الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثانية: إن أبي عظيم الخطر، منيع الوزر1، عزيز النفر، يحمد منه الورد والصدر؛ فقالت الثالثة: إن أبي صدوق اللسان، حديد الجنان، رذوم2 الجفان، كثير الأعوان، يروي السنان، عند الطعان، قالت الرابعة: إن أبي كريم النزال، منيف المقال، كثير النوال، قليل السؤال، كريم الفعال.
ثم تنافرت إلى كاهنة معهن في الحي؛ فقلن لها: اسمعي ما قلنا، واحكمي بيننا واعدلي، ثم أعدن عليها قولهن؛ فقالت لهن: "كل واحدة منكن ماردة3، بأبيها واجدة4، على الإحسان جاهدة، لصواحباتها حاسدة؛ ولكن اسمعن قولي: خير النساء المبقية على بعلها، الصابرة على الضراء مخافة أن ترجع إل أهلها مطلقة؛ فهي تؤثر حظ زوجها على حظ نفسها؛ فتلك الكريمة الكاملة، وخير الرجال الجواد البطل، القليل الفشل، إذا سأله الرجل، ألفاه قليل العلل، كثير النفل5، ثم قالت: كل واحدة منكن بأبيها معجبة.
"مجمع الأمثال 2: 54 وجمهرة الأمثال 2:133".
1 الوزر: الملجأ.
2 الرذوم: القصعة الممتلئة تتصبب جوانبها.
3 أي قد بلغت الغاية.
4 وجد به "بالكسر" أحبه.
5 النفل: الهبة.
72-
عفيراء الكاهنة تعبر رؤيا مرثد بن عبد كلال:
روي أن مرثد بن عبد كلال قفل من غزاة غزاها بغنائم عظيمة؛ فوفد عليه زعماء العرب وشعراؤها وخطباؤها يهنئونه؛ فرفع الحجاب عن الوافدين، وأوسعهم عطاء، واشتد سروره بهم؛ فبينما هو كذلك إذ نام يومًا فرأى رؤيا في المنام أخافته وأذعرته وهالته في حال منامه؛ فلما انتبه أنسيها حتى لم يذكر منها شيئًا، وثبت ارتياعه في نفسه بها؛ فانقلب سروره حزنًا، واحتجب عن الوفود حتى أساءوا به الظن، ثم إنه حشر الكهان فجعل يخلو بكاهن كاهن، ثم يقول له: أخبرني عما أريد أن أسألك عنه،
فيجيبه الكاهن بأن لا علم عندي، حتى لم يدع كاهنًا عليه إلا كان إليه منه ذلك؛ فتضاعف قلقه، وطال أرقه، وكانت أمه قد تكهنت؛ فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك، إن الكواهن أهدى إلى ما تسأل عنه؛ لأن أتباع الكواهن من الجان، ألطف وأظرف من أتباع الكهان؛ فأمر بحشر الكواهن إليه، وسألهن كما سأل الكهان، فلم يجد عند واحدة منهن علمًا مما أراد علمه، ولما يئس من طلبته سلا عنها، ثم إنه بعد ذلك ذهب يتصيد، فأوغل في طلب الصيد، وانفرد عن أصحابه؛ فرفعت له أبيات من ذرا1 جبل، وكان قد لفحه الهجير؛ فعدل إلى الأبيات، وقصد بيتًا منها كان منفردًا عنها؛ فبرزت إليه منه عجوز؛ فقالت له: انزل بالرحب والسعة، والأمن والدعة، والجفنة المدعدعة2، والعلبة المترعة3، فنزل عن جواده، ودخل البيت؛ فلما احتجت عن الشمس، وحفقت عليه الأرواح4، نام فلم يستيقظ حتى تصرم الهجير؛ فجلس يمسح عينه؛ فإذا هو بين يديه فتاة لم ير مثلها قوامًا ولا جمالًا؛ فقالت:"أبيت اللعن أيها الملك الهمام! هل لك في الطعام؟ " فاشتد إشفاقه وخاف على نفسه لما رأى أنها عرفته، وتصام عن كلمتها؛ فقالت له:"لا حذر، فداك البشر، فجدك الأكبر، وحظنا بك الأوفر". ثم قربت إليه ثريدًا وقد يدًا وحيسًا5، وقامت تذب عنه، حتى انتهى أكله، ثم سقته لبنًا صريفًا وضريبًا6؛ فشرب ما شاء، وجعل يتأملها مقبلة ومدبرة؛ فملأت عينيه حسنًا، وقلبه هوى، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي عفيراء، فقال لها: يا عفيراء، من الذي دعوته بالملك الهمام؟ قالت:"مرثد العظيم الشأن، حاش الكواهن والكهان، لمعضلة بعد عنها الجان"، فقال يا عفيراء:
1 أي في كنفه وستره.
2 الجفنة: القصعة، والمدعدعة: التي ملئت بقوة ثم حركت حتى تراص ما فيها، ثم ملئت بعد ذلك.
3 العلبة: قدح ضخم من جلود الإبل أو من خشب يحلب فيها، والمترعة: المملوءة.
4 الأرواح، وللرياح جمع ريح.
5 القديد: اللحم المقددة، أو ما قطع منه طولًا، ولا حيس: تمر يخلط بسمن وأقط، فيعجن شديدًا ثم يندر منه نواه "والأقط شيء يتخذ من المخيض الغنمي".
6 الصريف: اللبن ساعة حلب، والضريب: اللبن يحلب من عدة لقاح في إناء.
أتعلمين تلك المعضلة؟ قالت: "أجل أيها الملك، إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث1 أحلام". قالت الملك: أصبت يا عفيراء، فما تلك الرؤيا؟ قالت:"رأيت أعاصير2 زابع بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع، وسمعت فيما أنت سامع، دعاء ذي جرس3 صادع: هلموا إلى الشارع4، فروي جارع5، وغرق كارع6" فقال الملك: أجل، هذه رؤياي؛ فما تأويلها يا عفيراء؟ قالت:"الأعاصير الزوابع، ملوك تبابع7، والنهر علم واسع، والداعي نبي شافع، والجارع ولي تابع، والكارع عدو منازع". فقال الملك: يا عفيراء، أسلم هذا النبي أم حرب؟ فقالت:"أقسم برافع السماء ومنزل الماء من القماء8، إنه لمطل الدماء9، ومنطق العقائل نطق الإماء10". فقال الملك: إلام يدعو يا عفيراء؟ قالت: "إلى صلاة وصيام، وصلة أرحام، وكسر أصنام: وتعطيل أزلام11، واجتناب آثام" فقال الملك:
1 أضغاث أحلام: رؤيا لا يصح تأويلها لاختلاطها.
2 الأعاصير جمع إعصار وهو الربح التي تهب من الأرض كالعمود نحو السماء، أو التي فيها العصار بالكسر وهو الغبار الشديد.
3 الجرس: الصوت.
4 المشارع جمع مشرعة وهي مورد الشاربة.
5 جارع: فاعل من جرع الماء كسمع ومنع إذا بلعه.
6 كارع فاعل من كرع في الماء كسمع ومنع تناوله بغية من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء.
7 التبايع جمع تبع كسكر: ملوك اليمن.
8 العماء: السحاب الكثيف.
9 انظر قوله عليه الصلاة والسلام في خطبته في حجة الوداع "وإن دماء الجاهلية موضوعة".
10 العقائل: كرائم النساء جمع عقيلة، والنطق جمع نطاق ككتاب النطاق والمنطقة: ما تشد به المرأة وسطها للمهنة، ونطقها تنطيقًا: ألبسها النطاق فتنطقت وانتطقت ومنطق النساء أي يسبيهن فيشددن النطق على أوساطهن للخدمة كالإماء.
11 الأزلام جمع زلم كسبب قداح كان العرب يستقسمون بها في الجاهلية "أي يطلبون معرفة ما قسم لهم" وذلك أنهم كانوا إذا قصدوا فعلًا من تجارة أو سفر أجالوا ثلاثة قداح "للقداح جمع قداح بالكسر وهو السهم قبل أن يراش" وكانت عند أصنامهم، أحدها مكتوب عليه: أمرني ربي، والثاني: نهاني ربي، والثالث: غفل؛ فإن خرج الأول مضوا في الأمر، أو الثاني أحجموا عنه، أو الثالث أجالوها ثانية حتى يخرج أحد الأولين.
يا غفيراء، إذا ذبح قومه فمن أعضاده1؟ قالت: أعضاده غطاريف2 يمانون، طائرهم به ميمون، يغزيهم فيغزون، ويدمث3 بهم الحزون وإلى نصره يعتزون". فأطرق الملك يؤامر4 نفسه في خطبتها، فقالت: "أبيت اللعن أيها الملك! إن تابعي غيور، ولأمري صبور، وناكحي مثبور، والكلف بي ثبور5". فنهض الملك وجال في صهوة6 جواده، وانطلق، فبعث إليها بمائة ناقة كوماء7.
"بلوغ الأرب 3: 296".
1 الأعضاد: الأنصار جمع عضد، والذبح معروف، والمراد هنا إذا قطعوه وتركوا نصرته.
2 الغطاريف جمع غطريف وهو السيد الشريف.
3 يسهل، والحزون جمع حزن كشمس وهو ما غلط من الأرض.
4 يشاور.
5 الثبور: الهلاك.
6 الصهوة: مقعد الفارس من ظهر فرسه.
7 الكوماء: الناقة العظيمة السنام.