البرجمي وحاتم طيئ:

- ‌ مقال قبيصة بن نعيم لامرئ القيس بن حجر:

- ‌ رد امرئ القيس عليه:

- ‌ خطبة هانئ بن قبيصة الشيباني:

- ‌ خطبة عمرو بن كلثوم

- ‌ أكثم بن صيفي يعزّي عمرو بن هند عن أخيه:

- ‌ خطبة قس بن ساعدة الإيادي:

- ‌ قس بن ساعدة عند قيصر:

- ‌ خطبة المأمون الحارثي:

- ‌ بين مهلهل بن ربيعة ومرة بن ذهل بن شيبان:

- ‌ منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين:

- ‌أشراف العرب بين يدي كسرى

- ‌مدخل

- ‌مقالة حذيفة بن بدر الفزاري

- ‌مقال الأشعث الكندري

- ‌ مقال بسطام الشيباني:

- ‌ مقال حاجب بن زرارة:

- ‌ مقال قيس بن عاصم السعدي:

- ‌وفود العرب على كسرى

- ‌مدخل

- ‌ خطبة النعمان بن المنذر:

- ‌ خطبة أكثم بن صيفي:

- ‌ خطبة حاجب بن زرارة:

- ‌ خطبة الحارث بن عباد:

- ‌ خطبة عمرو بن الشريد:

- ‌ خطبة خالد بن جعفر الكلابي:

- ‌ خطبة علقمة بن علاثة العامري:

- ‌ خطبة قيس بن مسعود الشيباني:

- ‌ خطبة عامر بن الطفيل العامري:

- ‌خطبة عمرو بن معد يكرب الزبيدي

- ‌ خطبة الحارث بن ظالم المري:

- ‌ مخالس بن مزاحم وقاصر بن سلمة عند النعمان بن المنذر:

- ‌ ضمرة بن ضمرة عند النعمان بن المنذر:

- ‌ لبيد بن ربيعة يصف بقلة:

- ‌ كلمات هند بنت الخس الإيادية:

- ‌ خطبة كعب بن لؤي:

- ‌ خطبة هاشم بن عبد مناف:

- ‌ خطبة هاشم بن عبد مناف في قريش وخزاعة:

- ‌ خطبة عبد المطلب بن هاشم:

- ‌ خطبة أبي طالب:

- ‌خطبة الكهان

- ‌الكاهن الخزاعي ينفر هاشم بن عبد مناف

- ‌ عوف بن ربيعة الأسدي يتكهن بمقتل حجر بن الحارث:

- ‌كاهن بن الحارث بن كعب يحذرهم غزو بني تميم

- ‌ أحد كهان اليمن يفصل في أمر هند بنت عتبة:

- ‌ خمسة نفر من طيئ يمتحنون سواد بن قارب الدوسي:

- ‌حديث مصاد بن مذعور القيني

- ‌ حديث خنافر بن التوءم الحميري مع رئية شصار:

- ‌ شافع بن كليب الصدفي يتكهن بظهور النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌ وفود عبد المسيح بن بقيلة على سطيح:

- ‌ شق وسطيح ينبئان بأصل ثقيف:

- ‌تنافر عبد المطلب بن هاشم والثقفيين إلى عزى سلمة الكاهن

- ‌ منافرة عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية:

- ‌ ما أمر به عبد المطلب بن هاشم في منامه من حفر زمزم:

- ‌خطب الكواهن:

- ‌ الشعثاء الكاهنة تصف سبعة إخوة:

- ‌ طريفة الخير تتكهن بسيل العرم وخراب سد مأرب:

- ‌ حديث زبراء الكاهنة مع بني رئام من قضاعة:

- ‌ كاهنة ذي الخلصة تتكهن بما في بطن رقية بنت جشم:

- ‌ رأى سلمى الهمدانية في حريم المرادي:

- ‌تنافر الجعفاء بنت علقمة وصواحباتها إلى الكاهنة السعدية

- ‌ عفيراء الكاهنة تعبر رؤيا مرثد بن عبد كلال:

- ‌الوصايا:

- ‌ وصية أوس بن حارثة لابنه مالك:

- ‌ وصية ذي الإصبع العدواني لابنه أسيد

- ‌ وصية الحارث بن كعب لبنيه:

- ‌ وصية عامر بن الطرب العدواني لقومه:

- ‌ وصية دويد بن زيد لبنيه:

- ‌ وصية زهير بن جناب الكلبي:

- ‌ وصية النعمان بن ثواب العبدي لبنيه

- ‌ وصية قيس بن زهير لبني النمر بن قاسط

- ‌ وصية حصن بن حذيفة لبنيه:

- ‌ وصية لأكثم بن صيفي:

- ‌ وصية أكثم بن صيفي لطيئ:

- ‌ وصية أكثم بن صيفي لبنيه ورهطه:

- ‌ نصيحة أكثم بن صيفي لقومه:

- ‌ نصيحة الجمانة بنت قيس بن زهير لجدها الربيع بن زياد:

- ‌ وصف عصام الكندية أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني:

- ‌ وصية أمامة بنت الحارث لابنتها أم إياس:

- ‌الباب الثاني: الخطب والوصايا في عصر صدر الإسلام

- ‌خطب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌أول خطبة خطبها بمكة حين دعا قومه

- ‌أول خطبة بالمدينة

- ‌ خطبته في أول جمعة جمعها بالمدينة:

- ‌ خطبة له يوم أحد:

- ‌ خطبته بالخيف:

- ‌ خطبة له عليه الصلاة والسلام:

- ‌ خطبته يوم فتح مكة:

- ‌ خطبته في الاستسقاء:

- ‌ خطبته في مرض موته

- ‌ خطبة أكثم بن صيفي يدعو قومه إلى الإسلام:

- ‌ وصية أبي طالب لوجوه قريش عند موته:

- ‌خطب الوفود

- ‌خطبة عطارد بن حاجب بن زرارة بين يدي النبي

- ‌ خطبة ثابت بن قيس بن الشماس:

- ‌ عمرو بن الأهتم والزبرقان بن بدر

- ‌ خطبة طهفة بن أبي زهير النهدي

- ‌ رده صلى الله عليه وسلم

- ‌ خطبة ظبيان بن حداد

- ‌ خطبة مالك بن نمط

- ‌ سفانة بنت حاتم

- ‌ وصية دريد بن الصمة:

- ‌ وصية عمير بن حبيب الصحابي لبنيه:

- ‌ وصية قيس بن عاصم المنقري لبنيه:

- ‌خطب يوم السقيفة

- ‌مدخل

- ‌ خطبة سعد بن عبادة:

- ‌ خطبة أبي بكر رضي الله عنه:

- ‌ نص آخر لخطبة أبي بكر يوم السقيفة:

- ‌ خطبة الحباب بن المنذر:

- ‌ خطبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

- ‌ خطبة أخرى للحباب بن المنذر:

- ‌ خطبة بشير بن سعد:

- ‌خطب أبي بكر الصديق ووصاياه رضي الله عنه:

- ‌ خطبته يوم قبض الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ خطبته بعد البيعة:

- ‌ خطبة أخرى له بعد البيعة:

- ‌ خطبة أخرى:

- ‌ خطبة له:

- ‌ خطبة له في الأنصار:

- ‌ وصيته لأسامة بن زيد:

- ‌وصيته لعمرو بن العاص والوليد بن عقبة

- ‌ خطبة خالد بن الوليد:

- ‌ خطبة لأبي بكر في ندب الناس لفتح الشأم:

- ‌فتح الشام

- ‌مدخل

- ‌ خطبة أبي بكر:

- ‌ خطبة عمر:

- ‌ خطبة عبد الرحمن بن عوف:

- ‌ خطبة خالد بن سعيد بن العاص:

- ‌ خطبة ذي الكلاع:

- ‌ وصية خالد بن سعيد بن العاص لأبي بكر:

- ‌ووصية أبي بكر لخالد بن سعيد بن العاص

- ‌ وصية أبى بكر لعمرو بن العاص:

- ‌ وصية أخرى:

- ‌ وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان:

- ‌ وصية أخرى ليزيد بن أبي سفيان:

- ‌ دعاء أبي بكر:

- ‌ وصيته لشرحبيل بن حسنة:

- ‌ وصيته لأبي عبيدة بن الجراح:

- ‌ وصيته لأبي عبيدة بن الجراح أيضًا:

- ‌ وصية أبي بكر لهاشم بن عتبة:

- ‌ خطبة خالد بن الوليد يوم اليرموك:

- ‌ خطبة أبي عبيدة في وقعة اليرموك:

- ‌ قصص معاذ بن جبل:

- ‌ خطبة عمرو بن العاص:

- ‌ خطبة أبي سفيان بن حرب:

- ‌ وصية أبي بكر لعمر رضي الله عنهما عند موته:

- ‌ كلامه لعبد الرحمن بن عوف في علته التي مات فيها:

- ‌ خطبة السيدة عائشة في الانتصار لأبيها:

- ‌ رثاؤها لأبيها:

- ‌خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

- ‌ خطبته حين ولي الخلافة:

- ‌ خطبة أخرى:

- ‌ خطبة له:

- ‌ خطبته عام الرمادة:

- ‌ خطبته وقد بلغه أن قومًا يفضلونه على أبي بكر:

- ‌خطب الفتوح في عهد عمر في فتح فارس

- ‌مدخل

- ‌خطبة المثنى بن حارثة الشيباني

- ‌ خطبة عمر رضي الله عنه:

- ‌ وصية عمر لأبي عبيد بن مسعود:

- ‌ خطبة له وقد شيع جيش سعد بن أبي وقاص:

- ‌ وصيته لسعد بن أبي وقاص:

- ‌ وصيته لسعد بن أبي وقاص أيضًا

- ‌ وصية أخرى كتبها إلى سعد بن أبي وقاص:

- ‌ وصيته للمجاهدين:

- ‌وصية عمر ليعلى بن أمية في إجلاء نهر نجران

- ‌ خطبة لعمر:

- ‌ خطبة جرير بن عبد الله البجلي:

- ‌خطبة سعد ابن أبي وقاص يوم أرماث

- ‌ خطبة عاصم بن عمرو:

- ‌ خطبة طليحة بن خويلد الأسدي:

- ‌ الخنساء تحرض أولادها على القتال:

- ‌ خطبة عتبة بن غزوان:

- ‌ خطبة لسعد بن أبي وقاص:

- ‌ خطبة لعلي:

- ‌ خطبة طلحة بن عبيد الله:

- ‌ خطبة عثمان بن عفان:

- ‌ خطبة علي بن أبي طالب:

- ‌ خطبة النعمان بن مقرن:

- ‌خطب رجال من الفاتحين بين يدي يزدجرد ملك الفرس وقواده

- ‌مدخل

- ‌ خطبة النعمان بن مقرن:

- ‌ خطبة المغيرة بن زرارة:

- ‌ مقال ربعي بن عامر عند رستم قائد جيش الفرس:

- ‌ خطبة المغيرة بن شعبة في حضرة رستم:

- ‌ خطبة المغيرة بن شعبة:

- ‌ خطبة عمر:

- ‌ خطبة عثمان بن أبي العاص:

- ‌في فتح الشام:

- ‌ بين الروم ومعاذ بن جبل:

- ‌ بين أبي عبيدة ورسول الروم:

- ‌ بين باهان وخالد بن الوليد:

- ‌ جواب خالد:

- ‌ خطبة عمرو بن العاص:

- ‌ خطبة لعمر:

- ‌ وصية أبي عبيدة للمسلمين وقد أصابه طاعون عمواس:

- ‌ خطبة معاذ بن جبل عند موت أبي عبيدة:

- ‌ رثاء معاذ بن جبل لأبي عبيدة:

- ‌ ابن العاص ومعاذ والطاعون:

- ‌ وصية لمعاذ بن جبل:

- ‌ وصية لمعاذ بن جبل أيضًا:

- ‌ خطبة عبادة بن الصامت:

- ‌ خطبة شداد بن أوس:

- ‌ خطبة أبي الدرداء:

- ‌ خطبة يزيد بن أبي سفيان:

- ‌ وصية العباس بن عبد المطلب "المتوفى سنة 32هـ" لابنه عبد الله:

- ‌ وصية عمر للخليفة من بعده:

- ‌خطب يوم الشورى

- ‌مدخل

- ‌ خطبة عبد الرحمن بن عوف:

- ‌ خطبة عثمان بن عفان:

- ‌ خطبة الزبير بن العوام:

- ‌ خطبة سعد بن أبي وقاص:

- ‌ خطبة علي بن أبي طالب:

- ‌خطب عثمان بن عفان رضي الله عنه:

- ‌ خطبته حين بايعه أهل الشورى:

- ‌ خطبته بعد البيعة:

- ‌ خطبة أخرى:

- ‌ خطبة لعثمان:

- ‌ خطبة عثمان:

- ‌ خطبته حين نقم عليه الناس:

- ‌ خطبته التي نزع فيها، وأعطى الناس من نفسه التوبة:

- ‌ خطبته في الرد على الثوار:

- ‌ خطبته وقد اشتد عليه الحصار:

- ‌ آخر خطبة خطبها عثمان:

- ‌ خطبة الوليد بن عقبة:

- ‌ خطبة سعيد بن العاص حين قدم الكوفة واليًا عليها:

- ‌ خطبة عبد الله بن الزبير حين قدم بفتح إفريقية:

- ‌ خطبة عبد الله بن مسعود "المتوفى سنة 32ه

- ‌ أبو زبيد الطائي يصف الأسد:

- ‌خلافة الإمام علي كرم الله وجهه:

- ‌ وصية علي لقيس بن سعد:

- ‌ خطبة لقيس بن سعد:

- ‌فتنة أصحاب الجمل

- ‌مدخل

- ‌ خطبة طلحة:

- ‌ خطبة السيدة عائشة بالمربد:

- ‌ خطبة لعلي:

- ‌ خطبة عدي بن حاتم، يستنفر قومه لنصرة الإمام علي:

- ‌ خطبة زفر بن زيد يستنفر قومه لنصرة علي أيضًا:

- ‌ خطبة علي بالربذة:

- ‌ خطبة الحسن بن علي:

- ‌ خطبة أخرى للحسن:

- ‌ خطبة عمار بن ياسر:

- ‌ خطبة أبي موسى الأشعري:

- ‌صورة أخرى:

- ‌ خطبة أبي موسى الأشعري:

- ‌ صورة أخرى:

- ‌ خطبة زيد بن صوحان:

- ‌ خطبة القعقاع بن عمرو:

- ‌ خطبة سيحان بن صوحان:

- ‌ خطبة الحسن بن علي:

- ‌ وفادة القعقاع بن عمرو إلى أصحاب الجمل:

- ‌ خطبة علي بن أبي طالب:

- ‌ خطبة الأشتر:

- ‌ خطبة لعلي:

- ‌ خطبة السيدة عائشة يوم الجمل:

- ‌ خطبة زفر بن قيس:

- ‌ خطبة جرير بن عبد الله البجلي:

- ‌ خطبة زياد بن كعب:

- ‌ خطبة الأشعث بن قيس:

- ‌ خطبة معاوية:

- ‌فتنة معاوية استطلاع الإمام علي كرم الله وجهه آراء أصحابه وقد أراد المسير إلى الشأم

- ‌مدخل

- ‌ خطبة الإمام علي:

- ‌ خطبة هاشم بن عتبة:

- ‌ خطبة عمار بن ياسر:

- ‌ خطبة قيس بن سعد بن عبادة:

- ‌ خطبة سهل بن حنيف:

- ‌ خطبة الأشتر النخعي:

- ‌ مقال من ثبطوه عن المسير:

- ‌ رد الإمام عليهم:

- ‌ خطبة عدي بن حاتم الطائي:

- ‌ خطبة زيد بن حصين الطائي:

- ‌ خطبة أبي زينب بن عوف:

- ‌ خطبة يزيد بن قيس الأرحبي:

- ‌ خطبة زياد بن النضر:

- ‌ خطبة عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي:

- ‌ أدب الإمام علي، وكرم خلقه:

- ‌ مقال عمرو بن الحمق:

- ‌ مقال حجر بن عدي:

- ‌ مقال هاشم بن عتبة:

- ‌ خطبة الحسن بن علي:

- ‌ خطبة الحسين بن علي:

- ‌ خطبة عبد الله بن عباس:

- ‌ خطبة لمعاوية:

- ‌وفد علي على معاوية

- ‌مدخل

- ‌ خطبة بشير بن عمرو:

- ‌ خطبة شبث بن ربعي:

- ‌ خطبة معاوية:

- ‌وفد علي إلى معاوية أيضاً

- ‌مدخل

- ‌ خطبة عدي بن حاتم:

- ‌ جواب معاوية:

- ‌ خطبة يزيد بن قيس:

- ‌ خطبة معاوية:

- ‌وفد معاوية إلى علي

- ‌مدخل

- ‌ خطبة حبيب بن مسلمة:

- ‌ خطبة علي بن أبي طالب:

- ‌التحريض على القتال من قبل معاوية:

- ‌ خطبة عمرو بن العاص

- ‌ خطبة أخرى لعمرو بن العاص:

- ‌خطبة معاوية بن أبي سفيان يحرض أهل الشأم:

- ‌ خطبة ذي الكلاع الحميري:

- ‌خطبة يزيد بن أبي أسد البجلي

- ‌التحريض على القتال من قبل الإمام علي أيضًا:

- ‌ خطبة الإمام علي:

- ‌ ومن كلام له كرم الله وجهه:

- ‌ خطبة أخرى للإمام:

- ‌ خطبة عبد الله بن عباس:

- ‌ خطبة عبد الله بن بديل الخزاعي:

- ‌ خطبة أبي الهيثم بن التيهان:

- ‌ خطبة سعيد بن قيس:

- ‌ خطبة يزيد بن قيس الأرحبي:

- ‌ خطبة هاشم بن عتبة المرقال:

- ‌ خطبة عمار بن ياسر:

- ‌ خطبة الأشعث بن قيس:

- ‌ خطبة الأشتر في المنهزمين من الميمنة:

- ‌ خطبة أخرى له فيهم:

- ‌ خطبة علي فيهم وقد عادوا إلى مواقفهم:

- ‌ خطبة خالد بن معمر:

- ‌ خطبة عقبة بن حديد النمري:

- ‌ خطبة خنثر بن عبيدة بن خالد:

- ‌ تحريض معاوية أيضًا:

- ‌ ما خاطب به النعمانُ بنُ بشيرٍ قيسَ بنَ سعد في وقعة صفين:

- ‌ جواب قيس بن سعد:

- ‌خطب الشيعيات في وقعة صفين:

- ‌ خطبة عكرشة بنت الأطرش:

- ‌ خطبة أم الخير بنت الحريش:

- ‌ خطبة الزرقاء بنت عدي الهمداني

- ‌اختلاف أهل العراق في الموادعة

- ‌مدخل

- ‌ خطبة الإمام علي كرم الله وجهه:

- ‌ خطبة كردوس بن هانئ:

- ‌ خطبة سفيان بن ثور:

- ‌ خطبة حريث بن جابر:

- ‌ خطبة خالد بن معمر:

- ‌ خطبة الحصين بن المنذر:

- ‌ خطبة عثمان بن حنيف:

- ‌ خطبة عدي بن حاتم:

- ‌ خطبة عبد الله بن حجل:

- ‌ خطبة صعصعة بن صوحان:

- ‌ خطبة المنذر بن الجارود:

- ‌ خطبة الأحنف بن قيس:

- ‌ خطبة عمير بن عطارد:

- ‌ خطبة علي بن أبي طالب:

- ‌ مقال عدي بن حاتم:

- ‌ مقال الأشتر النخعي:

- ‌ مقال عمرو بن الحمق:

- ‌ مقال الأشعث بن قيس:

- ‌ مقال عبد الرحمن بن الحارث:

- ‌ مقال عمار بن ياسر:

- ‌التحكيم بين علي ومعاوية:

- ‌ كلام عبد الله بن عباس لأبي موسى الأشعري:

- ‌ وصية شريح بن هانئ لأبي موسى الأشعري:

- ‌ وصية الأحنف بن قيس لأبي موسى الأشعري:

- ‌ رد عمرو بن العاص عليه:

- ‌ مقال شرحبيل بن السمط لعمرو:

- ‌ خطبة أبي موسى الأشعري:

- ‌ خطبة عمرو بن العاص:

- ‌ خطبة الإمام علي بعد التحكيم:

- ‌ خطبة الحسن بن علي:

- ‌ خطبة عبد الله بن جعفر:

- ‌ خطبة لمعاوية:

- ‌خطبة محمد بن أبي بكر

- ‌ خطبة لمحمد بن أبي بكر:

- ‌ خطبة لعلي وقد استصرخه محمد بن أبي بكر:

- ‌ خطبة علي حين بلغه مقتل محمد بن أبي بكر:

- ‌فتنة الخوارج:

- ‌ مناظرة عبد الله بن عباس لهم:

- ‌ مناظرة الإمام علي لهم:

- ‌ مناظرة ابن عباس لهم:

- ‌ خطبة يزيد بن عاصم المحاربي:

- ‌خطبة عبد الله بن وهب الراسي

- ‌ خطبة حرقوص بن زهير السعدي:

- ‌ خطبة حمزة بن سنان الأسدي:

- ‌ خطبة شريح بن أوفى العبسي:

- ‌ مقال زيد بن حصين الطائي:

- ‌ خطبة علي في تخويف أهل النهروان:

- ‌ خطبة المستورد بن علفة:

- ‌خور أصحاب الإمام

- ‌خطبة عبد الله بن عباس في أهل البصرة

- ‌خطبة الإمام وقد أراد الانصراف من النهروان

- ‌ خطبة الإمام بالكوفة بعد قدومه من حرب الخوارج

- ‌ خطبة له أيضًا في استنفارهم لقتال معاوية:

- ‌صورة أخرى1

- ‌مدخل

- ‌وزاد ابن قتيبة في الإمامة والسياسة:

- ‌ خطبة أبي أيوب الأنصاري:

- ‌ خطبة الإمام وقد أغار النعمان بن بشير على عين التمر:

- ‌ خطبة الإمام وقد أغار الضحاك بن قيس على الحيرة

- ‌ خطبة الإمام:

- ‌خطبة الحسن بن علي في يوم جمعة

- ‌ خطبة معاوية وقد بلغه هلاك الأشتر:

- ‌فتنة البصرة

- ‌مدخل

- ‌ خطبة عبد الله بن عامر الحضرمي:

- ‌خطبة الضحاك بن عبد الله الهلاكي

- ‌ خطبة عبد الرحمن بن عمير القرشي:

- ‌ خطبة زياد بن أبيه:

- ‌ خطبة شيمان الأزدي:

- ‌ خطبة صبرة بن شيمان:

- ‌ خطبة الإمام علي:

- ‌ خطبة أعين بن ضبيعة:

- ‌ خطبة جارية بن قدامة:

- ‌ خطبة زياد:

- ‌ خطبة خنفر الحماني:

- ‌ صعصعة بن صوحان ومعاوية:

- ‌ صورة أخرى:

- ‌ تتمة في الحكم

- ‌خطب الوفود

- ‌مدخل

- ‌ خطبة هلال بن بشر:

- ‌خطبة زيدان بن جبلة

- ‌ خطبة الأحنف بن قيس:

- ‌ خطبة الأحنف بن قيس، بين يدي عمر

- ‌فهرس الجزء الأول

- ‌فهرس أعلام الخطباء:

الفصل: ‌ خطبة معاوية وقد بلغه هلاك الأشتر:

217-

‌ خطبة لمعاوية:

ولما نزل على النخيلة متوجهًا إلى الشأم، وبلغ معاوية خبره، وهو يومئذ بدمشق قد ألبس منبر دمشق قميص عثمان مخضبًا بالدم وحول المنبر سبعون ألف شيخ يبكون حوله لا تجف دموعهم على عثمان، خطبهم وقال:

"يا أهل الشأم قد كنتم تكذبونني في علي، وقد استبان لكم أمره، والله ما قتل خليفتكم غيره، وهو أمر بقتله، وألب الناس عليه، وآوى قتلته، وهم جنده وأنصاره وأعوانه، وقد خرج بهم قاصدًا بلادكم ودياركم لإبادتكم.

يأهل الشأم، الله الله في دم عثمان، فأنا وليه وأحق من طلب بدمه، وقد جعل الله لولي المقتول ظلمًا سلطانًا، فانصروا خليفتكم المظلوم، فقد صنع القوم ما تعلمون، قتلوه ظلمًا وبغيا، وقد أمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله"، ثم نزل.

فأعطوه الطاعة وانقادوا له وجمع إليه أطرافه واستعد للقاء علي.

"شرح ابن أبي الحديد 1: 286.

ص: 327

‌وفد علي على معاوية

‌مدخل

وفد علي على معاوية:

بعد أن نزل الإمام علي كرم الله وجهه بصفين، دعا بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي، فقال: ائتوا هذا الرجل، فادعوه إلى الله، وإلى الطاعة والجماعة، فقال له شبث بن ربعي: يا أمير المؤمنين: ألا تطمعه في سلطان توليه إياه، ومنزلة يكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟ فقال علي: ائتوه فالقوه واحتجوا عليه، وانظروا ما رأيه؟ -وهذا في أول ذي الحجة سنة 36هـ- فأتوه، ودخلوا عليه.

ص: 328

218-

‌ خطبة بشير بن عمرو:

فحمد الله أبو عمرة بشير بن عمرو، وأثنى عليه، وقال:

"يا معاوية: إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإن الله عز وجل محاسبك بعملك، وجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله عز وجل أن تفرق جماعة هذه الأمة، وأن تسفك دماءها بينها".

فقطع عليه الكلام، وقال: هلا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال أبو عمرة:

"إن صاحبي ليس مثلك، إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر، في الفضل، والدين، والسابقة في الإسلام، والقرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: فيقول ماذا؟ قال: يأمرك بتقوى الله عز وجل، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق، فإنه أسلم لك في دنياك، وخير لك في عاقبة أمرك".

قال معاوية: ونطل دم عثمان رضي الله عنه! لا والله لا أفعل ذلك أبدًا، فذهب سعيد بن قيس يتكلم، فبادره شبث بن ربعي، فتكلم:

ص: 328

219-

‌ خطبة شبث بن ربعي:

فحمد الله، وأثنى عليه، وقال:

"يا معاوية، إني قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب، إنك لم تجد شيئًا تستغوي به الناس، وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم، إلا قولك: "قتل إمامكم مظلومًا، فنحن نطلب بدمه" فاستجاب لك سفهاء طغام، وقد علمنا أن قد أبطأت عنه بالنصر، وأحببت له القتل، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب، ورب متمني أمر وطالبه، الله عز وجل يحول دونه بقدرته، وربما أوتي المتمني أمنيته، وفوق أمنيته، ووالله ما لك في واحدة منهما خير، لئن أخطأت ما ترجو، إنك لشر العرب حالًا في ذلك، ولئن أصبت ما تمنى لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلي1 النار، فاتق الله يا معاوية، ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله".

1 صلي النار: كرضي، وصلي بها صليا بكسر الصاد وضمها، قاسى حرها.

ص: 329

320-

‌ خطبة معاوية:

فحمد الله معاوية وأثنى عليه، ثم قال:

"أما بعد: فإن أول ما عرفت فيه سفهك: وخفة حلمك، قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه، ثم عنيت بعد فيما لا علم لك به، فقد كذبت ولومت1،

1 لامه لومًا: عذله، وألامه ولوَّمه للمبالغة.

ص: 329

أيها الأعرابي الجلف1 الجافي في كل ما ذكرت ووصفت، انصرفوا من عندي، فإنه ليس بيني وبينكم إلا السيف".

وغضب وخرج القوم وشبث يقول: أفعلينا تهول بالسيف؟ أقسم بالله ليعجلن بها إليك، فأتوا عليا، وأخبروه بالذي كان من قوله، فأخذ علي يأمر الرجل ذا الشرف، فيخرج معه جماعة، ويخرج إليه من أصحاب معاوية آخر معه جماعة، فيقتتلان في خيلهما ورجالهما، ثم ينصرفان، وكانوا يكرهون أن يلقوا بجمع أهل العراق أهل الشأم، لما يتخوفون أن يكون في ذلك الاستئصال والهلاك.

"تاريخ الطبري 5: 242".

1 الجلف: الرجل الجافي.

ص: 330

‌وفد علي إلى معاوية أيضاً

‌مدخل

وفد علي إلى معاوية أيضًا:

ولما دخلت سنة 37هـ توادعا على ترك الحرب في المحرم إلى انقضائه، طمعًا في الصلح واختلفت فيما بينهما الرسل في ذلك دون جدوى، فبعث علي عدي بن حاتم، ويزيد بن قيس، وشبث بن ربعي، وزياد بن خصفة إلى معاوية.

ص: 331

221-

‌ خطبة عدي بن حاتم:

فلما دخلوا حمد اللهَ عديُّ بن حاتم، ثم قال:

"أما بعد: فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عز وجل به كلمتنا وأمتنا، ويحقن به الدماء، ويؤمن به السبل، ويصلح به ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثرًا، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عز وجل بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية، لا يصبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل".

ص: 331

222-

‌ جواب معاوية:

فقال معاوية: "كأنك إنما جئت متهددًا، لم تأت مصلحًا! هيهات يا عدي، كلا والله، إني لابن حرب1 ما يقعقع2 لي بالشنان، أما والله إنك لمن المجلبين على

1 هو جده.

2 القعقعة: تحريك الشيء اليابس الصلب مع صوت، والشنان: جمع شن بالفتح، وهو القربة البالية، وإذا قعقع بالشنان للإبل نفرت، وهو مثل يضرب لمن لا يروعه ما لا حقيقة له.

ص: 331

ابن عفان رضي الله عنه، وإنك لمن قَتَلَتِه، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل1 الله عز وجل به، هيهات يا عدي بن حاتم، قد حلبت بالساعد الأشد2".

فقال له شبث بن ربعي وزياد بن خصفة -وتنازعا جوابًا واحدًا:

"أتيناك فيما يصلحنا وإياك، فأقبلت تضرب لنا الأمثال، دع ما لا ينتفع به من القول والفعل، وأجبنا فيما يعمنا وإياك نفعه".

1 أي يقتله.

2 يعني بذلك قوة استعداده للقتال وتأهبه له.

ص: 332

223-

‌ خطبة يزيد بن قيس:

وتكلم يزيد بن قيس فقال:

"إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك، ولنؤدي عنك ما سمعنا منك، ونحن -على ذلك- لن ندع أن ننصح لك، وأن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة، وأنك راجع به إلى الألفة والجماعة، إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله، ولا أظنه يخفى عليك، إن أهل الدين والفضل لن يعدلوا بعلي، ولن يميلوا1 بينك وبينه، فاتق الله يا معاوية، ولا تخالف عليا، فإنا والله ما رأينا رجلًا قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه".

1 التمييل بين الشيئين، كالترجيح بينهما.

ص: 332

224-

‌ خطبة معاوية:

فحمد الله معاوية وأثنى عليه ثم قال:

"أما بعد: فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي،

ص: 332

وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها؛ إن صاحبكم قتل خليفتنا، وفرق جماعتنا، وآوى ثأرنا1 وقتَلَتَنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد ذلك عليه، أرأيتم قتلة صاحبنا، ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا، فلنقتلهم به، ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة".

فقال له شبث: أيسرك يا معاوية أنك أمكنت من عمار2 تقتله؟ فقال معاوية:

1 الثأر: قاتل حميمك.

2 هو عمار بن ياسر رضي الله عنه، أحد السابقين الأولين، وقد عذبه المشركون في بدء الدعوة الإسلامية فاحتمل العذاب، وكان يعذب هو وأخوه وأبوه وأمه بالنار، فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"صبرًا آل ياسر فموعدكم الجنة. اللهم اغفر لآل ياسر" ومراد شبث بهذا القول إحراج معاوية. لقوله عليه الصلاة والسلاة لعمار: "تقتلك الفئة الباغية": أي إنك يا معاوية إن قتلت عمارًا –وكان من أصحاب علي- كنت من الفئة الباغية. وتفصيل الخبر في ذلك ما روته أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: "لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة أمر باللبن يضرب وما يحتاج إليه، ثم قام فوضع رداءه فلما رأى ذلك المهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم وأكسيتهم يرتجزون ويقولون ويعملون.

لئن قعدنا والنبي يعمل

ذاك إذن لعمل مضلل

قالت: وكان عثمان بن عفان رجلًا نظيفًا متنظفًا، فكان يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كفيه، ونظر إلى ثوبه، فإذا أصابه شيء من التراب نفضه فنظر إليه علي رضي الله عنه فأنشد:

لا يستوي من يعمر المساجدا

يدأب فيها راكعا وساجدا

وقائما طورا وطورا قاعدا

ومن يرى عن التراب حائدا

فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجزها وهو لا يدري من يعني، فسمعه عثمان فقال: يابن سمية " وسمية أمه" ما أعرفني بمن تعرض، ومعه جريدة، فقال لتكفن أو لأعترضن بها وجهك، فسمعه النبي وهو جالس في ظل حائط فقال:"عمار جلدة ما بين عيني وأنفي" فمن بلغ ذلك منه فقد بلغ مني، وأشار بيده فوضعها بين عينيه فكف الناس عن ذلك، وقالوا لعمار: إن رسول الله قد غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا قرآن، فقال: أنا أرضيه كما غضب، فأقبل عليه فقال: يا رسول الله مالي ولأصحابك؟ قال: مالك ولهم؟ قال يريدون قتلي، يحملون لبنة ويحملون علي لبنتين، فأخذ به وطاف به في المسجد وجعل يمسح وجهه من التراب ويقول "يا بن سمية لا يقتلك أصحابي، ولكن تقتلك الفئة الباغية" فلما قتل بصفين، وروى هذا الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال معاوية: هم قتلوه؛ لأنهم أخرجوه إلى القتل، فلما بلغ ذلك عليا قال: ونحن قتلنا أيضًا حمزة؛ لأنا أخرجناه "العقد الفريد 2: 237".

ص: 333

وما يمنعني من ذلك؟ والله لو أمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان رضي الله عنه ولكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان، فقال شبث:

"وإله الأرض وإله السماء، ما عدلت معتدلًا1، لا والذي لا إله إلا هو، لا تصل إلى عمار، حتى تندر2 الهام عن كواهل الأقوام، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها3 فقال له معاوية: "إنه لو قد كان ذلك كانت الأرض عليك أضيق" وتفرق القوم عن معاوية، فلما انصرفوا بعث معاوية إلى زياد بن خصفة التميمي فخلا به.

فحمد الله وأثنى عليه، وقال:

"أما بعد يا أخا ربيعة، فإن عليًّا قطع أرحامنا، وآوى قتلة صاحبنا، وإني أسألك النصر بأسرتك وعشيرتك، ثم لك عهد الله جل وعز وميثاقه أن أوليك إذا ظهرت4 أي المصرين أحببت، قال زياد: فلما قضى معاوية كلامه حمدت الله عز وجل وأثنيت عليه ثم قلت: "أما بعد فإني على بينة من ربي، وبما أنعم عليّ، فلن أكون ظهيرًا5 للمجرمين" ثم قمت.

"تاريخ الطبري 6: 2".

1 أي إنك إذا عدلت عمارًا بناتل مولى عثمان: أي سويت بينهما لم تكن معتدلًا في حكمك.

2 ندر الشيء كنصر ندورًا: سقط جوف شيء أو من بين أشياء فظهر. والهام الرءوس: جمع هامة.

3 الرحب بالضم: الاتساع.

4 أي غلبت وانتصرت.

5 معينًا وناصرًا.

ص: 334

‌وفد معاوية إلى علي

‌مدخل

وفد معاوية إلى علي:

وبعث معاوية إلى علي حبيب بن مسلمة الفهري، وشرحبيل بن السمط، ومعن بن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه.

ص: 335

225-

‌ خطبة حبيب بن مسلمة:

فحمد الله حبيب وأثنى عليه، ثم قال:

"أما بعد فإن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان خليفة مهديًّا، يعمل بكتاب الله عز وجل، وينيب إلى أمر الله تعالى، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه، فقتلتموه رضي الله عنه، فادفع إلينا قتلة عثمان –إن زعمت أنك لم تقتله- نقتلهم به، ثم اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم".

فقال له علي بن أبي طالب: "وما أنت لا أم لك والعزل، وهذا الأمر؟ اسكت؛ فإنك لست هناك، ولا بأهل له" فقام، وقال له:"والله لتريني بحيث تكره"، فقال علي: "وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك؟ لا أبقى الله عليك إن أبقيت علي، أحقرة1 وسوءًا، اذهب فصوِّب وصعِّد ما بدا لك. وقال شرحبيل بن السمط:

1 في كتب اللغة: حقره حقرًا بفتح الحاء وحُقرية بضمها وتشديد الياء ولم أجد كلمة "حقرة" وأرى أنها مثل هزأة وضحكة، يقال: رجل هزأة بضم الهاء وسكون الزاى أي يهزأ به وضحكة كذلك أي يضحك منه، فالمعنى أتكون حقرة أي حقيرًا وتسوءني سوءًا.

ص: 335

إني إن كلمتك فلعمري ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي قبل، فهل عندك جواب غير الذي أجبته به؟ فقال علي: نعم لك ولصاحبك جواب غير الذي أجبته به.

ص: 336

226-

‌ خطبة علي بن أبي طالب:

فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"أما بعد فإن الله جل ثناؤه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، فأنقذ به من الضلالة، وانتاش1 به من الهلكة، وجمع به من الفرقة، ثم قبضه الله إليه وقد أدى ما عليه، صلى الله عليه وسلم، ثم استخلف الناس أبا بكر رضي الله عنه، واستخلف أبو بكر عمر رضي الله عنه، فأحسنا السيرة، وعدلا في الأمة، وقد وجدنا2 عليهما أن توليا علينا، ونحن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغفرنا ذلك لهما، وولي عثمان رضي الله عنه فعمل بأشياء عابها الناس عليه، فساروا إليه فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم، فقالوا لي: بايع، فأبيت عليهم، فقالوا لي: بايع، فإن الأمة لا ترضى إلا بك، وإنا نخاف إن لم تفعل أن تفترق الناس، فبايعتهم، فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني3، وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عز وجل له سابقة في الدين، ولا سلف صدق في الإسلام، طليق4 بن طليق، حزب5 من هذه الأحزاب، لم يزل الله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين عدوًّا، هو وأبوه، حتى دخلا في الإسلام كارهين،

1 انتشل وأخرج.

2 وجد عليه: غضب.

3 يعني طلحة والزبير وما كان منهما من الخلاف عليه، وانضمامهما إلى السيدة عائشة.

4 الطلقاء: هم الذين عفا عنهم النبي عليه الصلاة والسلام بعد فتح مكة، فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

5 حزب بدل من طليق الثاني: أي ابن حزب من هذه الأحزاب التي تألبت وتظاهرت على حربه صلى الله عليه وسلم من قريش، وغطفان، وبني مرة، وبني أشجع، وبني سليم، وبني أسد "في غزوة الأحزاب، وهي غزوة الخندق سنة 5هـ" وكانت عدة الجميع عشرة آلاف مقاتل، وقائدهم العام أبو سفيان.

ص: 336

فلا غرو1 إلا خلافكم معه، وانقيادكم له، وتدعون آل نبيكم صلى الله عليه وسلم، الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم، ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحدًا، ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإماتة الباطل، وإحياء معالم الدين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة".

فقالا: "اشهد أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلومًا" فقال لهما: "لا أقول إنه قتل مظلومًا ولا إنه قتل ظالمًا". قالا: "فمن لم يزعم أن عثمان قتل مظلومًا، فنحن منه برآء" ثم قاما فانصرفا، فقال علي:{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل: 80- 81] .

"تاريخ الطبري 6: 4".

1 فلا غرو: أي لا عجب، وقوله: إلا خلافكم معه: أي خلافكم علي معه، أو هو "حلافكم معه" بالحاء: أي محالفتكم له، ومناصرتكم إياه.

ص: 337

‌التحريض على القتال من قبل معاوية:

227-

‌ خطبة عمرو بن العاص

"المتوفى سنة 43هـ":

لما بلغ معاوية أن الإمام عليًا "كرم الله وجهه" يجهز الجيوش لقتاله، دعا عمرو بن العاص، فاستشاره، فقال:"أما إذ بلغك أنه يسير فسر بنفسك، ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك". قال: "أما إذًا يا أبا عبد الله فجهز الناس". فجاء عمرو فحضض الناس، وضعف عليًا وأصحابه، وقال:

"إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم، وأوهنوا شوكتهم، وفلوا حدهم، ثم إن أهل البصرة مخالفون لعلي، وقد وترهم وقتلهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة، منهم من قد قتل خليفتكم، فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تطلوه".

"تاريخ الطبري 5: 236".

ص: 338

228-

‌ خطبة أخرى لعمرو بن العاص:

وخطب عمرو بن العاص قبل الوقعة العظمى بصفين، يحرض أهل الشأم "وقد كان منحنيًا على قوس" فقال:

"الحمد لله العظيم في شأنه، القوي في سلطانه، العلي في مكانه، الواضح في برهانه، أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، في كل رزية من بلاء1، أو شدة أو رخاء،

1 البلاء: يكون محنة، ويكون منحة.

ص: 338

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، ثم إنا نحتسب عند الله رب العالمين ما أصبح في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، من اشتعال نيرانها، واضطراب حبلها، ووقوع بأسها بينها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين.

أولا تعلمون أن صلاتنا وصلاتهم، وصيامنا وصيامهم، وحجنا وحجهم، وقبلتنا وقبلتهم، وديننا ودينهم واحد؟ ولكن الأهواء مختلفة، اللهم أصلح هذه الأمة بما أصلحت به أولها، واحفظ فيما بيننا، مع أن القوم قد وطئوا بلادكم، وبغوا عليكم، فجدوا في قتال عدوكم، واستعينوا بالله ربكم، وحافظوا على حرماتكم1" ثم جلس.

"شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 504".

1 جمع حرمة، وهي ما لا يحل انتهاكه.

ص: 339

229-

‌خطبة معاوية بن أبي سفيان يحرض أهل الشأم:

وقام معاوية في أهل الشأم خطيبًا، فقال:

"أيها الناس: أعيرونا جماجمكم وأنفسكم1، لا تقتلوا2، ولا تتخاذلوا3، فإن اليوم يوم أخطار، ويوم حقيقة وحفاظ4، إنكم لعلى حق، وبأيديكم حجة، إنما تقاتلون من نكث البيعة، وسفك الدم الحرام، فليس له من السماء عاذر، قدموا أصحاب السلاح المستلئمة5، وأخروا الحاسر6، واحملوا بأجمعكم، فقد بلغ الحق مقطعه، وإنما هو ظالم ومظلوم".

"شرح ابن أبي الحديد 1: 481".

1 أي جودوا برءوسكم، ولا تبخلوا بنفوسكم على القتل.

2 في الأصل "لا تقتتلوا" على أن الفعل مجزوم بلا الناهية، وأراه محرفًا، وإنما هو "لا تقتلوا" مجزوم في جواب الأمر، أي إن تسخوا ببذل رءوسكم ونفوسكم وتقاتلوا مستبسلين تنجوا من القتل.

3 في الأصل "ولا تتجادلوا" وأراه مصحفًا عن "ولا تتخاذلوا" أي لتتعاونوا، ولا يخذل بعضكم بعضًا.

4 أي يوم محافظة على الأرواح والأعراض والأموال ودفاع عنها.

5 استلأم: لبس اللأمة، وهي الدرع.

6 الحاسر: من لا مغفر له، ولا درع، أو لا جنة له.

ص: 339

230-

‌ خطبة ذي الكلاع الحميري:

1

وطلب معاوية إلى ذي الكلاع الحميري أن يخطب الناس، ويحرضهم على قتال علي رضي الله عنه ومن معه من أهل العراق، فعقد فرسه "وكان من أعظم أصحاب معاوية خطرًا2" وخطب الناس فقال:

"الحمد لله حمدًا كثيرًا، ناميًا واضحًا منيرًا، بكرةً وأصيلًا، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وكفى بالله وكيلًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالعرفان إمامًا، وبالهدى ودين الحق، حين ظهرت المعاصي، ودرست3 الطاعة، وامتلأت الأرض جورًا وضلالة، واضطرمت الدنيا نيرانًا وفتنة، وورك4 عدو الله إبليس على أن يكون قد عبد في أكنافها، واستولى على جميع أهلها، فكان محمد صلى الله عليه وآله هو الذي أطفأ الله به نيرانها، ونزع به أوتادها، وأوهن به قوى إبليس، وآيسه مما كان قد طمع فيه من ظفره بهم، وأظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.

ثم كان من قضاء الله أن ضم بيننا وبين أهل ديننا بصفين، وإنا لنعلم أن فيهم قومًا، قد كانت لهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله سابقة ذات شأن وخطر عظيم، ولكني ضربت الأمر ظهرًا وبطنًا، فلم أر يسعني أن يهدر دم عثمان، صهر نبينا صلى الله عليه وآله، الذي جهز جيش العسرة5، وألحق في مصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بيتًا،

1 هو ذو الكلاع الأصغر سميفع بن ناكور بن عمرو بن يعفر بن ذي الكلاع الأكبر يزيد بن النعمان وهما من أذواء اليمن.

2 أي شأنًا وقدرًا.

3 امَّحت.

4 ورك على الأمر وروكًا: قدر.

5 وذلك أنه في غزوة تبوك –وكانت سنة تسع للهجرة- أنفق في تجهيز المقاتلة من المسلمين عشرة آلاف دينار، وأعطى ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها "والأحلاس جمع حلس بالكسر: وهو كساء على ظهر البعير تحت البرذعة. والأقتاب جمع قتب بالتحريك: وهو ما يوضع على سنام البعير" وخمسين فرسًا، فقال=

ص: 340

وبنى سقاية1، وبايع له نبي الله بيده اليمنى على اليسرى2، واختصه بكريمتيه أم كلثوم ورقية3، فإن كان قد أذنب ذنبًا، فقد أذنب من هو خير منه، وقد قال الله سبحانه لنبيه:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقتل موسى نفسًا4، ثم استغفر الله

= عليه الصلاة والسلام: "اللهم ارض عن عثمان، فإني راض عنه" وكان ذلك في زمن عسرة الناس وجدب البلاد، وشدة الحر، قال تعالى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أي وقتها، وهي حالهم في تلك الغزوة، ذكروا أن الرجلين كانا يقتسمان تمرة، وأن العشرة كانوا يعتقبون البعير الواحد.

1 وذلك أنه اشترى بئر رومة "بضم الراء: بئر بالمدينة" ثم تصدق بها على المسلمين، فكان رشاؤه فيها كرشاء أحدهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"من حفر بئر رومة فله الجنة" وأشرف عثمان رضي الله عنه على الثوار حين حصروه ومنعوا الماء عنه، فقال: أنشدكم الله، هل علمتم أني اشتريت رومة من مالي يستعذب بها، فجعلت رشائي منها كرشاء رجل من المسلمين؟ قيل: نعم، قال: فما يمنعني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر؟ ثم قال: أنشدكم الله هل علمتم أني اشتريت كذا وكذا من الأرض فزدته في المسجد؟ قيل: نعم، قال: فهل علمتم أحدًا من الناس منع أن يصلي فيه قبلي؟ ثم قال: أنشدكم الله، هل سمعتم نبي الله صلى الله عليه وسلم يذكر كذا وكذا -أشياء في شأنه، فجعل الناس يقولون: مهلًا عن أمير المؤمنين.

2 وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قصد إلى مكة في غزوة الحديبية "سنة ست للهجرة" بعث عثمان بن عفان إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه إنما جاء زائرًا للبيت ومعظمًا لحرمته، فخرج عثمان إلى مكة وبلغ الرسالة، واحتبسته قريش عندها، فشاع عند المسلمين أن عثمان قد قتل، فقال عليه الصلاة والسلام:"لا نبرح حتى نناجز القوم"، ودعا المسلمين إلى البيعة على الموت، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وبايع عليه الصلاة والسلام لعثمان، فضرب بيده اليمنى على يده اليسرى وقال:"هذه يد عثمان".

3 تزوج عثمان السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ماتت جزع عثمان عليها، وقال: يا رسول الله انقطع صهري منك، قال:"إن صهرك مني لا ينقطع، وقد أمرني جبريل أن أزوجك أختها بأمر الله: السيدة أم كلثوم".

4 وذلك أنه في إبان نشأته بمصر دخل مدينة منف ذات مرة، فوجد فيها رجلين يقتتلان قبطيًّا يسخر إسرائيليًّا ليحمل حطبًا إلى مطبخ فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي، فقال موسى للقطبي: خل سبيله، فقال له: لقد هممت أن أحمله عليك، فوكزه موسى "أي ضربه بجمع كفه" وكان شديد القوة والبطش، فقتله، ولم يكن يقصد قتله "وذكروا أنه كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة" وقد اغتم لذلك خوفًا من عقاب الله. =

ص: 341

فغفر له، وقد أذنب نوح1، ثم استغفر الله فغفر له، وقد أذنب أبوكم آدم2، ثم استغفر الله فغفر له، ولم يعر أحدكم من الذنوب، وإنا لنعلم. وقد كانت لابن أبي طالب سابقة حسنة مع رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن لم يكن مالأ3 على قتل عثمان فقد

= ومن اقتصاص فرعون، واستغفر الله، فغفر له، وفي ذلك يقول الله تعالى:{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة القصص: 15- 16] وقال تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} [سورة طه]

1 يشير إلى ما كان من نوح عليه السلام بشأن ابنه كنعان حين حدث الطوفان، قال تعالى:{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} إلى أن قال: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} "أي وقد وعدتني بنجاتهم"{وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة هود] .

2 وذلك أنه إذ أسكنه الله هو وزوجه حواء الجنة، وأباح لهما أن يأكلا من حيث شاءا، نهاه أن يقرب شجرة عينها له، فوسوس له إبليس أن يأكل منها فأطاعه، وفي ذلك يقول الله تعالى:{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [سورة الأعراف] .

3 ناصر وشايع.

ص: 342

خذله، وإنه لأخوه في دينه، وابن عمه1، وسلفه2، وابن عمته3، ثم قد أقبلوا من عراقهم حتى نزلوا شامكم وبلادكم وبيضتكم4، وإنما عامتهم بين قاتل وخاذل، فاستعينوا بالله واصبروا، فلقد ابتليتم أيتها الأمة، ولقد رأيت في منامي في ليلتي هذه، لكأنا وأهل العراق اعتورنا5 مصحفا نضربه بسيوفنا، ونحن في ذلك جميعًا ننادي: ويحكم الله! ومع أنا والله لا نفارق العرصة6 حتى نموت، فيكم بتقوى الله، وليكن الثبات لله، فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: "إنما يبعث المقتتلون على الثبات" أفرغ الله علينا وعليكم الصبر، وأعز لنا ولكم النصر، وكان لنا ولكم في كل أمر، وأستغفر الله لي ولكم".

"شرح ابن أبي الحديد: 1: 484".

1 عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

2 السلف "بفتح فكسر وبكسر فسكون" من الرجل: زوج أخت امرأته وقد علمت أن عثمان تزوج السيدة رقية أخت السيدة فاطمة زوج الإمام علي.

3 أم عثمان هي أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأمها البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب بن هاشم عمة النبي صلى الله عليه وسلم.

4 البيضة: ساحة القوم.

5 اعتوروا الشيء: تداولوه.

6 العرصة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء.

ص: 343

‌خطبة يزيد بن أبي أسد البجلي

231-

خطبة يزيد بن أسد البجلي:

وقام يزيد بن أسد البجلي في أهل الشأم يخطب بصفين، وعليه قباء من خز وعمامة سوداء، آخذًا بقائم سيفه، واضعًا نصل السيف في الأرض متوكئًا عليه، فقال:

"الحمد لله الواحد الفرد، ذي الطول1 والجلال، العزيز الجبار، الحكيم الغفار، الكبير المتعال، ذي العطاء والفعال2، والسخاء والنوال، والبهاء والجمال، والمن

1 الطول: الفضل والقدرة والغنى.

2 الفعال: اسم الفعل الحسن، والكرم.

ص: 343

والإفضال، مالك اليوم الذي لا بيع فيه1 ولا خلال2، أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، وفي كل حال من شدة أو رخاء، أحمده على نعمه التوام، وآلائه العظام، حمدًا يستنير بالليل والنهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة النجاة في الحياة الدنيا وعند الوفاة، وفيها الخلاص يوم القصاص، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى، وإمام الرحمة والهدى، صلى الله عليه وآله.

ثم كان من قضاء الله أن جمعنا وأهل ديننا في هذه الرقعة من الأرض، والله يعلم أني كنت كارهًا لذلك، ولكنهم لم يبلعونا ريقنا، ولم يتركونا نرتاد لأنفسنا، وننظر لمعادنا، حتى نزلوا بين أظهرنا، وفي حريمنا وبيضتنا3، وقد علمنا أن في القوم أحلامًا وطغامًا4، ولسنا نأمن طغامهم على ذرارينا ونسائنا، ولقد كنا نحب أن لا نقاتل أهل ديننا، فأخرجونا حتى صارت الأمور إلى أن قاتلناهم عدا حمية5، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين.

أما والذي بعث محمدًا بالرسالة لوددت أني مت منذ سنة، ولكن الله إذا أراد أمرًا لم يستطع العباد رده، فنستعين بالله العظيم، وأستغفر الله لي ولكم".

"شرح ابن أبي الحديد 1: 485 والأغاني 19: 55".

1 لا بيع فيه فيباع المقصر ما يتدارك به تقصيره، أو يفدي به نفسه.

2 الخلال والمخالة مصدر خال: المصادقة، أي ولا مخالة فيه فيشفع لك خليلك.

3 البيضة: ساحة القوم.

4 الحلم بالكسر: الأناة والعقل، وهو حليم والجمع حلماء وأحلام، والطغام: أوغاد الناس.

5 الحمية: الأنفة "وفي الأصل غدا، وأرى صوابه عدا أي أعداء".

ص: 344

‌التحريض على القتال من قبل الإمام علي أيضًا:

232-

‌ خطبة الإمام علي:

وخطب الإمام علي كرم الله وجهه أصحابه، متوكئًا على قوسه، وقد جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله عنده فهم يلونه -كأنه أحب أن يعلم الناس أن الصحابة متوافرون معه- فحمد الله وأثنى عليه، وقال:

"أما بعد: فإن الخيلاء1 من التجبر، وإن النخوة2 من التكبر، وإن الشيطان عدو حاضر، يعدكم الباطل. ألا إن المسلم أخو المسلم، فلا تنابذوا، ولا تخاذلوا، ألا إن شرائع الدين واحدة، وسبله قاصدة3، من أخذ بها لحق4، ومن فارقها محق5، ومن تركها مرق6، ليس المسلم بالخائن إذا اؤتمن، ولا بالمخلف إذا وعد، ولا بالكذاب إذا نطق، نحن أهل بيت الرحمة، وقولنا الصدق، وفعلنا الفضل، ومنا خاتم النبيين، وفينا قادة الإسلام، وفينا حملة الكتاب، ألا إنا ندعوكم إلى الله، وإلى رسوله، وإلى جهاد عدوه، والشدة في أمره، وابتغاء مرضاته، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام رمضان، وتوفير الفيء على أهله، ألا وإن من أعجب

1 الخيلاء: الكبر.

2 النخوة: الافتخار والتعظم.

3 القصد: استقامة الطريق.

4 أي أدرك رضا الله وثوابه.

5 محقه: محاه، ومحق الله الشيء ذهب ببركته.

6 أي خرج عن الدين، وأصله من مرق السهم من الرمية مروقًا: إذا خرج من الجانب الآخر.

ص: 345

العجائب أن معاوية بن أبي سفيان الأموي، وعمرو بن العاص السهمي، أصبحا يحرضان الناس على طلب الدين بزعمهما، ولقد علمتم أني لم أخالف رسول الله صلى الله عليه وآله قط، ولم أعصه في أمر، أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص1 فيها الأبطال وترعد فيها الفرائص2، بنجدة أكرمني الله سبحانه بها وله الحمد، ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن رأسه لفي حجري، ولقد وليت غسله بيدي وحدي تقلبه الملائكة المقربون معي، وايم الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها، إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا ما شاء الله".

"شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 481".

1 نكص عن الأمر: أحجم عنه.

2 جمع فريصة، وهي لحمة بين الجنب والكتف لا تزال ترعد.

ص: 346

233-

خطبة أخرى له:

وروي أن الإمام عليًا قال في هذه الليلة: حتى متى لا نناهض القوم بأجمعنا؟ فقام في الناس فقال:

"الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض، ولا ينقض ما أبرم، لو شاء ما اختلف اثنان من هذه الأمة، ولا من خلقه، ولا تنازع البشر في شيء من أمره، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، حتى لفت بيننا في هذا الموضع، ونحن من ربنا بمرأى ومسمع، ولو شاء لعجل النقمة، ولكان منه النصر، حتى يكذب الله الظالم، ويعلم المحق أين مصيره، ولكنه جعل الدنيا دارالأعمال، والآخرة دار الجزاء والقرار، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} ألا إنكم لاقو العدوِّ غدًا إن شاء الله، فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، واسألوا الله الصبر والنصر، والقوهم بالحد والحزم وكونوا صادقين".

"شرح ابن أبي الحديد م 1 ص 481 وتاريخ الطبري 6: 7".

ص: 346

234-

‌ ومن كلام له كرم الله وجهه:

كان يقوله لأصحابه في بعض أيام صفين.

"معاشر المسلمين: استشعروا1 الخشية، وتجلببوا السكينة، وعضوا على النواجذ2، فإنه أنبى للسيوف عن الهام3، وأكملوا اللأمة4، وقلقلوا السيوف في أغمادها، قبل سلها5، والحظوا الخزر6، واطعنوا الشزر7، ونافحوا بالظبا8، وصلوا السيوف بالخطا، واعلموا أنكم بعين9 الله، ومع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعاودوا الكر، واستحيوا من الفر، فإنه عار في الأعقاب، ونار يوم الحساب، وطيبوا عن أنفسكم نفسا، وامشوا إلى الموت مشيا سجحًا10، وعليكم بهذا السواد11 الأعظم، والرواق المطنب12، فاضربوا ثبجه13، فإن الشيطان كامن في كسره14، قد قدم للوثبة يدا، وأخر للنكوص رجلًا، فصمدًا صمدًا15، حتى ينجلي لكم عمود الحق، وأنتم الأعلون، الله معكم، ولن يتركم16 أعمالكم".

"نهج البلاغة 1: 57".

1 استشعر: لبس الشعار وهو ما يلي البدن من الثياب. وتجلبب: لبس الجلباب، والمراد: لازموا الخشية والسكينة.

2 النواجذ جمع ناجذ: أقصى الأضراس، ويعض المرء نواجذه حين يشتد غيظه، والمراد: استجمعوا كل قوتكم.

3 فإنه: الضمير فيه يعود على المصدر المفهوم من الفعل السابق: أي فإن العض على النواجذ أنبى للسيوف، أي أدعى إلى نبوها عن رءوسكم، نبا السيف عن الضريبة: كَلَّ، والهام: الرءوس جمع هامة.

4 اللأمة: الدرع، ويجوز أن يعبر باللأمة عن جميع أدوات الحرب، يريد أكملوا السلاح.

5 مخالفة أن تستعصي عن الخروج وقت سلها.

6 الخزر: النظر في أحد الشقين، وتلك أمارة الغضب.

7 الطعن في الجوانب يمينًا وشمالًا.

8 نافحوا: كافحوا وضاربوا، والظبا: جمع ظبة وهي حد السيف.

9 أي ملحوظون بها.

10 اللين: السهل.

11 العدد الكثير. يعني جمهور أهل الشأم.

12 الرواق: بكسر الراء وضمها الفسطاط، يريد به مضرب معاوية المطنب، أي المشدود بالأطناب "جمع طنب بضمتين، وهو الحبل" وكان معاوية في مضرب عليه قبة عالية وحوله صناديد أهل الشأم.

13 أي وسطه.

14 جانبه.

15 الصمد: القصد، صمده من باب نصر قصده.

16 لن ينقصكم منها شيئًا.

ص: 347

235-

‌ خطبة أخرى للإمام:

وخطب الإمام علي ذلك اليوم أيضًا، فقال:

"أيها الناس: إن الله تعالى ذكره، قد دلكم على تجارة تنجيكم من العذاب، وتشفي1 بكم على الخير، إيمان بالله ورسوله، وجهاد في سبيله، وجعل ثوابه مغفرة الذنوب، ومساكن طيبة في جنات عدن، ورضوان من الله أكبر، وأخبركم بالذي يحب فقال:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، وأربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، وأولى بالوقار، والتووا في أطراف الرماح، فإنه أمْوَر2 للأسنة، ورايتكم فلا تميلوها، ولا تزيلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، المانعي الذمار3، والصبر عند نزول الحقائق، أهل الحفاظ الذين يخفرون4 برايتكم ويكنفونها يضربون خلفها وأمامها، ولا يضيعونها، أجزأ كل امرئ مسلم قرنه5، وواسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيجمع عليه قرنه وقرن أخيه، فيكسب بذلك اللائمة، ويأتي به دناءة، أنى هذا، وكيف يكون هذا؟ هذا يقاتل اثنين، وهذا ممسك يده، قد خلى قرنه إلى أخيه هاربًا منه، أو قائمًا ينظر إليه؟ من يفعل هذا مقته الله، فلا تعرضوا لمقت الله، فإنما مردكم إلى الله، قال الله تعالى لقوم عابهم: {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا

1 أشفى عليه: أشرف.

2 اسم تفضيل من مار، سهم مائر: أي خفيف نافذ داخل في الأجسام.

3 ما يلزمك حفظه وحمايته.

4 خفره وبه وعليه يخفر بكسر الفاء وضمها: أجاره ومنعه وآمنه.

5 القرن: كفؤك في الشجاعة "أو عام" وأجزأه: أغناه وكفاه.

ص: 348

قَلِيلاً} وايم الله إن فررتم من سيف الله العاجلة، لا تسلمون من سيف الآخرة، استعينوا بالصدق والصبر، فإنه بعد الصبر ينزل النصر".

"شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 483 وتاريخ الطبري 6: 9".

ص: 349

236-

خطبة للإمام علي:

ومر الإمام علي كرم الله وجهه على جماعة من أهل الشأم، فيها الوليد بن عقبة وهم يشتمونه، فخبر بذلك، فوقف فيمن يليهم من أصحابه، فقال:

"انهدوا1 إليهم، عليكم السكينة والوقار، وقار الإسلام وسيمى الصالحين، فوالله لأقرب قوم من الجهل قائدهم ومؤذنهم2 معاوية وابن النابغة3 وأبو الأعور السلمي، وابن أبي معيط، شارب الخمر، المجلود حدًّا في الإسلام، وهم أولى من يقومون، فينقصونني ويجدبونني4، وقبل اليوم ما قاتلوني، وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام، وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام، الحمد لله قديمًا عاداني الفاسقون، فعبدهم5 الله، ألم يفنخوا6؟ إن هذا لهو الخطب الجليل، إن فساقا كانوا غير مرضيين، وعلى الإسلام وأهله متخوفين، خدعوا شطر هذه الأمة، وأشربوا قلوبهم حب الفتنة، واستمالوا أهواءهم بالإفك والبهتان، قد نصبوا لنا الحرب في إطفاء نور الله عز وجل، اللهم فافضض خدمتهم7، وشتت كلمتهم، وأبسلهم8 بخطاياهم، فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت"،

"تاريخ الطبري 6: 24".

1 نهد الرجل: نهض، ونهد لعدوه: صمد له.

2 الأذين والمؤذن: الزعيم.

3 هو عمرو بن العاص، والنابغة: لقب أمه سلمى بنت حرملة.

4 الجدب بالتسكين: العيب.

5 ذللهم. المعبد: المذلل من الطريق وغيره.

6 الفنخ بالسكون: القهر، والغلبة والتذليل كالتفنيخ "وفي الأصل:"ألم يفتحوا" وهو تصحيف".

7 يقال: فض الله خدمتهم، أي فرق جماعتهم، الخدمة بالتحريك سير غليظ مضفور مثل الحلقة يشد في رسغ البعير، ثم يشد إليه سرائح النعل "أي سيورها: جمع سريحة" فإذا انفضت الخدمة انحلت السرائح وسقطت النعل، فضرب ذلك مثلًا لذهاب ما كانوا عليه وتفرقه، وشبه اجتماع أمرهم واتساقه بالحلقة المستديرة.

8 أبسله: أسلمه للهكلة، أي أهلكهم.

ص: 349

237-

خطبة أخرى له:

ومر بأهل راية، فرآهم لا يزولون عن موقفهم، فحرض عليهم الناس -وذكر أنهم غسان- فقال:

"إن هؤلاء لن يزولوا عن موقفهم دون طعن دراك، يخرج منهم النسم1، وضرب يفلق منه الهام2. ويطيح 3 العظام، وتسقط منه المعاصم4 والأكف. وحتى يصدع جباههم بعمد الحديد، وتنتشر حواجبهم على الصدور والأذقان، أين أهل الصبر، وطلاب الأجر؟ ".

"تاريخ الطبري 6: 25".

1 جمع نسمة، وهي نفس الروح "بفتح الفاء" ثم سميت بها النفس "بالسكون".

2 جمع هامة، وهي الرأس.

3 يصح أن يكون مضارع طيح بالتشديد: طيح بثوبه: رمى به في مضيعة، وطيح الشيء: ضيعه، وأن يكون مضارع أطاح: أطاح شعره أسقطه، والشيء أفناه وأذهبه، وأن يكون مضارع طاح: طاح يطيح ويطوح هلك، أو أشرف على الهلاك وذهب وسقط وتاه في الأرض.

4 جمع معصم بكسر الميم، وهو موضع السوار أو اليد.

ص: 350

238-

‌ خطبة عبد الله بن عباس:

وخطب عبد الله بن عباس أهل العراق بصفين، فقال:

"الحمد لله رب العالمين، الذي دحا1 تحتنا سبعًا، وسمك2 فوقنا سبعًا، وخلق فيما بينهن خلقًا، وأنزل لنا منهن رزقًا، ثم جعل لكل شيء قدرًا، يبلى ويفنى، غير وجهه الحي القيوم، الذي يحيا ويبقى.

1 دحا الله الأرض يدحوها ويدحاها: بسطها.

2 أي رفع.

ص: 350

إن الله تعالى بعث أنبياء ورسلًا، فجعلهم حججًا على عباده عذرًا ونذرًا1، لا يطاع إلا بعلمه وإذنه، يمن بالطاعة على من يشاء من عباده، ثم يثيب عليها، ويعصى بعلم منه، فيعفو ويغفر بحلمه، لا يقدر قدره، ولا يبلغ شيء مكانه، أحصى كل شيء عددًا، وأحاط بكل شيء علمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام الهدى والنبي المصطفى.

وقد ساقنا قدر الله إلى ما ترون، حتى كان مما اضطرب من حبل هذه الأمة، وانتشر من أمرها، أن معاوية بن أبي سفيان وجد من طغام الناس أعوانًا على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره، وأول ذكر صلى معه، بدري2 قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله كل مشاهده التي فيها الفضل، ومعاوية مشرك كان يعبد الأصنام، والذي ملك الملك وحده، وبان به وكان أهله، لقد قاتل علي بن أبي طالب عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: صدق الله ورسوله، ومعاوية يقول: كذب الله ورسوله، فعليكم بتقوى الله، والجد والحزم والصبر، والله إنا لنعلم أنكم لعلى حق، وأن القوم لعلى باطل، فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في حقكم، وإنا لنعلم أن الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم، اللهم أعنا ولا تخذلنا، وانصرنا على عدونا، ولا تحل عنا، وافتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين".

"شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 504".

1 هما مصدران: عذره يعذره عذرًا بضم فسكون وبضمتين وأنذره إنذارًا ونذرًا بضم فسكون وبضمتين: أو جمعان: العذر بضمتين جمع عذير وهو العاذر، والنذر بضمتين جمع نذير وهو المنذر.

2 أي حضر غزوة بدر الكبرى التي نشبت بين رسول الله عليه الصلاة والسلام وبين مشركي قريش في السنة الثانية للهجرة.

ص: 351

239-

‌ خطبة عبد الله بن بديل الخزاعي:

وقام عبد الله بن بديل الخزاعي في أصحابه فخطبهم، فقال:

"إن معاوية ادعى ما ليس له، ونازع الأمر أهله، ومن ليس مثله، وجادل بالباطل، ليدحض1 به الحق، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، وزين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس2 عليهم الأمور، وزادهم رجسًا3 إلى رجسهم، وأنتم والله على نور وبرهان، قاتلوا الطغام الجفاة، قاتلوهم ولا تخشوهم، وكيف تخشونهم؟ وفي أيديكم كتاب من ربكم ظاهر مبين، قوله سبحانه: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} لقد قاتلتهم مع النبي صلى الله عليه وآله، والله ما هم في هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبر، انهضوا إلى عدو الله وعدوكم، بارك الله عليكم".

"شرح ابن أبي الحديد 1: ص 483 وتاريخ الطبري 6: 9".

1 دحضت الحجة: بطلت، وأدحضتها: أبطلتها.

2 التلبيس: التخليط.

3 الرجس: القذر والمأثم، وكل ما استقذر من العمل، والعمل المؤدي إلى العذاب.

ص: 352

240-

‌ خطبة أبي الهيثم بن التيهان:

وكان أبو الهيثم بن التيهان يسوي صفوف أهل العراق، ويقول:

"يا معشر أهل العراق، إنه ليس بينكم وبين الفتح في العاجل، والجنة في الآجل، إلا ساعة من النهار، فأرسلوا أقدامكم، وسووا صفوفكم، أعيروا ربكم جماجمكم، واستعينوا بالله إلهكم، وجاهدوا عدو الله وعدوكم، واقتلوهم قتلهم الله وأبادهم. واصبروا فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين".

"شرح ابن أبي الحديد 1: ص 484".

ص: 352

241-

خطبة للإمام علي:

وخطب علي عليه السلام بصفين أيضًا فقال:

"الحمد لله على نعمه الفاضلة على جميع من خلق من البر والفاجر، وعلى حججه البالغة على خلقه من أطاعه منهم ومن عصاه، إن يرحم؛ فبفضله ومنه، وإن عذب؛ فبما كسبت أيديهم، وإن الله ليس بظلام للعبيد، أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، وأستعينه على ما نابنا من أمر الدنيا والآخرة، وأتوكل عليه، وكفى بالله وكيلًا. ثم إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ارتضاه لذلك وكان أهله، واصطفاه لتبليغ رسالته وجعله رحمة منه على خلقه. فكان علمه فيه رءوفًا رحيمًا، أكرم خلق الله حسبًا، وأجملهم منظرًا، وأسخاهم نفسًا، وأبرهم لوالد، وأوصلهم لرحم، وأفضلهم علمًا، وأثقلهم حلمًا، وأوفاهم لعهد، وآمنهم على عقد، لم يتعلق عليه مسلم ولا كافر بمظلمة قط، بل كان يظلم فيغفر ويقدر فيصفح، حتى مضى صلى الله عليه وآله مطيعًا لله، صابرًا على ما أصابه، مجاهدًا في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وآله، فكان ذهابه أعظم المصيبة على أهل الأرض البر والفاجر، ثم ترك فيكم كتاب الله يأمركم بطاعة الله، وينهاكم عن معصيته.

وقد عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدًا، فلست أحيد عنه، وقد حضرتم عدوكم، وعلمتم أن رئيسهم منافق يدعوهم إلى النار، وابن عم نبيكم معكم وبين أظهركم يدعوكم إلى الجنة، وإلى طاعة ربكم، والعمل بسنة نبيكم، ولا سواء1 من صلى قبل كل ذكر، لا يسبقني بصلاة مع رسول الله أحد. وأنا من أهل بدر، ومعاوية طليق،

1 أي ولا مثل من صلى.

ص: 353

والله إنا على الحق، وإنهم على الباطل، فلا يجتمعن على باطلهم، وتتفرقوا عن حقكم، حتى يغلب باطلهم حقكم، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، فإن لم تفعلوا يعذبهم بأيدي غيركم".

"شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 503".

ص: 354

242-

‌ خطبة سعيد بن قيس:

وقام سعيد بن قيس يخطب أصحابه بقناصرين1، فقال:

"الحمد لله الذي هدانا لدينه، وأورثنا كتابه، وامتن علينا بنبيه، فجعله رحمة للعالمين، وسيد المرسلين، وقائد المؤمنين، وختامًا للنبيين، وحجة الله العظيم، على الماضين والغابرين، ثم كان مما قضى الله وقدره -وله الحمد على ما أحببنا وكرهنا- أن ضمنا وعدونا بقناصرين، فلا يجمل بنا اليوم الحياص2، وليس هذا بأوان انصراف، ولات حين مناص3، وقد خصنا الله بمنه برحمة لا نستطيع أداء شكرها، ولا نقدر4 قدرها، إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله المصطفين الأخيار معنا وفي حيزنا، فوالله

1 قال صاحب اللسان والقاموس: قناصرين موضع بالشأم، ولم يذكره ياقوت في معجمه.

2 حاص عنه يحيص حيصا ومحيصا ومحاصا عدل وحاد، والحياص والمحايصة: مفاعلة من الحيص أي العدول والهرب. قال صاحب اللسان: وفي حديث مطرف "بتشديد الراء المكسورة" أنه خرج من الطاعون فقيل له في ذلك، فقال:"هو الموت نحايصه ولا بد منه""قال أبو عبيد معناه: نروغ عنه" وليس بين العبد والموت مفاعلة، وإنما المعنى أن الرجل في فرط حرصه على الفرار من الموت كأنه يباريه ويغالبه، فأخرجه على المفاعلة لكونها موضوعة لإفادة المباراة والمغالبة بالفعل، كقوله تعالى:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فيئول معنى نحايصه إلى قولك نحرص على الفرار منه أهـ".

3 النوص والمناص: التأخر والفرار، ناص عن قرنه ينوص: فر وراغ. أي وليس الوقت وقت تأخر وفرار.

4 قدر الشيء قدره من التقدير وبابه ضرب ونصر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق تعظيمه.

ص: 354

الذي هو بالعباد بصير، أن لو كان قائدنا رجلًا مخدوعًا، إلا أن معنا من البدريين سبعين رجلًا، لكان ينبغي لنا أن تحسن بصائرنا، وتطيب أنفسنا، فكيف وإنما رئيسنا ابن عم نبينا، بدري صدق، صلى صغيرًا، وجاهد مع نبيكم صلى الله عليه وسلم كثيرًا، ومعاوية طليق من وثاق1 الأسارى، إلا أنه أخو جفاة، فأوردهم النار، وأورثهم العار، والله محل بهم الذل والصغار2، ألا إنكم ستلقون عدوكم غدًا، فعليكم بتقوى الله من الجد والحزم والصدق والصبر، فإن الله مع الصابرين، ألا إنكم تفوزون بقتلهم، ويشقون بقتلكم، والله لا يقتل رجل منكم رجلًا منهم إلا أدخل الله القاتل جنات عدن وأدخل المقتول نارًا تلظى، لا تفتر عنهم وهم فيها مبلسون3، عصمنا الله وإياكم بما عصم به أولياءه، وجعلنا وإياكم ممن أطاعه واتقاه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم والمؤمنين".

"شرح بن أبي الحديد 1: ص 483".

1 الوثاق بالفتح ويكسر: ما يشد به، وأوثقه في الوثاق شده {فَشدُّوا الوَثَاقَ} .

2 الذل والضيم.

3 من أبلس: إذا يئس وتحير.

ص: 355

243-

‌ خطبة يزيد بن قيس الأرحبي:

وحرض يزيد بن قيس الأرحبي أهل العراق بصفين، فقال:

"إن المسلم من سلم دينه ورأيه، وإن هؤلاء القوم والله ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه، ولا على إحياء حق رأونا أمتناه، ولا يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا، ليكونوا فيها جبابرة وملوكًا، ولو ظهروا عليكم -لا أراهم الله ظهورًا ولا سرورًا- إذن

ص: 355

لوليكم مثل سعيد1 والوليد2 وعبد الله بن عامر3 السفيه، يحدث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت4، ويأخذ مال الله، ويقول: لا إثم علي فيه، كأنما أعطي تراثه من أبيه، كيف؟ إنما هو مال الله، أفاءه علينا بأسيافنا ورماحنا، قاتلوا -عباد الله- القوم الظالمين، الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا تأخذكم فيهم لومة لائم. إنهم إن يظهروا عليكم، يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم. وهم من قد عرفتم وجربتم. والله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرًا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم".

"تاريخ الطبري 6: 10، شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 485".

1 هو سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، قتل أبوه العاص يوم بدر كافرًا، قتله علي بن أبي طالب، وقد استعمل عثمان بن عفان سعيدًا على الكوفة بعد الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وولاه معاوية في خلافته المدينة، فكان يوليه إذا عزل مروان بن الحكم عن المدينة ويولي مروان إذا عزله.

2 هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط أبان بن أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وهو أخو عثمان بن عفان لأمه "أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس" ولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، ثم عزله حين اتهم بشرب الخمر، واستعمل بعده سعيد بن العاص.

3 هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، وهو ابن خال عثمان بن عفان، استعمله عثمان على البصرة بعد أبي موسى الأشعري، وولاه أيضًا بلاد فارس بعد عثمان بن أبي العاص، ولم يزل واليًا على البصرة إلى أن قتل عثمان، وقد ولاه معاوية البصرة ثلاث سنين.

4 ذيت وذيت مثلثة الآخر: أي كيت وكيت.

ص: 356

244-

‌ خطبة هاشم بن عتبة المرقال:

وشد هاشم بن عتبة المرقال1 في عصابة من أصحابه على أهل الشأم مرارًا،

1 هو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وهو ابن أخي سعد بن أبي وقاص، ولقب بالمرقال؛ لأن عليا رضي الله عنه أعطاه الراية بصفين، فكان يرقل بها أي يسرع، وهو الذي افتتح جلولاء من بلاد الفرس، وكانت جلولاء تسمى فتح الفتوح، وفقئت عينه يوم اليرموك بالشام، وقتل في وقعة صفين، قطعت رجله يومئذ، فجعل يقاتل من دنا منه وهو بارك.

ص: 356

فليس من وجه يحمل عليه، إلا صبر له، وقاتل فيه قتالًا شديدًا. فقال لأصحابه:

"لا يهولنكم ما ترون من صبرهم. فوالله ما ترون فيهم إلا حمية العرب، وصبرها تحت راياتها، وعند مراكزها، وإنهم لعلى الضلال، وإنكم لعلى الحق، يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا، وامشوا بنا إلى عدونا، على تؤدة رويدًا، ثم اثبتوا وتناصروا، واذكروا الله، ولا يسأل رجل أخاه، ولا تكثروا الالتفات، واصمدوا1 صمدهم، وجاهدوا محتسبين، حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين".

"تاريخ الطبري 6: 23".

1 أي اقصدوا جهتهم.

ص: 357

245-

‌ خطبة عمار بن ياسر:

وقام عمار بن ياسر يوم صفين، فقال:

"انهضوا معي: عباد الله إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم ظالم، إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان، الآمرون بالإحسان، فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم، ولو درس1 هذا الدين، لم قتلتموه؟ فقلنا: لأحداثه، فقالوا: إنه لم يحدث شيئًأ؛ وذلك لأنه مكنهم من الدنيا، فهم يأكلونها، ويرعونها، ولا يبالون لو انهدمت الجبال، والله ما أظنهم يطلبون بدم، ولكن القوم ذاقوا الدنيا، فاستحلوها واستمرءوها2، واعلموا أن صاحب الحق لو وليهم لحال بينهم وبين ما يأكلون ويرعون منها، إن القوم لم يكن لهم سابقة في الإسلام، يستحقون بها الطاعة والولاية، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا: قتل إمامنا مظلومًا: ليكونوا بذلك جبابرة وملوكًا، تلك

1 امحى.

2 استمرأ الطعام: وجده مريئًا أي هنيئًا حميد المغبة.

ص: 357

مكيدة قد بلغوا ما ترون، ولولاها ما تابعهم من الناس رجل، اللهم إن تنصرنا، فطالما نصرت، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم".

"شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 504، وتاريخ الطبري 6: 21 والكامل لابن الأثير 3: 123".

ص: 358

246-

‌ خطبة الأشعث بن قيس:

وخطب الأشعث بن قيس أصحابه من كندة ليلة الهرير بصفين فقال:

"الحمد لله أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأستنصره وأستغفره، وأستجيره، وأستهديه وأستشيره، وأستشهد به، فإنه من هداه الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله ثم قال:

قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط، ألا فليبلغ الشاهد الغائب أنا نحن إن تواقفنا غدًا إنه لفنيت العرب، وضُيعت الحرمات، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعًا من الحرب، ولكني رجل مسن أخاف على النساء والذراري غدًا إذا فنينا.

اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آل، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، والرأي يخطئ ويصيب، وإذا قضى الله أمرًا أمضاه على ما أحب العباد أو كرهوا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم".

فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث فاغتنمها وبنى عليها تدبيره.

"شرح ابن أبي الحديد م 1: 185".

ص: 358

247-

خطبة الأشترالنخعي:

وقام الأشتر يخطب الناس بقناصرين، وهو يومئذ على فرس أدهم مثل حلك1 الغراب، فقال:

"الحمد لله الذي خلق السموات العلى، الرحمن على العرش استوى، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، حمدًا كثيرًا، بكرة وأصيلًا، من هداه الله فقد اهتدى، ومن يضلل فقد غوى، أرسل محمدًا بالصواب والهدى، فأظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه وآله.

ثم قد كان مما قضى الله سبحانه وقدر، أن ساقتنا المقادير إلى أهل هذه البلدة من الأرض، فلفت بيننا وبين عدو الله وعدونا، فنحن بحمد الله ونعمه ومنه وفضله، قريرة أعيننا، طيبة أنفسنا، نرجو بقتالهم حسن الثواب، والأمن من العقاب، معنا ابن عم نبينا، وسيف من سيوف الله، علي بن أبي طالب، صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يسبقه إلى الصلاة ذكر، حتى كان شيخًا لم يكن له صبوة2، ولا نبوة3، ولا هفوة، ولاسقطة، فقيه في دين الله تعالى، عالم بحدود الله، ذو رأي أصيل، وصبر جميل، وعفاف قديم، فاتقوا الله وعليكم بالحزم والجد، واعلموا أنكم على الحق، وأن القوم على الباطل، إنما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري، سوى من حولكم من أصحاب محمد، أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعاوية مع رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم،

1 الحلك: شدة السواد، وفي الأصل:"حثل" وهو تحريف.

2 الصبوة: جهلة الفتوة.

3 نبا السهم عن الهدف: قصر ولم يصبه، والمراد أنه لا يعرف عنه تقصير في الدين ولا وهن.

ص: 359

فمن يشك في قتال هؤلاء؟ إلا ميت القلب، أنتم على إحدى الحسنيين، إما الفتح، وإما الشهادة، عصمنا الله وإياكم بما عصم به من أطاعه واتقاه، وألهمنا وإياكم طاعته وتقواه، وأستغفر الله لي ولكم".

"شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 484".

ص: 360

248-

‌ خطبة الأشتر في المنهزمين من الميمنة:

ولما انهزمت ميمنة العراق، قال له علي: يا مالك، قال: لبيك، قال: ائت هؤلاء القوم فقل لهم: "أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه، إلى الحياة التي لن تبقى لكم" فمضى فاستقبل الناس منهزمين، فقال لهم هذه الكلمات، وقال: إلي أيها الناس، أنا مالك بن الحاث، أنا مالك بن الحارث، ثم ظن أنه بالأشتر أعرف في الناس، فقال: أنا الأشتر، إلي أيها الناس، فأقبلت إليه طائفة، وذهبت عنه طائفة، فنادى: أيها الناس، عضضتم بهن1 آبائكم، ما أقبح ماقاتلتم منذ اليوم! أيها الناس: أخلصوا إلي مذحجا2، فأقبلت إليه مذحج فقال:

"عضضتم بصتم3 الجندل، ما أرضيتم ربكم، ولا نصحتم له في عدوكم، وكيف بذلك وأنتم أبناء الحروب، وأصحاب الغارات، وفتيان الصباح4، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان، الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم، ولا تطل دماؤهم، ولا يعرفون في موطن بخسف5، وأنتم حد أهل مصركم، وأعز حي في قومكم، وما تفعلوا في هذا اليوم، فإنه مأثور بعد اليوم، فاتقوا مأثور الأحاديث في غد، واصدقوا عدوكم اللقاء، فإن الله مع الصادقين، والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء "وأشار بيده

1 الهن: اسم يكنى به عن الفرج.

2 كان الأشتر من النخع "بالتحريك"، وهي قبيلة كبيرة من مذحج باليمن.

3 الصتم: جمع صتمة "كفرصة"، وهي الصخرة الصلبة كالصتيمة.

4 الغارة.

5 الخسف: الذل.

ص: 360

إلى أهل الشأم" رجل على مثال جناح بعوضة من محمد صلى الله عليه وسلم، أنتم ما أحسنتم القراع1، اجلوا سواد وجهي، يرجع في وجهي دمي، عليكم بهذا السواد الأعظم، فإن الله عز وجل لو قد فضه، تبعه من بجانبيه كما يتبع موخر السبيل مقدمه".

قالوا: خذ بنا حيث أحببت.

"تاريخ الطبري 6: 11، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص 487".

1 المقارعة والمناضلة.

ص: 361

249-

‌ خطبة أخرى له فيهم:

وروى أنه لما اجتمع إليه عظم من كان انهزم من الميمنة حرضهم ثم قال:

"عضوا على النواجذ من الأضراس، واستقبلوا القوم بهامكم، وشدوا عليهم شدة قوم موتورين1 ثأرًا بآبائهم وإخوانهم، حناقًا على عدوهم، قد وطنوا على الموت أنفسهم، كيلا يسبقوا بوتر، ولا يلحقوا في الدنيا عارًا، وايم الله ما وتر قوم قط بشيء أشد عليهم من أن يوتروا دينهم، وإن هؤلاء القوم لا يقاتلونكم إلا عن دينكم، ليميتوا السنة ويحيوا البدعة، ويعيدوكم في ضلالة قد أخرجكم الله عز وجل منها بحسن البصيرة، فطيبوا عباد الله أنفسًا بدمائكم دون دينكم، فإن ثوابكم على الله، والله عنده جنات النعيم وإن الفرار من الزحف فيه السلب للعز، والغلبة على الفيء، وذل المحيا والممات، وعار الدنيا والآخرة، وسخط الله وأليم عقابه".

"تاريخ الطبري 6: 12، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص 487".

1 وتره: إذا أصابه بوتر، وهو الثأر.

ص: 361

250-

‌ خطبة علي فيهم وقد عادوا إلى مواقفهم:

ولما رأى الإمام كرم الله وجهه ميمنته قد عادت إلى مواقفها ومصافها، وكشفت من بإزائها من عدوها، حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم، أقبل حتى انتهى إليهم فقال:

"إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم، يحوزكم الطغاة الجفاة، وأعراب أهل الشأم، وأنتم لهاميم1 العرب، والسنام الأعظم، وعمار الليل بتلاوة القرآن، وأهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون. فلولا إقبالكم بعد إدباركم وكركم بعد انحيازكم وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره، وكنتم من الهالكين، ولكن هون وجدي، وشفى بعض أحاح2 نفسي، أني رأيتكم بأخرة3 حزتموهم كما حازوكم، وأزلتموهم عن مصافكم كما أزالوكم، تحسونهم4 بالسيوف تركب أولاهم أخراهم كالإبل المطرودة الهيم5، فالآن فاصبروا؛ نزلت عليكم السكينة، وثبتكم الله عز وجل باليقين، وليعلم المنهزم أنه مسخط ربه، وموبق6 نفسه، إن في الفرار موجدة7 الله عز وجل عليه، والذل اللازم له، والعار الباقي، واعتصار الفيء من يده، وفساد العيش عليه، وإن الفار لا يزيد الفرار في عمره، ولا يرضي ربه، فموت المرء محقا قبل إتيان هذه الخصال، خير من الرضا بالتلبس بها والإصرار عليه".

"تاريخ الطبري 6: 13، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص 488".

1 اللهمم، واللهيم "بكسر اللام والميم فيهما": السابق الجواد من الحيل والناس.

2 الأحاح: الغيظ وحرارة الغم.

3 يقال: جاء أخرة وبأخرة محركتين وقد يضم أولهما أي آخرًا.

4 من الحس بالفتح: وهو القتل والاستئصال.

5 العطاش: جمع أهيم وهيماء "والهيام بالضم: أشد العطش".

6 مهلك.

7 أي غضبه.

ص: 362

251-

‌ خطبة خالد بن معمر:

ولما ولى الإمام خالد بن معمر راية ربيعة، وحمل عليها أهل الشأم حملة شديدة، وانهزم ناس من قومه، صاح بمن انهزم، وقال يومئذ:

"يا معشر ربيعة: إن الله عز وجل قد أتى بكل رجل منكم من منبته، ومسقط رأسه، فجمعكم في هذا المكان جمعًا لم يجمعكم مثله منذ نشركم في الأرض، فإن تمسكوا أيديكم وتنكلوا1 عن عدوكم، وتزولوا عن مصافكم، لا يرضَ الله فعلكم ولا تعدموا من الناس معيرا يقول: فضحت ربيعة الذمار2، وحاصت3 عن القتال، وأتيت من قبلها العرب، فإياكم أن تتشاءم بكم العرب والمسلمون اليوم، وإنكم إن تمضوا مقبلين مقدمين، وتصبروا محتسبين، فإن الإقدام لكم عادة، والصبر منكم سجية، واصبروا ونيتكم أن تؤجروا، فإن ثواب من نوى ما عند الله شرف الدنيا وكرامة الآخرة، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملًا".

"تاريخ الطبري 6: 19، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص 496".

1 أي تنكصوا وتجبنوا.

2 ما تجب حمايته وحفظه.

3 هربت وفرت.

ص: 363

252-

‌ خطبة عقبة بن حديد النمري:

وقال عقبة بن حديد النمري يوم صفين لأهله وأصحابه:

"ألا إن مرعى الدنيا قد أصبح هشيمًا1، وأصبح شجرها خضيدًا2، وجديدها سملًا3، وحلوها مر المذاق، ألا وإني أنبئكم نبأ امرئ صادق: إني قد سئمت الدنيا

1 الهشيم من النبات: اليابس المنكسر.

2 مقطوعًا، خضده: كضربه، فهو خضيد ومخضود.

3 السمل: الخلق من الثياب.

ص: 363

وعزفت1 نفسي عنها، وقد كنت أتمنى الشهادة، وأتعرض لها في كل جيش وغارة، فأبى الله عز وجل إلا أن يبلغني هذا اليوم، ألا وإني متعرض لها من ساعتي هذه، قد طمعت ألا أحرمها، فما تنتظرون -عباد الله- بجهاد من عادى الله، أخوفا من الموت القادم عليكم، الذاهب بأنفسكم لا محالة؟ أو من ضربة كف بالسيف؟ أتستبدلون الدنيا بالنظر في وجه الله عز وجل، ومرافقة النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين في دار القرار؟ ما هذا بالرأي السديد! ".

ثم مضى فقال: "يا إخوتي إني قد بعت هذه الدار بالتي أمامها، وهذا وجهي إليها. لا تبرح وجوهكم، ولا يقطع الله عز وجل رجاءكم" فتبعه إخوته وقالوا: "لا نطلب رزق الدنيا بعدك، فقبح الله العيش بعدك: اللهم إنا نحتسب أنفسنا عندك" فاستقدموا فقاتلوا حتى قتلوا.

"تاريخ الطبري 6: 15، شرح ابن أبي الحديد م 1: ص490".

1 انصرفت.

ص: 364

253-

‌ خطبة خنثر بن عبيدة بن خالد:

وكان من "محارب" رجل يقال له: خنثر بن عبيدة بن خالد، وكان من أشجع الناس، فلما اقتتل الناس يوم صفين، جعل يرى أصحابه منهزمين، فأخذ ينادي:

"يا معشر قيس، أطاعة الشيطان آثر1 عندكم من طاعة الرحمن؟ ألا إن الفرار فيه معصية الله سبحانه وسخطه، وإن الصبر فيه طاعة الله عز وجل ورضوانه، أفتختارون سخط الله تعالى على رضوانه، ومعصيته على طاعته؟ ألا إنما الراحة بعد الموت لمن مات محاسبًا نفسه، ثم قال:

1 أفضل.

ص: 364

لا وألتْ نفس امرئ ولَّى الدبرْ1

أنا الذي لا ينثني ولا يفرْ

ولا يرى مع المعازيل الغدر2

"تاريخ الطبري 6: 18، شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 495".

1 وأل: طلب النجاة، وخلص.

ص: 365

254-

‌ تحريض معاوية أيضًا:

وخطب معاوية الناس بصفين فقال:

"الحمد لله الذي دنا في علوه، وعلا في دنوه، وظهر وبطن، وارتفع فوق كل ذي منظر، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، يقضي فيفصل، ويقدر فيغفر، ويفعل ما يشاء، إذا أراد أمرًا أمضاه، وإذا عزم على شيء قضاه، لا يؤامر1 أحدًا فيما يملك، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والحمد لله رب العالمين على ما أحببنا وكرهنا".

وقد كان فيما قضاه الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه البقعة من الأرض، ولفت بيننا وبين أهل العراق، فنحن من الله بمنظر، وقد قال سبحانه وتعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} انظروا يأهل الشأم، إنكم غدًا تلقون أهل العراق، فكونوا على إحدى ثلاث خصال: إما أن تكونوا طلبتم ماعند الله في قتال قوم بغوا عليكم، فأقبلوا من بلادهم حتى نزلوا في بيضتكم2، وإما أن تكونوا قومًا تطلبون بدم خليفتكم وصهر نبيكم، وإما أن تكونوا قومًا تذبون عن نسائكم وأبنائكم، فعليكم بتقوى الله والصبر الجميل، واسألوا الله لنا ولكم النصر، وأن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق، وهو خير الفاتحين".

"شرح ابن أبي الحديد م 11 ص 497".

1 أي لا يشاور.

2 ساحتكم.

ص: 365

255-

‌ ما خاطب به النعمانُ بنُ بشيرٍ قيسَ بنَ سعد في وقعة صفين:

وقف النعمان بن بشير الأنصاري بين الصفين بصفين فقال:

"يا قيس بن سعد: أما أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه؟ إنكم يا معشر الأنصار، أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار، وقتلكم أنصاره يوم الجمل، وإقحامكم، على أهل الشأم بصفين، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليًا، كان هذا بهذا، ولكنكم خذلتم حقا، ونصرتم باطلًا، ثم لم ترضوا أن تكونوا كالناس، شعلتم3 الحرب، ودعوتم إلى البراز، فقد والله وجدتم رجال الحرب من أهل الشأم سراعًا إلى برازكم، غير أنكاس2 عن حربكم، ثم لم ينزل بعلي أمر قط إلا هونتم عليه المصيبة، ووعدتموه الظفر، وقد والله أخلفتموه، وهان علينا بأسكم، وما كنتم لتخلوا به أنفسكم من شدتكم في الحرب، وقدرتكم على عدوكم، وقد أصبحتم أذلاء على أهل الشأم، لا يرون حربكم شيئًا، وأنتم أكثر منهم عددًا ومددًا، وقد والله كاثروكم بالقلة، فكيف لو كانوا مثلكم في الكثرة، والله لا تزالون أذلاء في الحرب بعدها أبدًا، إلا أن يكون معكم أهل الشأم، وقد أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم، ونحن أحسن بقية وأقرب إلى الظفر، فاتقوا الله في البقية" فضحك قيس وقال:

1 قحم في الأمر: رمى بنفسه فيه من غير روية، وأقحمت الفرس النهر: أدخلته فيه فانقحم واقتحم.

2 شعل النار، وأشعلها: ألهبها.

3 أنكاس: جمع نكس "بالكسر"، وهو الضعيف المقصر.

ص: 366

256-

‌ جواب قيس بن سعد:

"والله ما كنت أراك يا نعمان تجترئ على هذا المقام، أما المنصف المحق فلا ينصح أخاه من غش نفسه، وأنت والله الغاش لنفسه، المبطل فيما نصح غيره، أما ذكر عثمان فإن كان الإيجاز يكفيك فخذه، قتل عثمان من لست خيرًا منه، وخذله من هو خير منك. وأما أصحاب الجمل فقتلناهم على النكث. وأما معاوية، فلو اجتمعت العرب على بيعته لقاتلتهم الأنصار، وأما قولك إنا لسنا كالناس، فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله، نلقى السيوف بوجوهنا، والرماح بنحورنا، حتى جاء الحق، وظهر أمر الله وهم كارهون، ولكن انظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلا طليقًا أعرابيًا، أو يمانيًّا مستدرجًا1، وانظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ثم انظر هل ترى مع معاوية غيرك وصويحبك2، ولستما والله بدريين ولا عقبيين3، ولا لكما سابقة في الإسلام، ولا آية في القرآن".

"الإمامة والسياسة 1: 83".

1 استدرجه: خدعه وأدناه.

2 أراه يعني به عمرو بن العاص، وقد كان أكبر أعوان معاوية ونصرائه، عاقده على نصرته، على أن يجعل له مصر طعمة.

3 أي لا ممن حضروا وقعة بدر مع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ممن بايعوه في العقبة.

ص: 367

‌خطب الشيعيات في وقعة صفين:

257-

‌ خطبة عكرشة بنت الأطرش:

دخلت عكرشة بنت الأطرش على معاوية متوكئة على عكاز، فسلمت عليه بالخلافة ثم جلست، فقال لها معاوية: الآن يا عكرشة صرت عندك أمير المؤمنين؟ قالت: نعم، إذ لا علي حي، قال: ألست المتقلدة حمائل السيوف بصفين، وأنت واقفة بين الصفين تقولين:

"أيها الناس: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إن الجنة لا يرحل من أوطنها، ولا يهرم من سكنها، ولا يموت من دخلها، فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ولا تنصرم همومها، وكونوا قومًا مستبصرين في دينهم مستظهرين1 بالصبر على طلب حقهم، إن معاوية دلف2 إليكم بعجم العرب، غلف3 القلوب، لا يفقهون الإيمان، ولا يدرون الحكمة، دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبوه، فالله الله عباد الله في دين الله، إياكم والتواكل فإن ذلك ينقض عرا الإسلام، ويطفئ نور الحق، هذه بدر الصغرى، والعقبة4 الأخرى، يا معشر المهاجرين والأنصار،

1 مستعينين.

2 دلف: مشى مشي المقيد، وفي التعبير به إيماء إلى ضعف معاوية ووهن قوته.

3 جمع أغلف وقلب أغلف كأنما غشي بغلاف؛ فهو لا يعي.

4 تشير إلى بيعة العقبة "الأولى والثانية" حين بايع المسلمون الأولون من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة على نصرته: أي إن هذه الموقعة دفاع عن الإسلام ونصرة له كتلك.

ص: 368

امضوا على بصيرتكم، واصبروا على عزيمتكم، فكأني بكم غدا، وقد لقيتم أهل الشأم كالحمر الناهقة، تصقع1 صقع البعير".

فكأني أراك على عصاك هذه، وقد انكفأ عليك العسكران، يقولون: هذه عكرشة بنت الأطرش بن رواحة، فإن كدت لتفلين أهل الشام لولا قدر الله، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين يقول الله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية. وإن اللبيب إذا كره أمرًا لا يحب إعادته، قال صدقت، فاذكري حاجتك، قالت: إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا، فترد على فقرائنا، وإنا قد فقدنا ذلك، فما يجبر لنا كسير ولا ينعش لنا فقير، فإن كان ذلك عن رأيك، فمثلك تنبه من الغفلة، وراجع التوبة، وإن كان عن غير رأيك، فما مثلك من استعان بالخونة ولا استعمل الظلمة، قال معاوية: يا هذه إنه ينوبنا من أمور رعيتنا أمور تنبثق2، وبحور تنفهق3، قالت: يا سبحان الله! والله ما فرض الله لنا حقًّا، فجعل فيه ضررًا على غيرنا، وهو علام الغيوب. قال معاوية: يا أهل العراق، نبهكم علي بن أبي طالب، فلم تطاقوا، ثم أمر برد صدقاتهم فيهم، وإنصافهم.

"العقد الفريد 2: 131، وصبح الأعشى 1: 253".

1 الصقع: رفع الصوت، صقع بصوته: رفعه. وفي صبح الأعشى تقصع قصع البعير. من قصع الجمل بجرته ردها إلى جوفه.

2 انبثق: انفجر، وانبثق السيل عليهم: أقبل ولم يحتسبوه.

3 تتسع.

ص: 369

258-

‌ خطبة أم الخير بنت الحريش:

كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم الخير بنت الحريش بن سراقة البارقي برحلها، وأعلمه أنه مجازيه بالخير خيرًا، وبالشر شرًا بقولها فيه، فلما ورد عليه

ص: 369

كتابه، ركب إليها، فأقرأها كتابه، فقالت: أما أنا فغير زائغة عن طاعة، ولا معتلة بكذب، ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين، لأمور تختلج في صدري، فلما شيعها، وأراد مفارقتها، قال لها: يا أم الخير إن أمير المؤمنين كتب إلي أنه مجازيني بقولك في بالخير خيرًا، وبالشر شرًّا، فما لي عندك؟ قالت: يا هذا، لا يطمعك برك بي، أن أسرك بباطل، ولا يؤيسك معرفتي بك، أن أقول فيك غير الحق، فسارت خير مسير، حتى قدمت على معاوية، فأنزلها مع الحرم، ثم أدخلها في اليوم الرابع وعنده جلساؤه، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته! فقال لها: وعليك السلام يا أم الخير؟ بحق ما دعوتني بهذا الاسم؟ قالت: مه يا أمير المؤمنين، فإن بديهة1 السلطان مدحضة2 لما يجب علمه، ولكل أحل كتاب، قال: صدقت، فكيف حالك يا خالة، وكيف كنت في مسيرك؟ قالت: لم أزل يا أمير المؤمنين في خير وعافية، حتى صرت إليك، فأنا في مجلس أنيق، عند ملك رفيق. قال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم. قالت: يا أمير المؤمنين، يعيذك الله من دحض3 المقال، وما تردي عاقبته، قال: ليس هذا أردنا، أخبرينا كيف كان كلامك إذ قتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم أكن والله زورته4 قبل، ولا رويته بعد، وإنما كانت كلمات نفثها لساني عند الصدمة، فإن أحببت أن أحدث لك مقالًا غير ذلك فعلت، فالتفت معاوية إلى جلسائه، فقال: أيكم يحفظ كلامها؟ فقال رجل منهم: أنا أحفظ بعض كلامها يا أمير المؤمنين. قال: هات؟ قال: كأني بها بين بردين زئبريين5 كثيفي النسيج، وهي على جمل أرمك6، وبيدها سوط منتشر الضفيرة، وهي كالفحل يهدر7 في شقشقته تقول:

1 البديهة: أول كل شيء وما يفجأ منه.

2 المدحضة: المزلة.

3 دحضت الحجة دحضا من باب نفع: بطلت ورجله زلقت، ومكان دحض زلق.

4 زور الشيء: حسنه وقومه وهذبه.

5 الزئبر: ما يعلو الثوب الجديد كالذي تراه في القطيفة. وفي رواية أخرى: عليها برد زبيدي نسبة إلى زبيد "بفتح الزاي" بلد باليمن.

6 من الرمكة: بالضم، وهي لون الرماد.

7 يصوت، والشقشقة: شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج.

ص: 370

"يأيها الناس: اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم، إن الله قد أوضح لكم الحق، وأبان الدليل، وبين السبيل، ورفع العلم، ولم يدعكم في عمياء مدلهمة، فأين تريدون رحمكم الله؟ أفرارًا عن أمير المؤمنين، أم فرارًا من الزحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتدادًا عن الحق؟ أما سمعتم الله جل ثناؤه يقول:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرغبة، وبيدك يا رب أزمة القلوب، فاجمع الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى، واردد الحق إلى أهله، هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والرضي التقي، والصديق الأكبر، إنها إحن1 بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية2 وثب بها معاوية حين الغفلة، ليدرك ثارات بني عبد شمس، ثم قالت:{قَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُون} صبرًا يا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربكم، وثبات من دينكم، فكأني بكم غدا، وقد لقيتم أهل الشأم كحمر مستنفرة فرت من قسورة3، لا تدري أنى يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى، وعما قليل ليصبحن نادمين، حين تحل بهم الندامة، فيطلبون الإقالة، ولات حين مناص، إنه من ضل والله عن الحق وقع في الباطل، ألا إن أولياء الله استقصروا عمر الدنيا فرفضوها، واستطابوا الآخرة فسعوا لها، فالله الله أيها الناس، قبل أن تبطل الحقوق، وتعطل الحدود، وتقوى كلمة الشيطان، فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره، وأبي سبطيه، خلق من طينته، وتفرع من نبعته4،

1 جمع إحنة: وهي الضغينة والحقد، تؤمئ إلى ما كان من قتل علي يوم بدر أخا معاوية "حنظلة بن أبي سفيان" وجده لأمه "عتبة بن ربيعة" وخاله "الوليد بن عتبة".

2 تشير إلى ماحدث من هند زوج أبي سفيان "أم معاوية" في غزوة أحد، إذ بقرت بطن حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بعد قتله وأخذت كبده لتأكلها فلاكتها ثم أرسلتها.

3 الأسد والرماة من الصيادين، والواحد قسور.

4 النبعة في الأصل واحدة النبع: شجر القسي والسهام.

ص: 371

وجعله باب دينه، وأبان ببغضه المنافقين، وها هو ذا مفلق الهام، ومكسر الأصنام، صلى والناس مشركون، وأطاع والناس كارهون، فلم يزل في ذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وهزم الأحزاب، وقتل الله به أهل خيبر، وفرق به جمع هوازن، فيا لها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقًا، وردة وشقاقًا، وزادت المؤمنين إيمانًا، قد اجتهدت في القول، وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله".

فقال معاوية: يا أم الخير، ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي، ولو قتلتك ما حرجت1 في ذلك. قالت: والله ما يسوءني يابن هند أن يجري قتلي على يدي من يسعدني الله بشقائه. قال: هيهات يا كثيرة الفضول! ما تقولين في عثمان بن عفان رحمه الله؟ قالت: وما عسيت أن أقول في عثمان! استخلفه الناس وهم به راضون، وقتلوه وهم له كارهون. قال معاوية: يا أم الخير هذا ثناؤك الذي تثنين؟ قالت: لكن الله يشهد، وكفى بالله شهيدًا، ما أردت بعثمان نقصًا، ولقد كان سباقًا إلى الخيرات، وإنه لرفيع الدرجة غدًا، قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول في طلحة؟ اغتيل من مأمنه، وأتي من حيث لم يحذر. وقد وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة. قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت: وما أقول في ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه2. وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة. وأنا أسألك بحق الله يا معاوية "فإن قريشًا تحدثت أنك أحلمها" أن تعفيني من هذه المسائل، وتسألني عما شئت من غيرها. قال: نعم ونعمة3 عين، قد أعفيتك منها، ثم أمر لها بجائزة رفيعة، وردها مكرمة.

"العقد الفريد 1: 132، ونهاية الأرب 7: 241. وصبح الأعشى 1: 248".

1 أثمت.

2 الحواري: الناصر، أو ناصر الأنبياء.

3 أي افعل ذلك إنعامًا لعينك وإكرامًا.

ص: 372

259-

‌ خطبة الزرقاء بنت عدي الهمداني

ة:

وذكرت الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية عند معاوية يومًا، فقال لجلسائه: أيكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين. قال: فأشيروا علي في أمرها، فأشار بعضهم بقتلها، فقال: بئس الرأي أيحسن بمثلي أن يقتل امرأة! ثم كتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي محارمها، وعدة من فرسان قومها، وأن يمهد لها وطاءً1 لينًا، ويسترها بستر خصيف2، ويوسع لها في النفقة، فأرسل إليها، فأقرأها الكتاب، فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار إلي، فإني لا آتيه، وإن كان حتَّم فالطاعة أولى، فحملها وأحسن جهازها، على ما أمر به، فلما دخلت على معاوية. قال: مرحبًا بك وأهلا! قدمت خير مقدمة قدمه وافد، كيف حالك؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، أدام الله لك النعمة. قال: كيف كنت في مسيرك؟ قالت: ربيبة بيت، أو طفلًا ممهدًا. قال: بذلك أمرناهم، أتدرين فيم بعثت إليك؟ قالت: وأنى لي بعلم ما لم أعلم؟ قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر، والواقفة بين الصفين بصفين، تحضين على القتال، وتوقدين الحرب؟ فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس وبتر الذنب، ولن يعود ما ذهب، والدهر ذو غير3 ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر، قال لها معاوية: أتحفظين كلامك يومئذ؟ قالت: لا والله لا أحفظه، ولقد أنسيته. قال: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين:

"أيها الناس: ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة4. فيا لها فتنة عمياء صماء بكماء لا تسمع لناعقها، ولا تنساق

1 الفراش.

2 أصله من خصف النعل بخصفها، كضرب: ظاهر بعضها على بعض وخرزها وهي نعل خصيف، وكل ما طورق بعضه على بعض فقد خصف.

3 أحداث، جمع غيرة بالكسر أو مفرد، وجمعه أغيار.

4 جادة الطريق.

ص: 373

لقائدها، إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد. ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه. أيها الناس: إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرًا يا معشر المهاجرين والأنصار على العصص، فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة الحق، ودمغ الحق الظلمة، فلا يجهلن أحد فيقول: كيف، وأنى؟ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم ما بعده، والصبر خير في الأمور عواقبا:

إيهًا1 في الحرب قدما، غير ناكصين، ولا متشاكسين".

ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد شركت عليًا في كل دم سفكه. قالت: أحسن الله بشارتك، وأدام سلامتك! فمثلك بشر بخير وسر جليسه. قال: أويسرك ذلك؟ قالت: نعم. والله لقد سررت بالخبر! فأنى لي بتصديق الفعل! فضحك معاوية، وقال: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته، اذكري حاجتك. قالت: يا أمير المؤمنين آليت على نفسي ألا أسأل أميرًا أعنت عليه أبدًا، ومثلك أعطى عن غير مسألة، وجاد عن غير طلبة. قال: صدقت، وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز وكسًا.

"العقد الفريد 1: 130، وصبح الأعشى 1: 252".

1 إيها: كلمة زجر بمعنى حسبك "وإيه بالكسر منونة وغير منونة كلمة استزادة واستنطاق" والقدم: المضي أمام، وهو يمشي القدم: إذا مضى في الحرب، ورجل قدم: أي شجاع. وفي الحديث "طوبى لعبد مغبر قدم في سبيل الله" القدم: الإقدام، أقدم على قرنه إقدامًا وقدمًا: تقدم عليه بجراءة صدر.

ص: 374

‌اختلاف أهل العراق في الموادعة

‌مدخل

اختلاف أهل العراق في الموادعة:

وذكروا أنه لما اشتد الأمر واستعر القتال، قال رأس من أهل العراق لعلي: إن هذه الحرب قد أكلتنا، وأذهبت الرجال، والرأي الموادعة. وقال بعضهم: لا، بل نقاتلهم اليوم على ما قاتلناهم عليه أمس، وكانت الجماعة قد رضيت الموادعة، وجنحت إلى الصلح والمسالمة، فقام علي خطيبًا، فقال:

ص: 375

260-

‌ خطبة الإمام علي كرم الله وجهه:

"أيها الناس: إنه لم أزل من أمري على ما أحب، حتى فدحتكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت، وهي لعدوكم أنهك، وقد كنت بالأمس أميرًا، فأصبحت اليوم مأمورًا، وكنت ناهيًا، فأصبحت اليوم منهيًا، فليس لي أن أحملكم على ما تكرهون".

ص: 375

261-

‌ خطبة كردوس بن هانئ:

وقام كردوس بن هانئ، فقال:

"إنه والله ما تولينا معاوية منذ تبرأنا منه، ولا تبرأنا من علي منذ توليناه، وإن قتلينا لشهيد، وإن حينا لفائز، وإن عليًا على بينة من ربه، وما أجاب القوم إلا إنصافًا، وكل محق منصف، فمن سلم له نجا، ومن خالفه هوى".

ص: 375

262-

‌ خطبة سفيان بن ثور:

وقام سفيان بن ثور، فقال:

"أيها الناس: إنا دعونا أهل الشأم إلى كتاب الله، فردوه علينا فقاتلناهم، وإنهم دعونا إلى كتاب الله، فإن رددناه عليهم، حل لهم منا ما حل لنا منهم، ولسنا نخاف أن يحيف الله علينا ورسوله، وإن عليًا ليس بالراجع الناكص، وهو اليوم على ما كان عليه أمس، وقد أكلتنا هذه الحرب، ولا نرى البقاء إلا في الموادعة".

ص: 376

263-

‌ خطبة حريث بن جابر:

ثم قام حريث بن جابر فقال:

"إن عليًّا لو كان خِلوًا من هذا الأمر لكان المرجع إليه، فكيف وهو قائده وسائقه، وإنه والله ما قبل من القوم اليوم إلا الأمر الذي دعاهم إليه أمس، ولو رده عليهم كنتم له أعيب، ولا يلحد في هذا الأمر إلا راجع على عقبيه، أو مستدرج مغرور، وما بيننا وبين من طعن علينا إلا السيف".

ص: 376

264-

‌ خطبة خالد بن معمر:

ثم قام خالد بن معمر فقال:

"يا أمير المؤمنين: إنا والله ما أخرجنا هذا المقام أن يكون أحد أولى به منا، ولكن قلنا أحب الأمور إلينا ما كفينا مئونته، فأما إذ استغنينا، فإنا لا نرى البقاء إلا فيما دعاك القوم إليه اليوم، إن رأيت ذلك، وإن لم تره فرأيك أفضل".

ص: 376

265-

‌ خطبة الحصين بن المنذر:

ثم قام الحصين بن المنذر وكان أحدث القوم سنًا، فقال:

"إنما بني هذا الدين على التسليم، فلا تدفعوه بالقياس، ولا تهدموه بالشبهة، وإنا والله لو أنا لا نقبل من الأمور إلا ما نعرف، لأصبح الحق في الدنيا قليلًا، ولو تركنا وما نهوى، لأصبح الباطل في أيدينا كثيرًا، وإن لنا راعيًا قد حمدنا ورده وصدره، وهو المأمون على ما قال وفعل، فإن قال: لا. قلنا: لا، وإن قال: نعم، قلنا: نعم".

ص: 377

266-

‌ خطبة عثمان بن حنيف:

ثم قام عثمان بن حنيف، وكان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عاملًا لعلي على البصرة وله فضل، فقال:

"أيها الناس: اتهموا رأيكم، فقد والله كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية يوم أبي جندل1، وإنا لنريد القتال إنكارًا للصلح حتى ردنا عنه رسول الله

1 هو أبو جندل بن سهيل بن عمرو. وقصته: أنه لما كانت غزوة الحديبية "سنة ست للهجرة" بعثت قريش من قبلها سهيل بن عمرو ليكلم الرسول صلى الله عليه وسلم في المصالحة، وقد جرى بينهما الصلح وكتبت صحيفته، وكان من شروطه، وضع الحرب عن الناس عشر سنين يكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل إذ جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان المسلمون حين خرجوا لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع دخل عليهم من ذلك أمر عظيم، ولما رأى سهيل ابنه أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه "بفتح التاء: ما في موضع اللبب "أي النحر" من الثياب" ثم قال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال صدقت،=

ص: 377

صلى الله عليه وسلم، وإن أهل الشأم دعونا إلى كتاب الله اضطرارًا، فأجبناهم إليه إعذارًا، فلسنا والقوم سواء، إنا والله ما عدلنا الحي بالحي، ولا القتيل بالقتيل، ولا الشامي بالعراقي، ولا معاوية بعلي، وإنه لأمر منعه غير نافع، وإعطاؤه غير ضائر، وقد كلت البصائر التي كنا نقاتل بها، وقد حمل الشك اليقين الذي كنا نئول إليه، وذهب الحياء الذي كنا نماري به، فاستظلوا في هذا الفيء1، واسكنوا في هذه العافية، فإن قلتم نقاتل على ما كنا نقاتل عليه أمس، فهيهات هيهات ذهب والله قياس أمس وجاء غد".

= فجعل ينثره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فزاد الناس إلى ما بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم"، ووثب عمرو بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون. وإنما دم أحدهم دم كلب. ويدني قائم السيف منه. قال عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية.

فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد وكان ممن حبس بمكة، فبعثت قريش في أثره رجلين يطلبان تسليمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا بصير إنا قد أعطينا القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا. فانطلق إلى قومك". قال: يا رسول الله أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: "يا أبا بصير انطلق"، فانطلق معهما حتى إذا كان في بعض الطريق عدا على أحدما فقتله وهرب الآخر، ورجع أبو بصير إلى المدينة، فقال: يا رسول الله وفت ذمتك، وأدى الله عنك، أسلمتني ورددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، وخرج أبو بصير إلى ساحل البحر بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام، وخرج المسلمون، الذين كانوا حبسوا بمكة إليه، وانفلت إليه أبو جندل بن سهيل، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلًا منهم وضيقوا على قريش، لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله بأرحامها إلا آواهم، فلا حاجة لهم بهم، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا على المدينة.

1 الفيء: ما كان شمسًا فينسخه الظل.

ص: 378

267-

‌ خطبة عدي بن حاتم:

ثم قام عدي بن حاتم فقال:

"أيها الناس: إنه والله لو غير علي دعانا إلى قتال أهل الصلاة ما أجبناه، ولا وقع بأمر قط إلا ومعه من الله برهان، وفي يديه من الله سبب، وإنه وفق عن عثمان بشبهة، وقاتل أهل الجمل على النكث، وأهل الشأم على البغي، فانظروا في أموركم وأمره، فإن كان له عليكم فضل فليس لكم مثله فسلموا له وإلا فنازعوا عليه، والله لإن كان إلى العلم بالكتاب والسنة إنه لأعلم الناس بهما، ولئن كان إلى الإسلام إنه لأخو نبي الله والرأس في الإسلام، ولئن كان إلى الزهد والعبادة إنه لأظهر الناس زهدًا، وأنهكهم عبادة، ولئن كان إلى العقول والنحائز1 إنه لأشد الناس عقلًا، وأكرمهم نحيزة، ولئن كان إلى الشرف والنجدة إنه لأعظم الناس شرفًا ونجدة، ولئن كان إلى الرضا لقد رضي عنه المهاجرون والأنصار في شورى عمر رضي الله عنهم، وبايعوه بعد عثمان ونصروه على أصحاب الجمل وأهل الشأم، فما الفضل الذي قركم إلى الهدى، وما النقص الذي قربه إلى الضلال؟ والله لو اجتمعتم جميعًا على أمر واحد، لأتاح الله له من يقاتل لأمر ماض، كتاب سابق".

فاعترف أهل صفين لعدي بن حاتم بعد هذا المقام، ورجع كل من تشعب على علي رضي الله عنه.

1 النحيزة: الطبيعة.

ص: 379

268-

‌ خطبة عبد الله بن حجل:

ثم قام عبد الله بن حجل، فقال:

"يا أمير المؤمنين، إنك أمرتنا يوم الجمل بأمور مختلفة، كانت عندنا أمرًا واحدًا، فقبلناها بالتسليم، وهذه مثل تلك الأمور، ونحن أولئك أصحابك، وقد أكثر الناس في هذه القضية، وايم الله ما المكثر المنكر بأعلم بها من المقل المعترف، وقد أخذت الحرب بأنفاسنا، فلم يبق إلا رجاء ضعيف، فإن تجب القوم إلى ما دعوك إليه، فأنت أولنا إيمانًا، وآخرنا بنبي الله عهدًا، وهذه سيوفنا على أعناقنا، وقلوبنا بين جوانحنا، وقد أعطيناك بقيتنا، وشرحت بالطاعة صدورنا، ونفذت في جهاد عدوك بصيرتنا، فأنت الوالي المطاع، ونحن الرعية الأتباع. أنت أعلمنا بربنا، وأقربنا بنبينا، وخيرنا في ديننا، وأعظمنا حقًّا فينا، فسدد رأيك نتبعك، واستخر الله تعالى في أمرك، واعزم عليه برأيك، فأنت الوالي المطاع".

فسر علي كرم الله وجهه بقوله، وأثنى خيرًا.

ص: 380

269-

‌ خطبة صعصعة بن صوحان:

ثم قام صعصعة بن صوحان فقال:

"يا أمير المؤمنين: إنا سبقنا الناس إليك، يوم قدوم طلحة والزبير عليك، فدعانا حكيم1إلى نصرة عاملك عثمان بن حنيف2 فأجبناه، فقاتل عدوك، حتى أصيب في قوم من بني عبد قيس عبدوا الله حتى كانت أكفهم مثل أكف الإبل، وجباههم مثل

1 هو حكيم بن حبلة.

2 كان عامل علي على البصرة، وقد نشب القتال بينه وبين أصحاب عائشة حين قدموا البصرة.

ص: 380

ركب المعز، فأسر الحي، وسلب القتيل، فكنا أول قتيل وأسير، ثم رأيت بلاءنا بصفين، وقد كلت البصائر، وذهب الصبر، وبقي الحق موفورًا، وأنت بالغ بهذا حاجتك والأمر إليك ما أراك الله فمرنا به".

ص: 381

270-

‌ خطبة المنذر بن الجارود:

ثم قام المنذر بن الجارود فقال:

"يا أمير المؤمنين إني أرى أمرًا لا يدين له الشأم إلا بهلاك العراق، ولا يدين له العراق إلا بهلاك الشأم، ولقد كنا نرى أن ما زادنا نقصهم، وما نقصنا أضرهم، فإذا في ذلك أمران، فإن رأيت غيره1 ففينا والله ما يفل به الحد2 ويرد به الكلب3. وليس لنا معك إيراد ولا صدر".

1 أي فإن رأيت غير رأيي "وهو الذي عبر عنه بقول: إني أرى أمرًا.. إلخ" وفي الأصل "غيرك" وأراء محرفًا.

2 أي ففينا من البأس ما يفل به حد الأعداء وقوتهم.

3 الكلب: داء يشبه الجنون يأخذ الكلاب فتعقر الناس ويعتري الناس أيضًا من عضها، وقد استعاره هنا لطمع الأعداء فيهم وغارتهم عليهم.

ص: 381

271-

‌ خطبة الأحنف بن قيس:

ثم قام الأحنف بن قيس، فقال:

"يا أمير المؤمنين: إن الناس بين ماض وواقف، وقائل وساكت، وكل في موضعه حسن، وإنه لو نكل الآخر عن الأول لم يقل شيئًا، إلا أن يقول اليوم ما قد قيل أمس، ولكنه حق يقضى، ولم نقاتل القوم لنا ولا لك، إنما قاتلناهم لله، فإن حال أمر الله دوننا ودونك فاقبله، فإنك أولى بالحق، وأحقنا بالتوفيق، ولا أرى إلا القتال".

ص: 381

272-

‌ خطبة عمير بن عطارد:

ثم قام عمير بن عطارد، فقال:

"يا أمير المؤمنين: إن طلحة والزبير وعائشة كانوا أحب الناس إلى معاوية، وكانت البصرة أقرب إلينا من الشأم، وكان القوم الذين وثبوا عليك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خيرًا من الذين وثبوا عليك من أصحاب معاوية اليوم، فوالله ما منعنا ذلك من قتل المحارب، وعيب الواقف، فقاتل القوم، إنا معك".

ص: 382

273-

‌ خطبة علي بن أبي طالب:

ثم قام علي خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"أيها الناس: إنه قد بلغ بكم وبعدوكم ما قد رأيتم، ولم يبق منهم إلا آخر نفس، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغوا منكم ما بلغوا، وأنا غاد عليهم بنفسي بالغداة، فأحاكمهم بسيفي هذا إلى الله".

وأشار عمرو بن العاص على معاوية أن يدعو عليًا إلى تحكيم كتاب الله، فأصبح أصحاب معاوية، وقد رفعوا المصاحف على الرماح، وقلدوها أعناق الخيل يقولون:"هذا كتاب الله عز وجل بيننا وبينكم".

ص: 382

274-

‌ مقال عدي بن حاتم:

فقام عدي بن حاتم، فقال:

"يا أمير المؤمنين: إن أهل الباطل، لا تعوق أهل الحق، وقد جزع القوم حين تأهبت للقتال بنفسك، وليس بعد الجزع إلا ما تحب، ناجز القوم".

ص: 382

275-

‌ مقال الأشتر النخعي:

ثم قام الأشتر فقال:

"يا أمير المؤمنين، ما أجبناك لدنيا. إن معاوية لا خلف له من رجاله، ولكن بحمد الله الخلف لك، ولو كان مثل رجالك، لم يكن له مثل صبرك، ولا نصرتك، فافرج1 الحديد بالحديد، واستعن بالله".

1 أي شق سلاحهم مزقه بسلاحك.

ص: 383

276-

‌ مقال عمرو بن الحمق:

ثم قام عمرو بن الحمق فقال:

"يا أمير المؤمنين، ما أجبناك لدينا، ولا نصرناك على باطل، ما أجبناك إلا لله تعالى وما نصرناك إلا للحق، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوتنا إليه، لكثر فيه اللجاج، وطالت له النجوى1، وقد بلغ الحق مقطعه، وليس معك رأي".

1 المسارة.

ص: 383

277-

‌ مقال الأشعث بن قيس:

ثم قام الأشعث بن قيس فقال:

"يا أمير المؤمنين، إنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس، ولست أدري كيف يكون غدًا، وما القوم الذين كلموك بأحمد لأهل العراق مني، ولا بأوتر1 لأهل الشأم مني، فأجب القوم إلى كتاب الله، فإنك أحق به منهم، وقد أحب الله البقيا".

1 أي ولا أشد وترًا. من وتره إذا أدركه بمكروه.

ص: 383

278-

‌ مقال عبد الرحمن بن الحارث:

ثم قام عبد الرحمن بن حارث فقال:

"يا أمير المؤمنين، امض لأمر الله ولا يتسخفنك الذين لا يوقنون، أحكم بعد حكم وأمر بعد أمر؟ مضت دماؤنا ودماؤهم، ومضى حكم الله علينا وعليهم".

ص: 384

279-

‌ مقال عمار بن ياسر:

فلما أظهر علي أنه قد قبل التحكيم قام عمار بن ياسر فقال:

"يا أمير المؤمنين، أما والله لقد أخرجها إليك معاوية بيضاء، من أقر بها هلك، ومن أنكرها ملك، ما لك يا أبا الحسن، شككتنا في ديننا، ورددتنا على أعقابنا، بعد مائة ألف قتلوا منا ومنهم، أفلا كان هذا قبل السيف، وقبل طلحة والزبير وعائشة قد دعوك إلى ذلك فأبيت، وزعمت أنك أولى بالحق، وأن ما خالفنا منهم ضال حلال الدم، وقد حكم الله تعالى في هذا الحال ما قد سمعت، فإن كان القوم كفارًا مشركين، فليس لنا أن نرفع السيف عنهم حتى يفيئوا1 إلى أمر الله، وإن كانوا أهل فتنة فليس لنا أن نرفع السيف عنهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، والله ما أسلموا، ولا أدوا الجزية، ولا فاءوا إلى أمر الله ولا طفئت2 الفتنة" فقال علي: والله إني لهذا الأمر كاره.

ثم كثر اللجاج والجدال في الأمر، وجعل علي يبين لهم أنها خدعة ومكيدة يرام بها

1 يرجعوا.

2 أي انطفأت.

ص: 384

توهين قوتهم، وتشتيت جمعهم، وهم لا يستمعون لقوله، ولا يذعنون لنصحه، وأقبل الأشعث بن قيس في ناس كثير من أهل اليمن، فقالوا لعلي:"لا ترد ما دعاك القوم إليه، قد أنصفك القوم، والله لئن لم تقبل هذا منهم لا وفاء معك، ولا نرمي معك بسهم ولا حجر، ولا نقف معك موقفًا".

وغلا أنصار التحكيم في تطرفهم فقالوا "يا علي أجب إلى كتاب الله إذ دعيت إليه، وإلا ندفعك برمتك إلى القوم، أو نفعل كما فعلنا بابن عفان" فلم ير بدًّا من الإذعان وقبول التحكيم.

"الإمامة والسياسة 1: 89".

ص: 385

‌التحكيم بين علي ومعاوية:

280-

‌ كلام عبد الله بن عباس لأبي موسى الأشعري:

ولما أجمع أهل العراق على طلب أبي موسى الأشعري وأحضروه للتحكيم على كره من علي عليه السلام، أتاه عبد الله بن العباس، وعنده وجوه الناس وأشرافهم، فقال له:

"أبا موسى: إن الناس لم يرضوا بك، ولم يجتمعوا عليك، لفضل لا تشارك فيه، وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار المتقدمين قبلك، ولكن أهل العراق أبوا إلا أن يكون الحكم يمانيًا، ورأوا أن معظم أهل الشام يمان، وايم الله إني لأظن ذلك شرًا لك ولنا، فإنه قد ضم إليك داهية العرب، وليس في معاوية خلة1 يستحق بها الخلافة، فإن نقذف بحقك على باطله، تدرك حاجتك منه، وإن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك، واعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه رأس الأحزاب، وأنه يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة، فإن زعم لك أن عمر وعثمان استعملاه، فلقد صدق، استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي، ويوجره2 ما يكره، ثم استعمله عثمان برأي عمر، وما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة، واعلم أن لعمرو مع كل شيء يسرك خبأً3 يسوءك، ومهما نسيت فلا تنس أن عليًا

1 خصلة.

2 وجره الدواء "كوعده" وأوجره إياه: جعله في فيه، وأوجره الرمح: طعنه، ووجره: أسمعه ما يكره.

3 الخبء: ما خبئ.

ص: 386

بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وأنها بيعة هدى، وأنه لم يقاتل إلا العاصين والناكثين".

فقال أبو موسى: "رحمك الله، والله ما لي إمام غير علي، وإني لواقف عند ما رأى، وإن حق الله أحب إلي من رضا معاوية وأهل الشأم، وما أنت وأنا إلا بالله".

"شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 195".

ص: 387

281-

‌ وصية شريح بن هانئ لأبي موسى الأشعري:

ولما أراد أبو موسى قام إليه شريح بن هانئ الحارثي، فأخذ بيده وقال:

"يا أبا موسى: إنك قد نصبت لأمر عظيم لا يجبر صدعه، ولا تستفال فلتته، ومهما تقل من شيء لك أو عليك، يثبت حقه، ويرى صحته وإن كان باطلًا، وإنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية، ولا بأس على أهل الشأم إن ملكهم علي، وقد كانت منك تثبيطة1 أيام الكوفة والجمل، فإن تشفعها بمثلها يكن الظن بك يقينًا، والرجاء منك يأسًا، ثم قال:

أبا موسى: رميت بشر خصم

فلا تضع العراق "فدتك نفسي"

وأعط الحق شامهم وخذه

فإن اليوم في مهل كأمس

وإن غدًا يجيء بما عليه

كذاك الدهر من سعد ونحس

ولا يخدعك عمرو، إن عمرًا

عدو الله مطلع كل شمس

له خدع يحار العقل منها

مموهة مزخرفة بلبس

1 أي تعويق.

ص: 387

فلا تجعل معاوية بن حرب

كشيخ في الحوادث غير نكس1

هداه الله للإسلام فردا

سوى عرس2 النبي، وأي عرس؟

فقال أبو موسى: "ما ينبغي لقوم اتهموني أن يرسلوني لأدفع عنهم باطلًا، أو أجر إليهم حقًًّا".

"شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 195، والإمامة والسياسة 1: 99".

1 كشيخ: يريد به الإمام عليا، والنكس: الضعيف والمقصر عن غاية الكرم.

2 أي زوجه، يريد السيدة خديجة رضي الله عنها، وأي عرس: أي وأي عرس هي. استفهام المراد به التعظيم.

ص: 388

282-

‌ وصية الأحنف بن قيس لأبي موسى الأشعري:

ولما حكم أبو موسى الأشعري أتاه الأحنف بن قيس، فقال له:

"يا أبا موسى، إن هذا مسير له ما بعده، من عز الدنيا أو ذلها آخر الدهر، ادع القوم إلى طاعة علي، فإن أبوا فادعهم أن يختار أهل الشأم من قريش العراق من أحبوا، ويختار أهل العراق من قريش الشأم من أحبوا، وإياك إذا لقيت ابن العاص أن تصافحه بنية، وأن يقعدك على صدر المجلس فإنها خديعة، وأن يضمك وإياه بيت، فيكمن لك فيه الرجال، ودعه فليتكم، لتكون عليه بالخيار، فالبادئ مستغلق1، والمجيب ناطق".

فما عمل أبو موسى إلا بخلاف ما قال الأحنف، وأشار به، فكان من الأمر ما كان، فلقيه الأحنف بعد ذلك، فقال له:"أدخل والله قدميك في خف واحدة".

" نهاية الأرب 7: 239، الإمامة والسياسة 1: 99، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص 196".

1 أصله من قولهم: استغلقني في بيعه: لم يجعل لي خيارًا في رده: أي أن البادئ ليس له الخيار في رد ما قال.

ص: 388

283-

وصية معاوية لعمرو بن العاص:

وقال معاوية لعمرو:

"إن أهل العراق أكرهوا عليًّا على أبي موسى، وأنا وأهل الشأم راضون عنك، وأرجو في دفع هذه الحرب قوة لأهل الشأم، وفرقة لأهل العراق، وإمدادًا لأهل اليمن، وقد ضم إليك رجل طويل اللسان، قصير الرأي، وله على ذلك دين وفضل، فدعه يقول فإذا هو قال فاصمت، واعلم أن حسن الرأي زيادة في العقل، إن خوفك العراق فخوفه بالشام، وإن خوفك مصر فخوفه باليمن، وإن خوفك عليًا، فخوفه بمعاوية، وإن أتاك بالجميل فأته بالجميل".

ص: 389

284-

‌ رد عمرو بن العاص عليه:

فقال عمرو:

"يا أمير المؤمنين، أقلل الإهتمام بما قبلي، وارج الله تعالى فيما وجهتني له، إنك من أمرك على مثل حد السيف، لم تنل في حربك ما رجوت، ولم تأمن ما خفت، ونحن نرجو أن يصنع الله تعالى لك خيرًا، وقد ذكر لأبي موسى دينًا، وإن الدين منصور، أرأيت إن ذكر عليًا، وجاءنا بالإسلام والهجرة واجتماع الناس عليه ما أقول؟ ".

فقال معاوية: "قل ما تريد وترى".

"الإمامة والسياسة 1: 99".

ص: 389

285-

‌ مقال شرحبيل بن السمط لعمرو:

ولما ودعه شرحبيل بن السمط قال له:

"يا عمرو إنك رجل قريش، وإن معاوية لم يبعثك إلا لعلمه أنك لا تؤتى من عجز ولا مكيدة، وقد علمت أن وطأة هذا الأمر لك ولصاحبك، فكن عند ظننا بك".

"شرح ابن أبي الحديد م 1: ص 196، والإمامة والسياسة 1: 100".

ص: 390

286-

‌ خطبة أبي موسى الأشعري:

ولما التقى الحكمان أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص بدومة الجندل، ودار بينهما من الحوار ما دار، أقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فتقدم أبو موسى، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه، ثم قال:

"أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليًا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر، فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت عليا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم، وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلًا1". ثم تنحى.

1 وفي رواية ابن قتيبة في الإمامة والسياسة: "وإني رأيت وعمرًا أن نخلع عليا ومعاوية ونجعلها لعبد الله بن عمر، فإنه لم يبسط في هذه الحرب يدًا ولا لسانًا" وفي رواية المسعودي في مروج الذهب: "وقد خلعت عليا كما خلعت عمامتي هذه "وأهوى إلى عمامته فخلعها" واستخلفنا رجلًا قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وصحب أبوه النبي صلى الله عليه وسلم، فبرز في سابقته، وهو عبد الله بن عمر وأطراه ورغب الناس فيه".

ص: 390

287-

‌ خطبة عمرو بن العاص:

وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال:

"إن هذا قد قال ما سمعتم، وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان بن عفان رضي الله عنه، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه".

فقال أبو موسى: "مالك –لا وفقك الله- غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث1" قال عمرو: "إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا".

"تاريخ الطبري 6: 40، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص 198، والإمامة والسياسة 1: 101 مروج الذهب 2: 32".

1 لهث الكلب كقطع: أخرج لسانه من العطش أو التعب، وكذا الرجل إذا أعيا.

ص: 391

288-

‌ خطبة الإمام علي بعد التحكيم:

وخطب الإمام علي كرم الله وجهه بعد فشل التحكيم فقال:

"الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح1، والحدث2 الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ليس معه إله غيره، وأن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله. أما بعد فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب، تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لو كان

1 من فدحه الدين: أي أثقله.

2 الحادث.

ص: 391

يطاع لقصير1 أمر، فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة، والمنابذين العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضن الزند بقدحه، فكنت وإياكم كما قال أخو هوازن2:

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى

فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد

ألا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتبع كل واحد منهما هواه، بغير هدى من الله، فحكما بغير حجة بينة، ولا سنة ماضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشد، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين، استعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشأم".

"نهج البلاغة 1: 44، وتاريخ الطبري 6: 43، والإمامة والسياسة 1: 105".

1 قصير: هو مولى جذيمة الأبرش، وكان قد أشار على سيده أن لا يأمن الزباء ملكة الجزيرة، وقد دعته إليها ليتزوجها، فخالفه وقصد إليها، فقال قصير:"لا يطاع لقصير أمر" فذهبت مثلًا.

2 هو دريد بن الصمة.

ص: 392

289-

‌ خطبة الحسن بن علي:

وقال الإمام علي: قم يا حسن فتكلم في أمر هذين الرجلين أبي موسى وعمرو، فقام الحسن فتكلم فقال:

"أيها الناس، قد أكثرتم في أمر أبي موسى وعمرو، وإنما بعثا ليحكما بالقرآن دون الهوى، فحكما بالهوى دون القرآن، فمن كان هكذا لم يكن حكمًا، ولكنه محكوم عليه، وقد كان من خطأ أبي موسى أن جعلها لعبد الله بن عمر، فأخطأ في ثلاث خصال: خالف "يعني أبا موسى" أباه عمر إذ لم يرضه لها، ولم يره أهلًا لها، وكان أبوه أعلم به من غيره، ولا أدخله في الشورى إلا على أنه لا شيء له فيها، شرطًا مشروطًا من

ص: 392

عمر على أهل الشورى، فهذه واحدة، وثانية: لم يجتمع عليه المهاجرين والأنصار، الذين يعقدون الإمامة، ويحكمون على الناس. وثالثة: لم يستأمر الرجل في نفسه، ولا علم ما عنده من رد أو قبول" ثم جلس.

ص: 393

290-

خطبة عبد الله بن عباس "توفي سنة 68هـ":

ثم قال علي لعبد الله بن عباس: قم فتكلم، فقام عبد الله بن عباس وقال:

"أيها الناس: إن للحق أناسًا أصابوه بالتوفيق والرضا، والناس بين راض به، وراغب عنه، وإنما سار أبو موسى بهدى إلى ضلال، وسار عمرو بضلال إلى هدى، فلما التقيا رجع أبو موسى عن هداه، ومضى عمرو على ضلاله، فوالله لو كانا حكما عليه بالقرآن لقد حكما عليه، ولئن كانا حكما بهواهما على القرآن، ولئن مسكا بما سارا به، لقد سار أبو موسى وعلي إمامه، وسار عمرو ومعاوية إمامه" ثم جلس.

ص: 393

291-

‌ خطبة عبد الله بن جعفر:

فقال علي لعبد الله بن جعفر: قم فتكلم، فقام وقال:

"أيها الناس: هذا أمر كان النظر فيه لعلي، والرضا فيه إلى غيره، جئتم بأبي موسى فقلتم قد رضينا هذا فارض به، وايم الله ما أصلحا بما فعلا الشأم، ولا أفسدا العراق، ولا أماتا حق علي، ولا أحييا باطل معاوية، ولا يذهب الحق قلة رأي، ولا نفخة شيطان، وإنا لعلي اليوم كما كنا أمس عليه" ثم جلس.

"الإمامة والسياسة 1: 102".

ص: 393

292-

خطبة علي:

ولما نزل علي النخيلة وأيس من الخوارج، قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

"أما بعد: فإنه من ترك الجهاد في الله، وادهن في أمره، كان على شفا هلكة، إلا أن يتداركه الله بنعمة، فاتقوا الله، وقاتلوا من حاد الله، وحاول أن يطفئ نور الله، قاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين المجرمين الذين ليسوا بقراء للقرآن، ولا فقهاء في الدين، ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام، والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل، تيسروا وتهيئوا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب. وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم، فإذا قدموا فاجتمعتم شخصنا إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

"تاريخ الطبري 6: 44".

ص: 394

293-

خطبة عبد الله بن عباس:

وكتب علي إلى عبد الله بن عباس: "أما بعد: فإنا قد خرجنا إلى معسكرنا بالنخيلة، وقد أجمعنا على المسير إلى عدونا من أهل المغرب، فأشخص بالناس حين يأتيك رسولي، وأقم حتى يأتيك أمري والسلام".

فلما قدم عليه الكتاب قرأه على الناس، وأمرهم بالشخوص مع الأحنف بن قيس، فشخص معه منهم ألف وخمسمائة رجل، فاستقلهم عبد الله بن عباس، فقام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

"أما بعد يأهل البصرة فإنه جاءني أمر أمير المؤمنين يأمرني بإشخاصكم، فأمرتكم بالنفير إليه مع الأحنف بن قيس، ولم يشخص معه منكم إلا ألف وخمسمائة، وأنتم ستوت ألفًا سوى أبنائكم وعبدانكم وموالكيم ألا انفروا مع جارية بن قدامة السعدي،

ص: 394

ولا يجعلن رجل على نفسه سبيلًا، فإني موقع بكل من وجدته متخلفًا عن مكتبه، عاصيًا لإمامه. وقد أمرت أبا الأسود الدؤلي بحشركم، فلا يلم رجل جعل السبيل على نفسه إلا نفسه".

"تاريخ الطبري 6: 44".

ص: 395

294-

خطبة علي:

فخرج جارية فعسكر، وخرج أبو الأسود فحشر الناس، فاجتمع إلى جارية ألف وسبعمائة، ثم أقبل حتى وافاه علي بالنخيلة، فلم يزل بالنخيلة حتى وافاه هذان الجيشان من البصرة ثلاثة آلاف ومائتا رجل، فجمع إليه رءوس أهل الكوفة ورءوس الأسباع ورءوس القبائل ووجوه الناس.

فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يأهل الكوفة، أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحق، وصحابتي على جهاد عدوي المحلين، بكم أضرب المدبر، وأرجو تمام طاعة المقبل، وقد بعثت إلى أهل البصرة فاستنفرتهم إليكم، فلم يأتني منهم إلا ثلاثة آلاف ومائتا رجل، فأعينوني بمناصحة جلية خلية من الغش، وإنكم

1 مخرجنا إلى صفين، بل استجمعوا بأجمعكم، وإني أسألكم أن يكتب لي رئيس كل قوم ما في عشيرته من المقاتلة وأبناء المقاتلة الذين أدركوا القتال وعبدان عشيرته ومواليهم، ثم يرفع ذلك إلينا".

فقام سعيد بن قيس الهمداني فقال: يا أمير المؤمنين سمعًا وطاعة وودا ونصيحة، أنا أول الناس جاء بما سألت وبما طلبت، وقام معقل بن قيس الرياحي فقال له نحوًا من ذلك، وقام عدي بن حاتم وزياد بن خصفة وحجر بن عدي وأشراف الناس والقبائل فقالوا مثل ذلك، ثم إن الرءوس كتبوا من فيهم ثم رفعوهم إليه.

"تاريخ الطبري 4: 45".

1 فراغ في الأصل.

ص: 395

295-

خطبة علي:

وكتب علي إلى سعد بن مسعود الثقفي، وهو عامله على المدائن:"أما بعد فإني قد بعثت إليك زياد بن خصفة فأشخص معه من قبلك من مقاتلة أهل الكوفة، وعجل ذلك إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله"

وبلغ عليا أن الناس يقولون: لو سار بنا إلى هذه الحرورية فبدأنا بهم، فإنا فرغنا منهم وجهنا من وجهنا ذلك إلى المحلين. فقام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

"أما بعد فإنه قد بلغني قولكم: لو أن أمير المؤمنين سار بنا إلى هذه الخارجة التي خرجت عليه، فبدأنا بهم، فإذا فرغنا منهم وجهنا إلى المحلين.

وأن غير هذه الخارجة أهم إلينا منهم، فدعوا ذكرهم، وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكًا، ويتخذوا عباد الله خولا1".

فتنادى الناس من كل جانب: سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت، وقام إليه صيفي بن فسيل الشيباني فقال: يا أمير المؤمنين، نحن حزبك وأنصارك، نعادي من عاديت، ونشايع من أناب إلى طاعتك، فسر بنا إلى عدوك من كانوا وأينما كانوا، فإنك إن شاء الله لن تؤتى من قلة عدد، ولا ضعف نية أتباع.

وقام إليه محرز بن شهاب التميمي من بني سعد قال: يا أمير المؤمنين: شيعتك كقلب رجل واحد في الإجماع على بصرك، والجد في جهاد عدوك، فأبشروا بالنصر، وسر بنا إلى أي الفريقين أحببت، فإنا شيعتك الذين نرجو في طاعتك، وجهاد من خالفك صالح الثواب، ونخاف في خذلانك والتخلف عنك شدة الوبال

"تاريخ الطبري 6: 45".

1 عبيدًا.

ص: 396

296-

‌ خطبة لمعاوية:

ولما فشل التحكيم بايع أهل الشأم معاوية بالخلافة، واختلف الناس بالعراق على علي فما كان لمعاوية هم إلا مصر، فدعا أصحابه ليستشيرهم في أمرها، وكان فيهم عمرو بن العاص فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

"أما بعد فقد رأيتم كيف صنع الله بكم في حربكم عدوكم، جاءوكم وهم لا ترون إلا أنهم سيقبضون بيضتكم1، ويخربون بلادكم، ما كانوا يرون إلا أنكم في أيديهم، فردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرًا مما أحبوا، وحاكمناهم إلى الله فحكم لنا عليهم، ثم جمع لنا كلمتنا وأصلح ذات بيننا، وجعلهم أعداء متفرقين يشهد بعضهم على بعض بالكفر، ويسفك بعضهم دم بعض، والله إني لأرجو أن يتم لنا هذا الأمر، وقد رأيت أن نحاول أهل مصر فكيف ترون ارتئاءنا لها؟ ".

وكان عمرو بن العاص قد صالح معاوية حين بايعه على قتال علي بن أبي طالب، على أن له مصر طعمة ما بقي، فقال لمعاوية: فإني أشير عليك كيف تصنع: أرى أن تبعث جيشًا كثيفًا عليهم رجل حازم صارم تأمنه وتثق به، فيأتي مصر حتى يدخلها.. فسيره إليها.

"تاريخ الطبري 6: 56".

1 البيضة: حوزة كل شيء.

ص: 397

297-

وصية معاوية لعمرو بن العاص:

وجهز معاوية عمرو بن العاص، وبعثه في ستة آلاف رجل، وخرج وودعه، وقال له عند وداعه إياه:

ص: 397

"أوصيك يا عمرو بتقوى الله والرفق، فإنه يمن، وبالمهل والتؤدة، فإن العجلة من الشيطان، وبأن تقبل ممن أقبل، وأن تعفو عمن أدبر، فإن قبل فبها ونعمت، وإن أبى فإن السطوة بعد المعذرة أبلغ في الحجة، وأحسن في العاقبة، وادع الناس إلى الصلح والجماعة، فإذا أنت ظهرت فليكن أنصارك آثر الناس عندك، وكل الناس فأوْلِ حسنا".

"تاريخ الطبري 6: 57".

ص: 398

‌خطبة محمد بن أبي بكر

298-

خطبة بن أبي بكر:

وقدم محمد بن أبي بكر مصر واليًا عليها من قبل علي بن أبي طالب "سنة 36هـ" فقام خطيبًا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

"الحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحق، وبصرنا وإياكم كثيرًا بما عمي عنه الجاهلون، ألا إن أمير المؤمنين ولاني أموركم، وعهد إلي ما قد سمعتم، وأوصاني بكثير منه مشافهة، ولن آلوكم خيرًا ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعة لله وتقوى، فاحمدوا الله عز وجل على ما كان من ذلك، فإنه هو الهادي. وإن رأيتم عاملًا لي عمل غير الحق زائفًا، فارفعوه إلي وعاتبوني فيه، فإني بذلك أسعد، وأنتم بذلك جديرون، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته".

"تاريخ الطبري 5: 232".

ص: 398

299-

‌ خطبة لمحمد بن أبي بكر:

وأقبل عمرو بن العاص حتى قصد مصر، فقام محمد بن أبي بكر في الناس، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال:

"أما بعد معاشر المسلمين والمؤمنين، فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة،

ص: 398

وينعشون الضلالة، ويشبون نار الفتنة، ويتسلطون بالجبرية، قد نصبوا لكم العداوة، وساروا إليكم بالجنود.

عباد الله فمن أراد الجنة والمغفرة، فليخرج إلى هؤلاء القوم، فليجاهدهم في الله. انتدبوا إلى هؤلاء. رحمكم الله مع كنانة بن بشر" ثم انتهى الأمر بقتل محمد بن أبي بكر.

"تاريخ الطبري 6: 59".

ص: 399

300-

‌ خطبة لعلي وقد استصرخه محمد بن أبي بكر:

ولما سير معاوية عمرو بن العاص إلى مصر "سنة 38هـ" -وكان عليها محمد بن أبي بكر من قبل علي- بعث ابن أبي بكر إلى علي يستصرخه، فقام علي في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال:

"أما بعد، فإن هذا صريخ محمد بن أبي بكر، وإخوانكم من أهل مصر، قد سار إليهم ابن النابغة، عدو الله، وولي من عادى الله، فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم والركون إلى سبيل الطاغوت، أشد اجتماعًا منكم على حقكم هذا، فإنهم قد بدءوكم وإخوانكم بالغزو، فاعجلوا إليهم بالمؤاساة والنصر.

عباد الله: إن مصر أعظم من الشأم، أكثر خيرًا، وخير أهلًا، فلا تغلبوا على مصر، فإن بقاء مصر في أيديكم عز لكم، وكبت لعدوكم، اخرجوا إلى الجرعة بين الحيرة والكوفة، فوافوني بها هناك غدًا إن شاء الله".

"تاريخ الطبري 6: 61 وشرح ابن أبي الحديد م 2: 34".

ص: 399

301-

‌ خطبة علي حين بلغه مقتل محمد بن أبي بكر:

ولما بلغ عليا مقتل محمد بن أبي بكر، حزن عليه حتى رئي ذلك في وجهه وتبين فيه وقام في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقال:

"إلا إن مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلم، الذين صدوا عن سبيل الله، وبغوا الإسلام عوجا، ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمه الله، فعند الله نحتسبه، أما والله إن كان -ما علمت- لممن ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحب هدى المؤمن.

إني والله ما ألوم نفسي على التقصير، وإني لمقاساة الحرب نجد1 خبير، وإني لأقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم، وأقوم فيكم بالرأي المصيب، فأستصرخكم معلنا، وأناديكم نداء المستغيث معربًا، فلا تسمعون لي قولًا، ولا تطيعون لي أمرًا، حتى تصير بي الأمور إلى عواقب المساءة، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثأر، ولا ينقض بكم الأوتار، دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة، فتجرجرتم جرجرة2 الجمل الأشدق، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليس له نية في جهاد العدو، ولا اكتساب الأجر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب3 كأنما يساقون إلى الموت، وهم ينظرون، فأفٍّ لكم" ثم نزل:

"تاريخ الطبري 6: 62".

1 النجد: الشجاع الماضي فيما يعجز غيره.

2 الجرجرة: صوت تردده البعير في حنجرته، وأكثر ما يكون ذلك عند الإعياء والتعب.

3 جنيد: تصغير جند، متذائب: مضطرب. من قولهم: تذاءبت الريح أي اضطرب هبوبها، ومنه سمي الذئب ذئبًا لاضطراب مشيته.

ص: 400

‌فتنة الخوارج:

302-

‌ مناظرة عبد الله بن عباس لهم:

لما رجع الإمام علي كرم الله وجهه من صفين إلى الكوفة -بعد كتابة صحيفة التحكيم بينه وبين معاوية- اعتزله جماعة من أصحابه ممن رأوا التحكيم ضلالًا، ونزلوا حروراء1 في اثني عشر ألفًا، وأمروا على القتال شبث بن ربعي، وعلى الصلاة عبد الله بن الكواء، فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس، فقال: لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك، فخرج إليهم حتى أتاهم، فأقبلوا يكلمونه، فلم يصبر حتى راجعهم فقال:

"ما نقمتم من الحكمين؟ وقد قال الله عز وجل: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} 2 فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقالت الخوارج: قلنا: أما ما جعل حكمه إلى الناس وأمر بالنظر فيه والإصلاح له، فهو إليهم كما أمر به، وما حكم فأمضاه، فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزانى مائة جلدة، وفي السارق بقطع يده، فليس للعباد أن ينظروا في هذا، قال ابن عباس: فإن الله عز وجل يقول: {يَحْكُمُ بِهِ

ص: 401

ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1، فقالوا له:"أو تجعل الحكم في الصيد، والحدث يكون بين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ " وقالت الخوارج: قلنا له: فهذه الآية بيننا وبينك، أعدل عندك ابن العاص وهو بالأمس يقاتلنا، ويسفك دماءنا؟ فإن كان عدلًا فلسنا بعدول، ونحن أهل حربه، وقد حكمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله عز وجل حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا أو يرجعوا2، وقبل ذلك ما دعوناهم إلى كتاب الله عز وجل فأبوه، ثم كتبتم بينكم وبينه كتابًا، وجعلتم بينكم وبينه الموادعة والاستفاضة3 وقد قطع الله عز وجل الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة، إلا من أقر بالجزية".

"تاريخ الطبري 6: 36، والكامل للمبرد 2: 120".

ص: 402

303-

‌ مناظرة الإمام علي لهم:

ثم خرج إليهم علي حتى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس، فقال: انته عن كلامهم ألم أنهك رحمك الله؟

ص: 402

ثم تكلم، فحمد الله عز وجل، وأثنى عليه، ثم قال:

"اللهم إن هذا مقام من أفلج1 فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة، ومن نطق فيه وأوعث2 فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلًا، ثم قال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء، قال علي: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتكم يوم صفين. قال: أنشدكم بالله أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف، فقلتم: نجيبهم إلى كتاب الله، قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني صحبتهم وعرفتهم أطفالًا ورجالًا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، امضوا على حقكم وصدقكم، فإنما رفع القوم هذه المصاحف خديعة وإدهانًا3 ومكيدة، فرددتم علي رأيي، وقلتم: لا، بل نقبل منهم، فقلت لكم: اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إياي، فلما أبيتم إلا الكتاب، اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وإن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن، فليس لنا أن نخالف حكمًا يحكم بما في القرآن، وإن أبيا فنحن من حكمها برآء، قالوا له: فخبرنا أتراه عدلًا تحكيم الرجال في الدماء؟ فقال: إنا لسنا حكمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال، قالوا: فخبرنا عن الأجل لم جعلته فيما بينك وبينهم؟ قال: ليعلم الجاهل، ويتثبت العالم، ولعل الله عز وجل يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة، ادخلوا مصركم رحمكم الله، فدخلوا من عند آخرهم".

"تاريخ الطبري 6: 37، الكامل للمبرد 2: 128".

1 الفلج والإفلاج: الظفر والفوز.

2 أوعث: وقع في الوعث "الوعث بالسكون: المكان السهل الدهس تغيب فيه الأقدام والطريق العسر".

3 الإدهان: الغش.

ص: 403

304-

صورة أخرى:

وروى صاحب العقد المناظرة بين علي وبين الخوارج بصورة أخرى وهاكها:

"قالوا: إن عليًأ لما اختلف عليه أهل النهروان والقرى وأصحاب البرانس، ونزلوا قرية يقال لها حروراء -وذلك بعد وقعة الجمل- رجع إليهم علي بن أبي طالب، فقال لهم: يا هؤلاء من زعيمكم! قالوا: ابن الكواء، قال: فليبرز إلي، فخرج إليه ابن الكواء، فقال له علي: يابن الكواء، ما أخرجكم علينا بعد رضاكم بالحكمين، ومقامكم بالكوفة؟ قال: قاتلت بنا عدوا لا نشك في جهاده، فزعمت أن قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار، فبينما نحن كذلك إذ أرسلت منافقًا، وحكمت كافرًا، وكان من شكك في أمر الله أن قلت للقوم حين دعوتهم: كتاب الله بيني وبينكم، فإن قضى علي بايعتكم، وإن قضى عليكم بايعتموني، فلولا شكك لم تفعل هذا، والحق في يدك. قال علي: يابن الكواء، إنما الجواب بعد الفراغ، أفرغت فأجيبك؟ قال: نعم، قال علي: أما قتالك معي عدوا لا نشك في جهاده فصدقت، ولو شككت فيهم لم أقاتلهم، وأما قتلانا وقتلاهم، فقد قال الله في ذلك ما يستغنى به عن قولي، وأما إرسالي المنافق وتحكيمي الكافر، فأنت أرسلت أبا موسى مبرنسًا، ومعاوية حكم عمرًا، أتيت بأبي موسى مبرنسًا، فقلت: لا نرضى إلا أبا موسى، فهلا قام إلي رجل منكم فقال: يا علي لا تعط هذه الدنية؛ فإنها ضلالة؟ وأما قولي لمعاوية: إن جرني إليك كتاب الله تبعتك، وإن جرك إلي تبعتني. زعمت أني لم أعطَ ذلك إلا من شك، فقد علمت أن أوثق ما في يديك هذا الأمر، فحدثني ويحك عن اليهودي والنصراني ومشركي العرب، أهم أقرب إلى كتاب الله أم معاوية وأهل الشأم؟ قال: بل معاوية وأهل الشأم أقرب، قال علي: أفرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوثق بما في يديه من كتاب الله أو أنا؟ قال: بل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أفرأيت الله تبارك وتعالى حين يقول: {قُلْ فَأْتُوا}

ص: 404

{بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . أما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لا يؤتى بكتاب هو أهدى في يديه؟ قال: بلى، قال فلم أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم ما أعطاهم؟ قال: إنصافًا وحجة، قال: فإني أعطيت القوم ما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن الكواء: فإني أخطأت. هذه واحدة. زدني، قال علي: فما أعظم ما نقمتم علي؟ قال: تحكيم الحكمين، نظرنا في أمرنا، فوجدنا تحكيمهما شكًّا وتبذيرًا، قال علي: فمتى سمي أبو موسى حكمًا، حين أرسل، أو حين حكم؟ قال: حين أرسل، قال: أليس قد سار وهو مسلم، وأنت ترجو أن يحكم بما أنزل الله؟ قال: نعم، قال علي: فلا أرى الضلال في إرساله، فقال ابن الكواء: سمي حكمًا حين حكم، قال: نعم إذن فإرساله كان عدلًا، أرأيت يا بن الكواء لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مؤمنًا إلى قوم مشركين يدعوهم إلى كتاب الله، فارتد على عقبه كافرًا، كان يضر نبي الله شيئًا؟ قال: لا، قال علي: فما كان ذنبي إن كان أبو موسى ضل، هل رضيت حكومته حين حكم، أو قوله إذ قال؟ قال ابن الكواء: لا، ولكنك جعلت مسلمًا وكافرًا يحكمان في كتاب الله، قال علي: ويلك يا بن الكواء! هل بعث عمرًا غير معاوية؟ وكيف أحكمه وحكمه على ضرب عنقي، إنما رضي به صاحبه، كما رضيت أنت بصاحبك، وقد يجتمع المؤمن والكافر يحكمان في أمر الله، أرأيت لو أن رجلًا مؤمنًا تزوج يهودية أو نصرانية، فخافا شقاق بينهما، ففزع الناس إلى كتاب الله، وفي كتابه:{فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} فجاء رجل من اليهود، أو رجل من النصارى، ورجل من المسلمين، اللذين يجوز لهما أن يحكما في كتاب الله فحكما. قال ابن الكواء: وهذه أيضًا، أمهلنا حتى ننظر، فانصرف عنهم علي.

فقال له صعصعة بن صوحان: يا أمير المؤمنين، ائذن لي في كلام القوم، قال: نعم ما لم تبسط يدًا، فنادى صعصعة ابن الكواء، فخرج إليه فقال: أنشدكم الله يا معشر

ص: 405

الخارجين أن لا تكونوا عارًا على من يغزو لغيره1، وأن لا تخرجوا بأرض تسمون بها بعد اليوم، ولا تستعجلوا ضلال العام قابل، فقال له ابن الكواء: إن صاحبك لقينا بأمر، قولك فيه صغير، فأمسك.

قالوا: إن عليًّا خرج بعد ذلك إليهم، فخرج إليه ابن الكواء، فقال له علي: يابن الكواء: إنه من أذنب في هذا الدين ذنبًا يكون في الإسلام حدثًا، استتبناه من ذلك الذنب بعينه، وإن توبتك أن تعرف هدى ما خرجت منه، وضلال ما دخلت فيه. قال ابن الكواء: إننا لا ننكر أنا قد فتنا، فقال له عبد الله بن عمرو بن جرموز: أدركنا والله هذه الآية {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} -وكان عبد الله من قراء أهل حروراء، فرجعوا فصلوا خلف علي الظهر، وانصرفوا معه إلى الكوفة، ثم اختلفوا بعد ذلك في رجعتهم ولام بعضهم بعضًا، ثم خرجوا على علي، فقتلهم بالنهروان.

"العقد الفريد 2: 240".

1 أي لغير منفعته الشخصية بل للم شعث المسلمين وجمع كلمتهم؛ يعني عليًّا وأصحابه.

ص: 406

305-

‌ مناظرة ابن عباس لهم:

فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن عليًّا رجع عن التحكيم، وتاب منه، ورآه ضلالًا، فأتى الأشعث بن قيس عليًّا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالًا، والإقامة عليها كفرًا وتبت، فخطب علي الناس فقال:

"من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب، ومن رآها ضلالًا فهو أضل منها، فخرجت الخوارج من المسجد فحكمت، فقيل لعلي: إنهم خارجون، فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون، فوجه إليهم عبد الله بن العباس.

فلما سار إليهم رحبوا به وأكرموه، فرأى منهم جباها قرحت لطول السجود،

ص: 406

وأيديا كثفنات1 الإبل، وعليهم قمص مرحضة2 وهم مشمرون. قالوا: ما جاء بك يابن عباس؟ قال: جئتكم من عند صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، وأعلمنا بربه وسنة نبيه، ومن عند المهاجرين والأنصار، فقالوا: إنا أتينا عظيما حين حكمنا الرجال في دين الله، فإن تاب كما تبنا، ونهض لمجاهدة عدونا رجعنا، فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتم أنفسكم. أما علمتم أن الله أمركم بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق امرأة ورجلها، فقالوا: اللهم نعم، قال: فأنشدكم الله هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عن القتال، للهدنة بينه وبين الحديبية3، قالوا: نعم ولكن عليًّا محا نفسه من خلافة المسلمين، قال ابن عباس: أذلك يزيلها عنه؟ وقد محا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه من النبوة، قال سهيل4 بن عمرو: لو علمت أنك رسول الله ما حاربتك، فقال للكاتب5: اكتب محمد بن عبد الله وقد أخذ على الحكمين أن لا يجورا، فعلي أولى من معاوية وغيره، قالوا: إن معاوية يدعي مثل دعوى علي، قال: فأيهما رأيتموه أولى فولوه، قالوا: صدقت، قال ابن عباس: ومتى جار الحكمان فلا طاعة لهما، ولا قبول لقولهما".

فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف، فلم يزالوا على ذلك حتى اجتمعوا على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي.

"العقد الفريد 1: 212".

1 ثفنة البعير: ركبته.

2 قمص جمع قميص، ورحض الثوب: غسله.

3 أي وبين أهل الحديبية. والحديبية بئر قرب مكة، وكانت غزوة الحديبية سنة ست هجرية.

4 النائب عن قريش في عقد الصلح مع المسلمين.

5 وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

ص: 407

306-

‌ خطبة يزيد بن عاصم المحاربي:

وخرج الإمام علي كرم الله وجهه ذات يوم يخطب، فإنه لفي خطبته، إذ حكمت1 المحكمة في جوانب المسجد، فقال علي: الله أكبر، كلمة حق يراد بها باطل: إن سكتوا عممناهم، وإن تكلموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم، فوثب يزيد بن عاصم المحاربي فقال:

"الحمد لله غير مودع2 ربنا ولا مستغنى عنه، اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية3 في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين إدهان4 في أمر الله عز وجل، وذل راجع بأهله إلى سخط الله، يا علي أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات5، ثم لتعلمن أينا أولى بها صليًّا6".

ثم خرج بهم هو وإخوة له ثلاثة هو رابعهم، فأصيبوا مع الخوارج بالنهر، وأصيب أحدهم بعد ذلك بالنخيلة.

"تاريخ الطبري 6: 41".

1 أي قالوا: لا حكم إلا الله، ويسمي الخوارج المحكمة: أي الذين يمنعون التحكيم.

2 أي غير متروك ولا مقطوع: أي حمدًا دائمًا.

3 يريد بها قبول التحكيم.

4 الإدهان والمداهنة: إظهار غير ما يضمر.

5 أي نضربكم بحدها لا بعرضها، ضربه بالسيف مصفحًا: أي بعرضه.

6 صلي النار وبها صليا: قاسى حرها.

ص: 408

‌خطبة عبد الله بن وهب الراسي

307-

خطبة عبد الله بن وهب الراسبي:

ولما بعث الإمام علي أبا موسى الأشعري لإنفاذ الحكومة، لقيت الخوارج بعضها بعضًا، فاجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

ص: 408

"أما بعد: فوالله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، وينيبون إلى حكم القرآن، أن تكون هذه الدنيا –التي الرضا بها والركون إليها، والإيثار إياها عناء وتبار1- آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقول بالحق، وإن من 2 وضر، فإنه من يمن ويضر في هذه الدنيا، فإن ثوابه يوم القيامة رضوان الله عز وجل، والخلود في جناته، فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القربة الظالم أهلها، إلى بعض كور3 الجبال، أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة".

1 هلاك.

2 أي قطع وهجر.

3 جمع كورة بالضم، وهي المدينة والصقع.

ص: 409

308-

‌ خطبة حرقوص بن زهير السعدي:

فقام حرقوص بن زهير السعدي فقال:

"إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك1، فلا تدعونكم زينتها، وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلفتنكم عن طلب الحق، وإنكار الظلم، فإن الله مع الذي اتقوا والذين هم محسنون".

1 سريع.

ص: 409

309-

‌ خطبة حمزة بن سنان الأسدي:

فقام حمزة بن سنان الأسدي فقال:

"يا قوم إن الرأي ما قد رأيتم، والحق ما قد ذكرتم، فولوا أمركم رجلًا منكم فإنه لا بد لكم من عماد وسناد، وراية تحفون بها، وترجعون إليها".

فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى، وعلى حرقوص بن زهير فأبى، وعلى

ص: 409

حمزة بن سنان، وشريح بن أوفى العبسي فأبيا، وعلى عبد الله بن وهب فقال:"هاتوها، أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا، ولا أدعها فرقًا1 من الموت" فبايعوه "لعشر خلون من شوال سنة 37 هـ".

1 جزعًا وخوفًا.

ص: 410

310-

‌ خطبة شريح بن أوفى العبسي:

1

ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي، فقام شريح فقال:

"إن الله أخذ عهودنا ومواثيقنا على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقول بالحق، والجهاد في تقويم السبيل، وقد قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فاشهدوا على أهل دعوتنا أن قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم القرآن، وجاروا في الحكم والعمل، وأن جهادهم على المؤمنين فرض، وأقسم بالذي تعنو2 له الوجوه، وتخشع دونه الأبصار، لو لم يكن أحد على تغيير المنكر، وقتال القاسطين3 مساعدًا، لقاتلتهم وحدي فردًا حتى ألقى الله ربي، فيرى أني قد غيرت "إرادة رضوانه" بلساني، يا إخواننا، اضربوا جباههم ووجوههم بالسيف، حتى يطاع الرحمن عز وجل، فإن

1 قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة: "ثم اجتمعوا في منزل زفر بن حصين الطائي، فقالوا: إن الله أخذ عهودنا ومواثيقنا.... إلى آخر الخطبة، ولم يذكر قائلها. وذكر الطبري في تاريخه: أنهم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي، وذكرت الفقرات الأخيرة من هذه الخطبة وعزاها إلى شريح".

2 تذل وتخضع.

3 الجائرين.

ص: 410

يطع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له الآمرين بأمره، وإن قتلتم فأي شيء أعظم من المسير إلى رضوان الله وجنته؟ واعلموا أن هؤلاء القوم خرجوا لإقصاء حكم الضلالة، فاخرجوا بنا إلى بلد نتعد فيه الاجتماع من مكاننا هذا، فإنكم قد أصبحتم بنعمة ربكم وأنتم أهل الحق بين الخلق، إذ قلتم بالحق، وصمدتم لقول الصدق، فاخرجوا بنا إلى "المدائن1" نسكنها فنأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة، فيقدمون علينا".

1 على نهر دجلة شرقًا.

ص: 411

311-

‌ مقال زيد بن حصين الطائي:

فقال زيد بن حصين الطائي:

"إنكم إن خرجتم مجتمعين أتبعتم، ولكن اخرجوا وحدانًا مستخفين، فأما المدائن، فإن بها قومًا يمنعونكم منها، ويمنعونها منكم، ولكن اكتبوا إلى إخوانكم من أهل البصرة، فأعلموهم بخروجكم، وسيروا حتى تنزلوا جسر النهروان1".

قالوا: هذا هو الرأي، فاجتمعوا على ذلك، وكتبوا به إليهم.

"تاريخ الطبري 5: 42، والإمامة والسياسة 1: 104".

1 النهروان: بليدة بالقرب من بغداد، نحو أربعة فراسخ.

ص: 411

312-

‌ خطبة علي في تخويف أهل النهروان:

فلما نزلوا بالنهروان، وأتوا بها ما أتوا من الأحداث1، وأتاهم الإمام علي كرم الله وجهه، فوقف عليهم فقال:

"أيها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، وطمح بها النزق2 وأصبحت في اللبس والخطب العظيم، إني نذير لكم أن تصبحوا تلفيكم الأمة غدًا صرعى بأثناء3 هذا النهر، وبأهضام4 هذا الغائط5، على غير بينة من ربكم، ولا سلطان مبين معكم، وقد طوحت بكم الدار، واحتبلكم6 المقدار.

ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أن طلب القوم إياها منكم دهن7 ومكيدة لكم؟ ونبأتكم أن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأني أعرف بهم منكم؟

1 من ذلك أنهم لقوا عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه امرأته وهي حبل متم "أي دنا ولادها" فقالوا: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرًا، قالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقًّا في أولها وفي آخرها، قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنه أعلم بالله منكم وأشد توقيا على دينه وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، ثم قربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه، وسال دمه في الماء، وبقروا بطن امرأته، وقتلوا ثلاث نسوة من طيئ، وقتلوا أم سنان الصيداوية، وأصابوا مسلمًا ونصرانيًّا، فقتلوا المسلم وأوصوا بالنصراني خيرًا، وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم، وأرسل إليهم علي رسولًا ينظر فيما بلغه عنهم فقتلوه، فبعث إليهم أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم، ثم أنا تارككم وكاف عنكم حتى ألقى أهل الشأم، فلعل الله يقلب قلوبكم ويردكم إلى خير ما أنتم عليه من أمركم، فبعثوا إليه، فقالوا كلنا قتلهم، وكلنا نستحل دماءهم ودماءكم.

2 الطيش.

3 جمع ثنى بالكسر: أي منعطفاته.

4 جمع هضم "بالفتح ويكسر" وهو المطئن من الأرض.

5 الغائط: المطمئن الواسع من الأرض.

6 أوقعكم في الحبالة.

7 دهن الرجل: إذا نافق.

ص: 412

"عرفتهم أطفالًا ورجالًا، فهم أهل المكر والغدر" وأنكم إن فارقتم رأيي جانبتم الحزم؟ فعصيتموني وأكرهتموني حتى حكمت، فلما أن فعلت شرطت واستوثقت، فأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة، وعملا بالهوى، فنبذنا أمرهما، ونحن على أمرنا الأول، فما الذي بكم، ومن أين أتيتم؟ ".

قالوا: إنا حكمنا، فلما حكمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا، فإن تبت كما تبنا، فنحن منك ومعك، وإن أبيت فاعتزلنا، فإنا منابذوك على سواء1 إن الله لا يحب الخائنين".

فقال علي: "أصابكم حاصب2، ولا بقي منكم وابر3، أبعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرتي معه، وجهادي في سبيل الله، أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، فأوبوا شر مآب4، وارجعوا على أثر الأعقاب5 أما إنكم ستلقون بعدي ذلًّا شاملًا، وسيفًا قاطعًا، وأثرة6 يتخذها الظالمون فيكم سنة".

1 هو من قوله تعالى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} ومعناه إذا هادنت قومًا فعلمت منهم النقض للعهد، فلا توقع بهم سابقًا إلى النقض حتى تعلمهم أنك نقضت العهد، فتكونوا في علم النقض مستوين لئلا يتهموك بالغدر، ثم أوقع بهم.

2 الحاصب: الريح الشديدة تثير الحصباء "الحصى"، وحصبه: رماه بالحصباء.

3 أي أحد. ويروى آبر، وهو الذي يأبر النخل أي يصلحه. ويروى آثر، وهو الذي يأثر الحديث أي يرويه ويحكيه. ويروى آبز، وهو الواثب.

4 أي ارجعوا شر مرجع.

5 الأعقاب جمع عقب "بكسر القاف": وهو مؤخر القدم، وهو مأخوذ من قوله تعالى:{وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} يدعو عليهم بانعكاس حالهم وارتدادهم وعودهم من العز إلى الذل.

6 أي استبدادًا عليكم بالفيء والغنائم.

ص: 413

313-

صورة أخرى:

وفي رواية أخرى أن عليًّا قال لأهل النهر:

"يا هؤلاء: إن أنفسكم قد سولت لكم فراق هذه الحكومة، التي أنتم ابتدأتموها وسألتموها1 وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم سألوكموها مكيدة ودهنًا، فأبيتم علي إباء المخالفين المنابذين، وعدلتم عني عدول النكداء2 العاصين، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم، وأنتم والله معاشر أخفاء الهام3، سفهاء الأحلام، فلم آت "لا أبا لكم" بجرًا4، ولا أردت بكم ضرًّا، والله ما خبلتكم5 عن أموركم، ولا أخفيت شيئًا من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوةً6، ولا دنيت7 لكم الضراء، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرًا فأجمع رأي ملئكم على أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بما في القرآن ولا يعدواه، فتاها8 وتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما "وقد سبق استيثاقنا عليهما في الحكم بالعدل" والصد للحق بسوء رأيهما وجور حكمهما، والثقة في أيدينا لأنفسنا حين خالفا سبيل الحق، وأتيا بما لا يعرف، فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا، والخروج من جماعتنا؟ أن اختار الناس رجلين9 أحل لكم أن تضعوا أسيافكم على عواتقكم، ثم تستعرضوا الناس تضربون رقابهم، وتسفكون

1 المراد: سألتموني أن أجيب إليها.

2 رجل نكد "بكسر الكاف وفتحها وسكونها" وأنكد أي عسر، وقوم أنكاد ومناكيد، ولم أر في كتب اللغة جمعه على نكداء.

3 أخفاء: جمع خفيف، والهام: الرءوس، وهو كناية عن قلة العقل.

4 البجر، بالضم والفتح: الشر والأمر العظيم، ويروى حرامًا.

5 منعتكم وحبستكم.

6 العشوة مثلثة: ركوب الأمر على غير بيان، وبالفتح الظلمة، ويقال: أوطأته عشوة، أي غررته وحملته على أن يركب أمرًا غير مستبين الرشد، فربما كان فيه عطبه.

7 دناه وأدناه: قربه.

8 ضلا.

9 همزة الاستفهام مقدرة قبل أن: أي هل اختيار الناس رجلين أحل لكم ذلك؟.

ص: 414

دماءهم؟ إن هذا لهو الخسران المبين، والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟ ".

فتنادوا لا تخاطبوهم ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الرب، الرواح الرواح إلى الجنة، فزحف عليهم علي فأفناهم، وقتل ابن وهب في المعركة، ولم يفلت منهم إلا عشرة "وكان ذلك سنة 37، وقيل سنة 38هـ".

"تاريخ الطبري 6: 47، والإمامة والسياسة 1: 109 ونهج البلاغة 1: 44- 54".

ص: 415

314-

‌ خطبة المستورد بن علفة:

واجتمع بعد وقعة النهروان بالنخيلة جماعة من الخوارج، ممن فارق عبد الله بن وهب، وممن لجأ إلى راية أبي أيوب1، وممن كان أقام بالكوفة فقال: لا أقاتل عليًّا ولا أقاتل معه، فتواصوا فيما بينهم وتعاضدوا وتأسفوا على خذلانهم أصحابهم، فقام منهم قائم يقال له المستورد بن علفة من بني سعد بن زيد مناة، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ثم قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا بالعدل تخفق راياته، معلنًا مقالته، مبلغًا عن ربه، ناصحًا لأمته، حتى قبضه الله مخيرًا مختارًا، ثم قام الصديق، فصدق عن نبيه، وقاتل من ارتد عن دين ربه، وذكر أن الله عز وجل قرن الصلاة بالزكاة، فرأى أن تعطيل إحداهما طعن على الأخرى، لا بل على جميع منازل الدين، ثم

1 وذلك أن الإمام قبل أن يزحف عليهم في وقعة النهروان نصب لهم راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبو أيوب:"من جاء هذه الراية منكم ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن. ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن، وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم".

ص: 415

قبضه الله إليه موفورًا، ثم قام الفاروق ففرق بين الحق والباطل، مسويًّا بين الناس في إعطائه، لا مؤثرًا لأقاربه، ولا محكمًا في دين ربه، وهأنتم تعلمون ما حدث، والله يقول:{وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: من الآية 95] فكل أجاب وبايع1.

"الكامل للمبرد 2: 154".

1 وقد وجه إليهم الإمام علي، عبد الله بن عباس داعيًا فأبوا، فسار إليهم فطحنهم جميعًا لم يفلت منهم إلا خمسة منهم المستورد.

ص: 416

‌خور أصحاب الإمام

‌خطبة عبد الله بن عباس في أهل البصرة

خور أصحاب الإمام وتقاعسهم عن نصرته:

315-

خطبة عبد الله بن عباس في أهل البصرة:

ورأى الإمام علي كرم الله وجهه بعد فشل التحكيم أن يمضي لمناجزة معاوية وأهل الشأم؛ فكتب إلى عبد الله بن عباس -وكان على البصرة- أن يشخص1 إليه من قبله من الناس؛ فأمرهم ابن عباس بالشخوص مع الأحنف بن قيس؛ فشخص معه منهم ألف وخمسمائة رجل، فاستقلهم ابن عباس، فقام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"يا أهل البصرة: قد جاءني كتاب أمير المؤمنين يأمرني بإشخاصكم، فأمرتكم بالمسير إليه مع الأحنف بن قيس؛ فلم يشخص إليه منكم إلا ألف وخمسمائة، وأنتم في الديوان2

1 شخص كمنع شخوصًا: خرج من موضع إلى غيره، وأشخصته أنا.

2 الديوان: الكتاب الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء، وهو فارسي معرب. قال القلقشندي في صبح الأعشى 1: 90 "وقد حكى الماوردي في الأحكام السلطانية في سبب تسميته بذلك وجهين: أحدهما أن كسرى ذات يوم اطلع على كتاب ديوانه في مكان لهم، وهم يحسبون مع أنفسهم فقال "ديوانه" أي مجانين فسمي موضعهم بهذا الاسم ولزمه من حينئذ، ثم حذفت الهاء من آخره لكثرة الاستعمال تخفيفًا فقيل ديوان، والثاني: أن الديوان بالفارسية اسم للشيطان، وسمي الكتاب بذلك لحذقهم بالأمور، ووقوفهم على الجلي منها والخفي" أهـ، ومنه ترى أن الديوان كان يطلق في الفارسية على موضع الكتاب الحاسبين وعلى جماعة الكتاب، وقد أطلق في العربية على جريدة الحساب، ثم أطلق على الحساب، ثم على موضع الحساب،=

ص: 417

ستون ألفًا، سوى أبنائكم وعبدانكم1 ومواليكم، ألا فانفروا2، ولا يجعل امرؤ على نفسه سبيلًا؛ فإني موقع بكل من وجدته تخلف عن دعوته، عاصيًا لإمامه، حزنًا يعقب ندمًا، وقد أمرت أبا الأسود بحشدكم، فلا يلم امرؤ جعل السبيل على نفسه إلا نفسه".

"الإمامة والسياسة 1: 106، تاريخ الطبري 6: 44".

= ثم على طائفة الكتاب، وكان ذلك عهد في عصر الدولة العباسية، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من دون الدواوين في العرب سنة23 أي رتب الجرائد للعمال ورجال الجيش فيها أسماؤهم ومراتبهم في النسب وأرزاقهم "انظر تاريخ الطبري 5: 23".

1 جمع عبد.

2 نفر إلى الشيء: أسرع إليه.

ص: 418

‌خطبة الإمام وقد أراد الانصراف من النهروان

317-

مقال الأشعث بن قيس:

فقام الأشعث بن قيس فقال:

"يا أمير المؤمنين: نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونصلت1 أسنة رماحنا وعاد

= ثم على طائفة الكتاب، وكان ذلك عهد في عصر الدولة العباسية، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من دون الدواوين في العرب سنة23 أي رتب الجرائد للعمال ورجال الجيش فيها أسماؤهم ومراتبهم في النسب وأرزاقهم "انظر تاريخ الطبري 5: 23".

1 سقطت.

ص: 418

أكثرها قصدا1 فارجع بنا إلى مصرنا؛ فلنستعد بأحسن عدتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عددنا مثل من هلك منا؛ فإنه أقوى لنا على عدونا".

فأقبل علي بالناس حتى نزل بالنخيلة2، ثم دخل الكوفة.

"الإمامة والسياسة 1: 110، وتاريخ الطبري 6: 51، ومروج الذهب 2: 38، وشرح ابن أبي الحديد م 1: ص179".

1 رمح قصد، وقصيد، وأقصاد: أي متكسر.

2 وعسكر بها حين نزلها، وأمر الناس أن يلزموا معه معسكرهم، ويوطنوا على الجهاد أنفسهم، وأن يقلوا من زيارة أبنائهم ونسائهم حتى يسيروا إلى عدوهم من أهل الشأم. فجعلوا يتسللون ويدخلون الكوفة، حتى تركوه وما معه إلا نفر من وجوه الناس يسير، وبقي المعسكر خاليًا، فلا من دخل الكوفة خرج إليه، ولا من أقام معه صبر، فلما رأى ذلك دخل الكوفة.

ص: 419

318-

‌ خطبة الإمام بالكوفة بعد قدومه من حرب الخوارج

يستنفر الناس لقتال معاوية:

وخطب الناس بالكوفة بعد قدومه من حرب الخوارج فقال:

"أيها الناس استعدوا لقتال عدوٍّ، في جهادهم القربة إلى الله عز وجل، ودرك الوسيلة عنده، قوم حيارى عن الحق لا يبصرونه، موزعين1 بالجور والظلم لا يعدلون به، جفاة عن الكتاب، نكب2 عن الدين، يعمهون3 في الطغيان ويتسكعون4 في غمرة الضلال، فـ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ 5 الْخَيْلِ} ، {وَتَوَكَّلْوا عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} .

1 أوزعه بالشيء: أغراه فأوزع به بالضم.

2 من نكب عن الطريق: أي عدل ومال.

3 من العمه "محركة": وهو التحير والتردد في الضلال.

4 تسكع: مشى مشيًا متعسفًا، وتحير.

5 اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، فعال بمعنى مفعول أو مصدر سمي به كالمرابطة أو جمع فعيل بمعنى مفعول.

ص: 419

فما نفروا ولا تيسروا؛ فتركهم أيامًا حتى إذا أيس من أن يفعلوا دعا رؤساءهم ووجوههم؛ فسألهم عن رأيهم، وما الذي ينظرهم1، فمنهم المعتل، ومنهم المتكره، وأقلهم من نشط، فقام فيهم خطيبًا فقال:

"شرح ابن أبي الحديد م 1: ص179، والإمامة والسياسة 1: 110، وتاريخ الطبري 6: 51".

1 يؤخرهم.

ص: 420

319-

‌ خطبة له أيضًا في استنفارهم لقتال معاوية:

"عباد الله: ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا في سبيل الله اثاقلتم1 إلى الأرض! أرضيتم بالحياة الدينا من الآخرة بدلًا، وبالذل والهوان من العز خلفًا؟ أوكلما ندبتكم إلى الجهاد دارت أعينكم؛ كأنكم من الموت في سكرة، وكأن قلوبكم مألوسة2 فأنتم لا تعقلون، وكأن أبصاركم كمه3 فأنتم لا تبصرون، لله أنتم! ما أنتم إلا أسود الشرى4 في الدعة5، وثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس! ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي6، ما أنتم بركب يصال بكم، ولا ذي عز يعتصم إليه، لعمر الله لبئس حشاش7 الحرب أنتم، إنكم تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم ولا تتحاشون8، ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، إن أخا الحرب اليقظان ذو العقل، وبات لذل من وادع، وغلب المتخاذلون، والمغلوب مقهور ومسلوب، ثم قال:

1 تثاقلتم.

2 من الألس: كشمس، وهو الجنون واختلاط العقل، ألس "كعني" فهو مألوس.

3 كمه: جمع أكمه من كمه بصره "كفرح" اعترته ظلمة تطمس عليه.

4 الشرى: موضع تنسب إليه الأسد، قيل هو شرى الفرات وناحيته وبه غياض وآجام ومأسدة.

5 أي في وقت الدعة والخفض.

6 يقال: لا آتيك سجيس الليالي: أي أبدًا.

7 جمع حاش اسم فاعل، من حش النار: أي أوقدها.

8 أي ولا تبتعدون عن ذلك وتتلافونه بالدفاع عنها، من حاشية الشيء وهي ناحيته كما تقول تنحى عنه: أي تباعد عنه من الناحية.

ص: 420

"أما بعد: فإن لي عليكم حقًّا، وإن لكم علي حقًّا؛ فأما حقكم علي فالنصيحة لكم ما صحبتكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم؛ فالوفاء بالبيعة والنصح لي في الغيب والمشهد، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم، فإن يرد الله بكم خيرًا تنزعوا عما أكره، وترجعون إلى ما أحب، تنالوا ما تطلبون، وتدركوا ما تأملون".

"تاريخ الطبري 6: 51، الإمامة والسياسة 1: 110".

وروى الشريف الرضي هذه الخطبة في نهج البلاغة بصورة أخرى وهي:

ص: 421

‌صورة أخرى1

‌مدخل

320-

صورة أخرى:

"أفٍ لكم، لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضًا، وبالذل من العز خلفًا؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم؛ كأنكم من الموت في غمرة1، ومن الذهول في سكرة، يرتج2 عليكم حواري فتعمهون! فكأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون! ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، وما أنتم بركن يمال بكم3، ولا زوافر4 عز يفتقر إليكم، ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها؛ فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر، لبئس لعمر الله سعر5 نار الحرب أنتم، تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم فلا تمتعضون6، لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، غلب والله المتخاذلون، وايم الله إني لأظن بكم أن لو حمس7 الوغى،

1 الغمرة: الشدة.

2 يغلق، والحوار: المحاورة.

3 أي يستند إليكم ويمال على العدو بقوتكم.

4 جمع زافرة، والزافرة من البناء: ركنه، ومن الرجل: عشيرته.

5 من سعر النار والحرب: كمنع أوقدها مصدر بمعنى اسم الفاعل، أو هو جمع ساعر، كقولهم: قوم كظم للغيظ جمع كاظم.

6 أي فلا تغضبون.

7 اشتد، وكذا استحر، وأصل الوغى: الصوت والجلبة، ثم سميت الحرب وغى لما فيها من الأصوات والجلبة.

ص: 421

واستحر الموت، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب، انفراج الرأس1، والله إن امرأ يمكن عدوه من نفسه يعرق2 لحمه، ويهثم عظمه، ويفري3 جلده لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره، أنت فكن ذاك إن شئت4 فأما أنا: فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية5 تطير منه فراش6 الهام، وتطيح السواعد والأقدام، ويفعل بعد ذلك ما يشاء.

أيها الناس: إن لي عليكم حقًّا، ولكم علي حق؛ فأما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم".

1 أي انفراجًا لا التئام بعده.

2 عرق العظم عرقًا. أكل ما عليه من اللحم، كتعرقه.

3 يمزق.

4 الخطاب عام لكل من أمكن عدوه من نفسه.

5 السيوف، نسبة إلى مشارف الشام، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف.

6 عظامها الرقيقة.

ص: 422

‌وزاد ابن قتيبة في الإمامة والسياسة:

"والله يأهل العراق، ما أظن هؤلاء القوم من أهل الشأم إلا ظاهرين1 عليكم؛ فقالوا: أبعلم تقول ذلك يا أمير المؤمنين؟ " فقال:

"نعم والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إني أرى أمورهم قد علت، وأرى أموركم قد خبت2، وأراهم جادين في باطلهم، وأراكم وانين3 في حقكم، وأراهم مجتمعين، وأراكم متفرقين، وأراهم لصاحبهم معاوية مطيعين، وأراكم لي عاصين، أما والله لئن ظهروا عليكم بعدي، لتجدنهم أرباب سوء، كأنهم والله عن قريب قد شاركوكم

1 منتصرين.

2 من خبت النار، أي سكنت وانطفأت.

3 من ونى: إذا فتر وضعف.

ص: 422

في بلادكم، وحملوا إلى بلادهم منكم، وكأني أنظر إليكم تكشون1 كشيش الضباب، لا تأخذون لله حقًّا، ولا تمنعون له حرمة، وكأني أنظر إليهم يقتلون صلحاءكم، ويخيفون علماءكم، وكأني أنظر إليكم يحرمونكم ويحجبونكم، ويدنون الناس دونكم؛ فلو قد رأيتم الحرمان، ولقيتم الذل والهوان، ووقع السيف، ونزل الخوف، لندمتم وتحسرتم على تفريطكم في جهاد عدوكم، وتذكرتم ما أنتم فيه من الخفض والعافية، حين لا ينفعكم التذكار".

1 كش الضب كشيشا: صوت.

ص: 423

321-

‌ خطبة أبي أيوب الأنصاري:

ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال:

"إن أمير المؤمنين -أكرمه الله- قد أسمع من كانت له أذن واعية، وقلب حفيظ إن الله قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حق قبولها؛ حيث نزل بين أظهركم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير المسلمين وأفضلهم وسيدهم بعده، يفقهكم في الدين ويدعوكم إلى جهاد المحلين؛ فوالله لكأنكم صم لا تسمعون، وقلوبكم غلف1 مطبوع عليها، فلا تستجيبون. عباد الله أليس إنما عهدكم بالجور والعدوان أمس، وقد شمل العباد وشاع في الإسلام، فذو حتى محروم مشتوم عرضه، ومضروب ظهره، وملطوم وجهه، وموطوء بطنه، وملقى بالعراء2، فلما جاءكم أمير المؤمنين صدع بالحق ونشر العدل، وعمل بالكتاب؛ فاشكروا نعمة الله عليكم، ولا تتولوا مجرمين، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، اشحذوا السيوف، وجددوا آلة الحرب، واستعدوا للجهاد، فإذا دعيتم فأجيبوا، وإذا أمرتم فأطيعوا، تكونوا بذلك من الصادقين".

"الإمامة والسياسة 1: 112".

1 جمع أغلف، وقلب أغلف كأنما غشى غلافًا فهو لا يعي.

2 العراء: الفضاء لا يستتر فيه بشيء.

ص: 423

322-

‌ خطبة الإمام وقد أغار النعمان بن بشير على عين التمر:

وفي سنة 39هـ فرق معاوية جيوشه في أطراف علي؛ فبعث النعمان بن بشير الأنصاري في ألفين، فأتوا عين التمر1 فأغاروا عليها، وبها عامل لعلي في ثلثمائة، فكتب إلى علي يستمده، فأمر الناس أن ينهضوا إليه فتثاقلوا، فصعد المنبر فتشهد ثم قال:

"يأهل الكوفة: كلما سمعتم بمنسر2 من مناسر أهل الشأم أظلكم، انجحر3 كل امرئ منكم في بيته، وأغلق بابه، انجحار الضب في جحره، والضبع في وجارها4، المغرور من غررتموه، ولمن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاء5، إن لله وإنا إليه راجعون! ماذا منيت به منكم؟ عمي لا تبصرون، وبكم لا تنطقون، وصم لا تستمعون! إنا لله وإنا إليه راجعون! ".

"تاريخ الطبري 6: 77".

وروى الشريف الرضي في نهج البلاغة هذه الخطبة بصورة أخرى وهي:

1 بلد على الفرات شمالي الكوفة.

2 المنسر: قطعة من الجيش تمر قدام الجيش الكبير.

3 من انجحر الضب: أي دخل جحره.

4 الوجار بالكسر والفتح: جحر الضبع وغيرها.

5 النجاء: السرعة في السير، نجوت نجاء أي أسرعت وسبقت، وقالوا: النجاء النجاء، والنجا النجا فدوا وقصروا.

ص: 424

323-

صورة أخرى:

منيت1 بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت! لا أبا لكم، ما تنتظرون بنصركم ربكم؟ أما دين يجمعكم، ولا حمية تحمشكم2؟ أقوم فيكم مستصرخًا، وأناديكم متغوثًا3 فلا تسمعون لي قولًا، ولا تطيعون لي أمرًا، حتى تكشف الأمور

1 بليت.

2 تغضبكم.

3 قائلًا واغوثاه.

ص: 424

عن عواقب المساءة؟ فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ بكم مرام؟ دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم1 جرجرة الجمل الأسر2 وتثاقلتم تثاقل النضو3 الأدبر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب4 ضعيف؛ كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون".

"نهج البلاغة 1: 46".

1 الجرجرة: صوت يردده البعير في حنجرته، وأكثر ما يكون ذلك عند الإعياء والتعب.

2 المصاب بداء السرر "بالتحريك"، وهو وجع في الكركرة "رحى زور البعير".

3 النضو: البعير المهزول، والأدبر: المدبور أي المجروح.

4 جنيد: تصغير جند، ومتذائب: أي مضطرب من قولهم: تذاءت الريح، أي اضطرب هبوبها، ومنه سمي الذئب ذئبًا لاضطراب مشيته.

ص: 425

324-

‌ خطبة الإمام وقد أغار الضحاك بن قيس على الحيرة

1:

ووجه معاوية الضحاك بن قيس فأغار على الحيرة وغنم أموال أهلها، وبلغ ذلك عليًًّا فاستصرخ الناس، فتقاعدوا عنه، فقام فيهم خطيبًا فقال:

"أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم2 الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء، تقولون في المجالس كيت وكيت3؛ فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد4، ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل5، دفاع ذي الدين المطول6، هيهات لا يمنع الضيم الذليل، ولا يدرك

1 شمالي الكوفة.

2 يوهي: يشق ويخرق، والصم: جمع أصم، وهو الحجر الصلب المصمت.

3 بفتح آخرهما ويكسر: أي كذا كذا.

4 حيدي حياد: كلمة يقولها الهارب الفار، من حاد حيدانًا بمعنى مال وانحرف، أي ابعدي وتنحي عني أيتها الحرب، وهي نظيرة قولهم "فيحى فياح" أي اتسعي.

5 الأضاليل: جمع أضلولة بالضم، وهي الضلال، وفي كتب اللغة: العلالة ""بالضم" والتعلة "كتحية"، والعلة "بالفتح" ما يتعلل به"، ولم أجد فيها كلمة أعاليل ولا مفردها ولا بد أن تكون جمع أعلولة بالضم: كأضاليل وأعاجيب وألاعيب

إلخ. والمعنى إن أقوالكم هذه تعلل بأباطيل لا جدوى لها.

6 مبالغة في ماطل.

ص: 425

الحق إلا بالجد، أي دار بعد داركم تمنعون؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم؛ فقد فاز والله بالسهم الأخيب، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل1، وأصبحت والله لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد العدو بكم، ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبكم؟ القوم رجال أمثالكم! أقولًا بغير علم، وغفلة من غير ورع، وطمعًا في غير حق! ".

وزاد ابن قتيبة في الإمامة والسياسة:

"فرق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من خير لي منكم، وأعقبكم بعدي من شر لكم مني، أما إنكم ستلقون بعدي ذلًّا شاملًا، وسيفًا قاتلًا، وأثرة يتخذها الظالمون بعدي فيكم سنة، تفرق جماعتكم، وتبكي عيونكم، وتدخل الفقر بيوتكم، تمنون والله عندها أن لو رأيتموني ونصرتموني، وستعرفون ما أقول لكم عما قليل.

استنفرتكم فلم تنفروا! ونصحت لكم فلم تقبلوا! وأسمعتكم فلم تعوا؛ فأنتم شهود كأغياب، وصم ذوو أسماع، أتلو عليكم الحكمة، وأعظكم بالموعظة النافعة، وأحثكم على جهاد المحلين2، الظلمة الباغين؛ فما آتي على آخر قولي، حتى أراكم متفرقين، وإذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقًا3 عزين4، تضربون الأمثال، وتناشدون الأشعار، تربت5 أيديكم، وقد نسيتم الحرب واستعدادها، وأصبحت قلوبكم فارغة عن ذكرها، وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل".

"نهج البلاغة 1: 39، والإمامة والسياسة 2: 111، والبيان والتبيين 2: 26".

1 سهم أفوق مكسور الفوق "بضم الفاء" والفوق: مدخل الوتر من السهم، والناصل: العاري عن النصل.

2 أي الذين خرجوا على إمامهم واستحلوا قتاله.

3 الحلق: محركة جمع حلقة "بسكون اللام" وحلقة القوم: الذين يجتمعون مستديرين.

4 جمع عزة "بالكسر": وهي الطائفة من الناس.

5 دعاء عليهم: أي خسرتم ولا أصبتم خيرًا، وأصله من ترب الرجل: أي افتقر كأنه لصق بالتراب.

ص: 426

325-

‌ خطبة الإمام:

وقد أغار سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار.

ووجه معاوية سفيان بن عوف الغامدي في جيش، فأغاروا على الأنبار1 وقتلوا عامل علي عليها وهو حسان بن حسان البكري، واحتملوا ما كان في الأنبار من الأموال وأموال أهلها، وانتهى الخبر إلى علي فخرج مغضبًا حتى أتى النخيلة، واتبعه الناس فرقي رباوة2 من الأرض؛ فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال:

"أما بعد: فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته3 الوثيقة؛ فمن تركه رغبة عنه، ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وديث4 بالصغار والقماءة5، وضرب على قلبه بالإسهاب6، وأديل7 الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف8، ومنع النصف9، ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلًا ونهارًا، وسرًّا وإعلانًا، وقلت لكم اغزوهم من قبل أن يغزوكم؛ فوالله ما غزي قوم قط في عقر10 دارهم إلا ذلوا؛ فتخاذلتم

1 بلد على الفرات.

2 الربوة والرباوة مثلثتين: ما ارتفع من الأرض.

3 وقايته

4 ذلل، وأصله من داث الشيء من باب باع: لان وسهل ومنه الديوث، وهو الرجل الذي لا غيرة له على أهله، والصغار: الذل.

5 قمأ: كجمع وكرم، قماءة: ذل وصغر.

6 هكذا في رواية ابن أبي الحديد، من أسهب بالضم: أي ذهب عقله، وفي نهج البلاغة:"طبع الشام" بالأسداد.

7 من أداله الله من عدوه: أي نصره عليه، والباء في قوله "بتضييع الجهاد" للسببية.

8 أي أولي الذل والضيم، وفي رواية المبرد "وسيمي الخسف" بالإضافة، والسيمي: العلامة. قال المبرد: هكذا حدثونا وأظنه سيم الخسف، من قول الله عز وجل:{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} .

9 النصف بالكسر ويثلث، والنصف والنصفة محركين الإنصاف.

10 وسطها وأصلها.

ص: 427

وتواكلتم وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهريًّا؛ حتى شنت1 عليكم الغارات، وملكت عليكم الأوطان، هذا أخو غامد2 قد وردت خيله الأنبار، وقتل حسان بن حسان البكري، ورجالًا منهم كثيرًا ونساء، وأزال خيلكم عن مسالحها3.

والذي نفسي بيده، لقد بلغني أنه كان يدخل على المرآة المسلمة، والأخرى المعاهدة4، فينتزع حجلها5 وقلبها6، وقلائدها ورعثها7، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع8 والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين9، ما نال رجلًا منهم كلم10، ولا أريق لهم دم؛ فلو أن امرأ مسلمًا مات من دون هذا أسفًا، ما كان عندي فيه ملومًا؛ بل كان به عندي جديرًا.

يا عجبًا كل العجب! عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان! من تضافر11 هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقكم، حتى أصبحتم غرضًا12 ترمون ولا ترمون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله عز وجل فيكم وترضون: إذا قلت لكم اغزوهم في الشتاء؛ قلتم هذا أوان قر13 وصر، وإن قلت لكم اغزوهم

1 شن الغارة عليهم: صبها من كل وجه، من شن الماء على رأسه إذا صبه.

2 يريد سفيان بن عوف الغامدي قائد الحملة على الأنبار.

3 جمع مسلحة بالفتح: وهي الثغر.

4 المعاهدة: ذات العهد، وهي الذمية.

5 الحجل بالفتح: الخلخال، وسمي القيد حجلًا؛ لأنه يكون مكان الخلخال.

6 القلب: سوار المرأة.

7 الرعثة بالفتح: القرط، والجمع رعاث بالكسر، وجمع الجمع رعث بضمتين.

8 قول: إنا لله وإنا إليه راجعون.

9 أي تامين، وفي رواية المبرد:"موفورين" أي لم ينل أحدًا منهم بأن يرزأ في بدن ولا مال.

10 جرح.

11 تعاون وتناصر.

12 وفي رواية نهج البلاغة: "فقبحًا لكم وترحا حين صرتم غرضًا يرمى" وزادت رواية الجاحظ بعد ذلك: "وفيئًا ينهب" والترح: محركة الهم، والغرض: الهدف.

13 القر مثلثة القاف: البرد، والصر: شدة البرد. وفي النهج: "وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء؛ قلتم هذه صبارة القر، أمهلنا: ينسلخ عنا البرد" وصبارة الشتاء بتشديد الراء: شدة برده.

ص: 428

في الصيف، قلتم حمارة1 القيظ، أنظرنا2 ينصرم الحر عنا؛ فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون؛ فأنتم والله من السيف أفر! يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا طغام3 الأحلام! ويا عقول ربات الحجال4، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرت ندمًا، وأعقبت سدمًا5! قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحًا6، وشحنتم صدري غيظًا، وجرعتموني نغب التهام أنفاسًا7، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان؛ حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا رأي له في الحرب! لله درهم8! ومن ذا يكون أعلم بها مني، أو أشد لها مراسًا؟ فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ولقد نيفت9 اليوم على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع "يقولها ثلاثًا".

فقام إليه رجل ومعه أخوه10 فقال:

"يا أمير المؤمنين أنا وأخي هذا، كما قال الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي

1 شدة الحر.

2 أي أمهلنا حتى ينسلخ الحر، وفي رواية النهج "أمهلنا يسبخ عنا الحر" بتشديد الباء المفتوحة: أي يخف ويسكن، وكل من خفف عنه شيء فقد سبخ عنه، ومنه قولهم: اللهم سبخ عني الحمى: أي خففها.

3 أوغاد الناس ومن لا عقل له ولا معرفة عنده. والأحلام العقول: جمع حلم بالكسر، ويجمع أيضًا على حلوم، وفي رواية النهج:"حلوم الأطفال".

4 الحجال: جمع حجلة بالتحريك، وهي القبة، وموضع يزين بالستور والثياب للعروس -كناية عن النساء.

5 السدم: الهم، أو مع ندم، أو غيظ مع حزن.

6 القيح: ما يكون في القرحة من صديدها، وشحنتم: ملأتم، وفي رواية الكامل:"ولقد ملأتم جوفي غيظًا".

7 النغب: جمع نغبة بالفتح والضم، وهي الجرعة، والتهمام: الهم، وأنفاسًا أي جرعة بعد جرعة، يقال: اكرع في الإناء نفسين أو ثلاثة.

8 لله دره: أي عمله، والدر أيضًا: اللبن، أي لله الثدي الذي رضعه، وهو تعجب أريد به التهكم، وفي رواية النهج:"لله أبوهم"!

9 نيفت: زدت ورواية النهج: "وهأنذا قد ذرفت على الستين" أي زدت أيضًا.

10 الرجل وأخوه: يعرفان بابني عفيف من الأنصار.

ص: 429

وَأََخِي} فمرنا بأمرك؛ فوالله لننتهين إليه، ولو حال بيننا وبينه جمر الغضا1، وشوك القتاد2" فدعا لهما بخير، ثم قال لهما: "وأين تقعان مما أريد؟ " ثم نزل.

"نهج البلاغة 1: 35، الكامل للمبرد 1: 11، البيان والتبيين 2: 25، والأغاني 15: 43".

1 شجر جمره يبقى طويلًا.

2 شجر صلب له شوك كالإبر.

ص: 430

‌خطبة الحسن بن علي في يوم جمعة

326-

خطبة للحسن بن علي في يوم جمعة:

اعتل الإمام علي كرم الله وجهه يومًا، فأمر ابنه الحسن رضي الله عنه أن يصلي بالناس يوم الجمعة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"إن الله لم يبعث نبيًّا إلا اختار له نفسًا ورهطًا وبيتًا، فوالذي بعث محمدًا بالحق، لا ينتقص من حقنا أهل البيت أحد، إلا نقصه الله من عمله مثله، ولا يكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة، ولتعلمن نبأه بعد حين".

"مروج الذهب 2: 53".

ص: 430

"أما بعد: فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان، وقطعت إحدهما يوم صفين "يعني عمار بن ياسر"، وقطعت الأخرى اليوم "يعني الأشتر" ".

"تاريخ الطبري 6: 54".

= إلى القلزم استقبله الجايستار، فقال: هذا منزل وهذا طعام وعلف، وأنا رجل من أهل الخراج، فنزل به الأشتر، وسأل الدهقان: أي الطعام والشراب أحب إليه؟ قيل العسل، فأهدى له عسلًا قد جعل فيه سما وقال: إن من شأنه كذا وكذا، فتناول منه شربة، فما استقرت في جوفه حتى تلف، وأتى من كان معه على الدهقان ومن معه، فبلغ ذلك عليًا، فقال:"لليدين والفم" وبلغ معاوية، فقال:"إن لله جنودًا منها العسل".

ص: 431

327-

‌ خطبة معاوية وقد بلغه هلاك الأشتر:

ولما نمى إلى معاوية هلاك الأشتر النخعي1، قام في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:

1 هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي توفي سنة 38هـ. روى المؤرخون أنه مات مسمومًا سمه معاوية، وذلك أن الإمام عليا كان قد ولى على مصر محمد بن أبي بكر ففسدت عليه، وخرجت عليه بها خوارج، فبعث إليها الأشتر وأتت معاوية عيونه فأخبروه بولاية الأشتر، فعظم ذلك عليه، وقد كان طمع في مصر، فعلم أنه إن قدمها كان أشد عليه من بن أبي بكر، فبعث إلى الجايستار "رجل من أهل الخراج"، فقال له: إن الأشتر قد ولي مصر، فإن أنت كفيتنيه لم آخذ منك خراجًا ما بقيت، "وقيل قال له أترك خراجك عشرين سنة" فاحتل له بما قدرت عليه، وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهى=

ص: 327