الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بشار بن برد: حياته وشعره
(1)
مقدمة:
جلَّ الذي جعل الفصاحةَ وقفًا على لغة العرب، وسخرها للمولعين فأنطق بها الألسنةَ من كل حدب، حتى رفع رايتَها المجلي والتالي، وتزامل في اقتعاد صهوتها الصميمُ والأحلاف والموالي، سابقين بها إلى غايات، آتين في سبقهم ببدائع الآيات. وهي بمراسها تُكسب سائسها السبق، وتسيغ من حلق صادحها الشَّرَق. فتراها يهدر بشقشقتها المهرِيُّ والهجين، وينطبع باسمها الذهب واللُّجين. فإذا حيَّةُ النوبِيُّ (2)
(1) هذه الدراسة قدم بها المصنف بين يدي تحقيقه لديوان بشار، وقد استغرقت مائةً وثلاثة عشرة صفحة من القطع المتوسط. وهي في الأصل بدون عنوان جامع، وقد رأينا العنوان الذي وضعناه لها واف في التعبير عن غرضها. ديوان بشار بن برد، جمع وتحقيق وشرح فضيلة العلامة سماحة الأستاذ الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (القاهرة: دار السلام، ط 1، 1429/ 2008، تصوير عن طبعة الشركة التونسية للتوزيع بتونس والشركة الوطنية للنشر والتوزيع بالجزائر سنة 1976 م)، ج 1/ 1، ص 8 - 120. وقد اعتمدنا في ضبط نصها على طبعة الجزء الأول بمصر الصادرة سنة 1950 م، حيث تبين لنا فيها زياداتٌ على الطبعة التونسية.
(2)
حية النوبي هو سحيم، كان مولى لجندل بن مَعبَد من بني الحسحاس بن نفاثة بن سعد، من بني أسد، ولذلك نسب حية إلى قبيلة مولاه فقيل: عبد بني الحسحاس. قال عنه أبو بكر الهذلي: "وكان عبدًا حبشيًّا أعجم اللسان ينشد الشعر، ثم يقول: أهْسَنْكُ، والله يريد: أحسنتُ". كان سحيم شاعرًا فصيحًا، من المخضرمين، ولم تكن له صحبة. قيل قتل بسبب تشبيبه بنساء مواليه. ومن شعره في المعنى الذي أشار إليه المصنف قوله:
أَشْعَارُ عَبْدِ بَنِي الْحَسْحَاسِ قُمْنَ لَهُ
…
عِنْدَ الْفَخَارِ مَقَامَ الأَصْلِ وَالْوَرِقِ
إِنْ كُنْتُ عَبْدًا فَنَفْسِي حُرَّةٌ كَرَمًا
…
أَوْ أَسْوَدَ اللَّوْنِ إِنِّي أَبْيَضُ الخُلُقِ
البكري الأونبي، الوزير أبو عبيد: سمط اللآلي، تحقيق عبد العزيز الميمني (القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1354/ 1936)، ج 1، ص 721؛ الصفدي، صلاح الدين خليل =
يَخْطُرُ بين بني أسد بالشعر الجزل، وإذا بشار فارسيُّ الأصل يصفه بنو عُقيل بالقرم والفحل، وإذا خلفاء الأمة العربية وأُمراؤها يرفعون على أرائكهم من ترقرق بشعره ماءُ الفصاحة ورواؤها. وما تلك إلا منقبةٌ من مناقبها، تشَرِّف بينهم من قصَّر به جِذمُه، وتشهد بأن قيمة المرء عندهم نفسُه وعلمه. حتى قال قائلُهم:"إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها"(1)، وحتى شهدت لهم بتقدير قدر الكمال الدنيا بملء فيها.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد القائل: "إنما المرء بأصغريه"(2)، صلاةً وسلامًا ينطق بهما المسلم بملء شدقيه، ويعمان صحبَه وآله ومَنِ انتمى إليه.
= ابن أيبك: الوافي بالوفيات، تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1420/ 2000)، ج 15، ص 76؛ ديوان سحيم عبد بني الحسحاس، تحقيق عبد العزيز الميمني (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، 1369/ 1950)، ص 5 - 6 وص 55.
(1)
روى ابن قتيبة: "نظر معاوية [بن أبي سفيان] إلى النخَّار العذري الناسب في عباءة فازدراه في عباءة، فقال: يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك مَن فيها". الدينوري، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: عيون الأخبار (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، ط 2، 1996)، ج 1، ص 297. وعبارة "في عباءة" الواردة بعد قوله:"فازدراه" وردت هكذا في الأصل، ويبدو أنها زيادة.
(2)
بهذا اللفظ أورده العجلوني، وقال:"أي بلسانه وقلبه. قال النجم: ذكره السيوطي في مختصر النهاية من زياداته عليها، ونقل تفسيره المذكور عن الفارسي وابن الجوزي". العجلوني، إسماعيل بن محمد: كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس (القاهرة: مكتبة القدسي، 1351 هـ)، الحديث 2507، ج 2، ص 296. والصواب أنه ليس بحديث، وإنما هو قولة لشقة بن ضمرة بن جابر النهشلي قالها حين مثل بين يدي المنذر بن ماء السماء لأمر طلبه فيه فجرت مثلًا، قال المفضل الضبي: "وأرسل المنذر إلى الغِلمة (أي الغلام) وقد مات ضَمرة، وكان ضمرة صديقًا له (يعني للمنذر)، فلما دخل عليه الغلِمةُ [يعني شقة بن ضمرة] وكان يسمع بشقة ويُعجبه ما يبلغه عنه، فلما رآه المنذر قال: تسمع بالمُعَيْدِيِّ خير من أن تراه [ازدراءً له لما رأى من قصر قامته]، فأرسلها مثلًا. . . قال له شقة: أسعدك إلهُك، إن القوم ليسُوا بجُزْر، يعني الشاء، إنما المرءُ بأصغريه بقلبه ولسانه. فأعجب الملك [المنذر] كلامُه، وسره ما رأى منه، فسماه ضمرة باسم أبيه فهو ضمرة ابن ضمرة، وذهب قوله: إنما يعيش الرجل بأصغريه، مثلًا". الضبي، المفضل: أمثال العرب ويليها أسرار الحكماء لياقوت المستعصمي (القسطنطينية: مطبعة الجوائب، ط 1، 1300 هـ)، ص 9. وانظر: الميداني: مجمع الأمثال، ج 1، ص 131.
أما بعد، فليس بخافٍ على أحد ممن زاول أدب اللغة العربية مزاولة مغرم، ما يجده الأديب من الحسرة على نَزارَة ما بين يديه من شعر بشار بن برد، ذلك الشاعر القرم الذي هو فاتح باب شعر المولَّدين وخاتم عصر الشعراء المتقدمين، وذلك الشعر الذي هو مظهر من مظاهر تحول الشعر العربي من طور إلى طور، والذي يعد بحقٍّ واسطةَ عقدين تضم حواليهما سِمطَي الشعر القديم والشعر الجديد. ويزيده كَلَفًا به وتعطشًا إليه ما يُرى من تَهَمُّمِ أئمة البلاغة لالتقاطه، بعد انفصام عقده وانفراطه.
من أجل ذلك لم يزل ولا يزال المتأدبون يشدون بما تناله أيديهم من شعره، فيزينون به مدوَّنَاتِهم، ويرصعون بفرائده مجموعاتهم. فما خلا غرضٌ من أغراض الشعر إلا وضعوا على رأس مباحثه تاجًا من فرائد بشار، ثم تراهم يتساقطون على التقاط جواهره تساقطَ الطير حيث يُلتقط الحب، سواء في ذلك الحكيم والبليغ والخليع وصريع الحب. وكأنك لا يغيب عنك تلهفُهم على ما تلاشى منه، وتبجحُهم بما يحصلونه تبجحًا له كنه.
وإذ كنت قد حظيت باقتناء جزء ضخم من ديوانه، أحببت أن أعلق عليه شرحًا يقرب للمجتني بعضَ معانيه ونكته؛ لأني رأيتُ شعرَه مفعمًا بخصائص اللغة العربية ونكت بلاغتها، ومحتاجًا إلى بيان ما فيه من غريبها، فعلقت عليه هذا الشرح متوسطًا بين التطويل والاختصار، بينتُ فيه غريبَ لغته وخفيَّ معانيه، ونكت بلاغته وأدبه، وما يشير إليه من عادات العرب وتاريخهم وعادات عصره وتاريخ الرجال والحوادث التي تضمنها شعره بالصراحة أو الإشارة.
وخصصت الاستعمال العربي الفصيح بالبيان، وذكرت في طالع كل قصيدة الغرض أو الحادثة التي قيلت فيها مما ذكره علماء الأدب والتاريخ مع زيادة بيان لما أهملوه، واصطلحت على أن غرض القصيدة إذا كان مذكورًا في أصل الديوان أضعه في الشرح بين هلالين، وإذا لم يكن مذكورًا وذكرته أنا لم أضعه بين الهلالين، ليعلم المطلع أن تعيين الغرض مروِيٌّ في كتب الأدب أو مستخرجٌ من القصيدة نفسها.