الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النابغة الذبياني وشعره
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد،
فلئن كان شعرُ النابغة محطًّا لهمم أئمة اللغة والأدب، لقد كان جمعُه بمنأى عن متعارَف جهودهم. إن شعره بالمنزلة العليا فصاحةَ لفظ، وبلاغةَ تركيب، وشرفَ معنى، وتباعدًا عن الضرورات وعن ضعف التأليف. وإنَّ فيه لَوصفَ أحوالٍ كثيرة من أحوال العرب، وعاداتهم، وديارهم، وأيامهم، وحياة عامتهم وملوكهم، مما خلا عنه شعرُ غيره مِمَّنْ سبقه وعاصره. فشعرُ النابغة مَوْلَجٌ للذين يهمهم الاطلاعُ على شؤون العرب في آخر عصر الجاهلية؛ إذ كان النابغةُ مرجعَ فصاحتهم، وموئلَ ذوي الحاجات منهم، لما له من الوهاجة لدى ملوك العرب وسادتهم؛ لأنه كان صاحبَ الرأي فيهم. فكان واسطةً لديهم في شؤون خطيرة لقومه وجيرتهم، وقد تغلغل في منازل ملوك غسان بالشام، وملوك اللخميين بالحيرة.
وكان الشأنُ أن يتوفَّر اهتمامُ أئمةِ الأدب الأقدمين بجمع ما يُروَى من شعر النابغة، كدأبهم في شعر نظرائه، ولا سيما وهو أقربُ عصرًا إليهم من كثيرٍ من شعراء الجاهلية الذين جُمعت دواوينُهم.
(1) ديوان النابغة الذبياني، جمع وتحقيق وشرح الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (تونس: دار سحنون/ القاهرة: دار السلام، ط 1، 1430/ 2009، مصور عن نشرة الشركة التونسية للتوزيع، بدون تاريخ)، ص 5 - 23.
ورد ذكرُ ديوان النابغة من رواية الأصمعي في فهرست ابن النديم، وورد في "الفهرست" أيضًا أن أبا سعيد السكري (الحسن بن الحسين المتوفى سنة 275 هـ) عمل شعر النابغة (1). غير أن هذين الجمعين خفتَ ذكرُهما، فلا نعرف ديوانَ النابغة مجموعًا إلا في ضمن ديوان الشعراء الستة: امرئ القيس، وعلقمة بن عبدة، وزهير، والنابغة، وطرفة، وعنترة، منسوبًا ما فيه من شعر النابغة إلى رواية الأصمعي، وفي آخره سبع قصائدُ ألحقت به، قال مَنْ ألحقها: إنها من غير رواية الأصمعي (2). وهذا الديوانُ يوجد في مجموعٍ بالمكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة بتونس، عدد 4609، ومجموع عدد 4194.
ويوجد شرحٌ لشعر النابغة يشرح غريبَ لغته، وأكثر روايته في تفسير مفرداته عن الأصمعي وأبي عبيدة وأبي عمرو. قال في بعض المواضع:"حدثنا أبو عبيدة". وتكرر في هذا الشرح أن يقول: "قال أبو جعفر"، فيظهر أن ذلك قولُ الشارح، وأن كنية الشارح أبو جعفر. ورأيتُ في "خزانة الأدب" للبغدادي في شرح الشاهد 225
(1) ابن النديم: الفهرست، نشرة بعناية إبراهيم رمضان (بيروت: دار المعرفة، ط 2، 1417/ 1997)، ص 191.
(2)
وقد جمع دواوين الشعراء الستة المذكورين الأديب الأندلسي الأعلم الشمنتري (410 - 476 هـ) تحت عنوان "أشعار الشعراء الستة الجاهليين"، ورتبهم على النحو التالي: امرؤ القيس، علقمة بن عبدة، النابغة الذبياني، زهير بن أبي سلمى، طرفة بن العبد، عنترة. والصحيح أن الأعلم نفسه هو من ذكر - حسب النشرة التي بين يدي لكتابه - أن ما ضمنه اختياراتِه من شعر النابغة ليس كله من رواية الأصمعي، فقد قال في نهاية شرحه للقصيدة التي يرثي فيها النابغةُ النعمانَ بن الحارث بن أبي شمر الغساني:"كمل جميع ما رواه الأصمعيُّ من شعر النابغة، ونصل به قصائدَ متخيَّرة مما رواه غيرُ الأصمعيِّ إن شاء الله تعالى". الأعلم الشمنتري، يوسف بن سليمان بن عيسى: أشعار الشعراء الستة الجاهليين (بيروت: منشورات دار الآفاق الجديدة، ط 3، 1403/ 1983)، ج 1، ص 246. يقول الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم بخصوص رواية شعر النابغة:"أما شعرُه فقد رُوي من عدة طرقٍ أشهرُها روايةُ عبد الملك بن قريب الأصمعي، ذُكرت في الديوان المعروف بدواوين الشعراء الستة الجاهليين". ديوان النابغة الذبياني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف، ط 2، 1985)، ص 6.
(ص 235 جزء 3) كلامًا منسوبًا إلى شارح ديوان النابغة بدون تسمية الشارح (1)، فتتبعته فوجدته مماثلًا لما يوجد في نسخة هذا الشرح التي بتونس. وتركُ البغدادي تسميةَ شارح الديوان يحتمل أن يكون لشهرة الشرح عندهم، بحيث إذا أُطلق عرف الشارح، ويحتمل أن يكون لعدم تعين الشارح.
وقد كنتُ عهدتُ إلى بعض الخبراء من أساتذة تونس حين سفره إلى القاهرة بأن يراجع في دار الكتب بالقاهرة شروحَ ديوان النابغة، فأخبرني أنه وجد نسخةً مماثلة للتي بالمكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة غير معزوة إلى مؤلِّف. لذلك يغلب على الظن أن هذا الشرح لأبي جعفر أحمد بن محمد بن النحاس؛ إذ قد ذكر ابن خلكان أن ابن النحاس فسر عشرة دواوين وأملاها. كما ذكر عاصم البطليوسي في شرحه لديوان النابغة أن لأبي جعفر النحاس شرحًا على شعر النابغة (2)، فغلب على الظنِّ
(1) انظر الكلام المشار إليه في: البغدادي: خزانة الأدب، ج 3، ص 333. وفيها "وفي شرح ديوان النابغة". والشاهد هو رقم 223 في نشرة عبد السلام هارون التي رجعنا إليها (ص 327). وهو للنابغة من قصيدة قالها في مدح عمرو بن الحارث الأصغر ابن الحارث الأعرج ابن الحارث الأكبر (ملوك الشام الغسانيين)، وذلك لما هرب من النعمان بن المنذر اللخمي (من ملوك الحيرة)، وهو قوله:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ إِلَّا أَنَّ سُيُوفَهُمْ
…
بَهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
ديوان النابغة الذبياني، ص 47 (نشرة ابن عاشور).
(2)
وقد اشتمل كتاب البطليوسي على شرح ما سماه "الأشعار الستة الجاهلية"، وهي على التوالي دواوين امرئ القيس، والنابغة الذبياني، علقمة بن عبدة الفحل، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد العبسي، وطرفة بن العبد. ويضم ما أورده من شعر النابغة اثنتين وعشرين قصيدة ومقطوعة تكاد تكون هي عينها القصائد والمقطوعات التي شرحها الأعلم الشمنتري من رواية الأصمعي، مع اختلاف يسير في عدد الأبيات وترتيبها. أما ما ذكره المصنف هنا من قول عاصم إن لأبي جعفر النحاس شرحًا على شعر النابغة، فلم أجده في النشرة المحققة المطبوعة للكتاب، وقد يرجع ذلك إلى اختلافٍ بين النسخة التي كانت بين يدي المصنف والنسخ التي اعتمد المحققان. راجع: البطليوسي، الوزير أبو بكر عاصم بن أيوب: شرح الأشعار الستة الجاهلية، تحقيق ناصيف سليمان عواد ولطفي التومي (بيروت: المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، ط 1، 1429/ 2008)، ج 1، ص 213 - 354.
أن هذا الشرحَ الذي لم يُنسب في النسختين بتونس وبالقاهرة هو شرح أبي جعفر ابن النحاس (1).
أما أنا فلم أقف على ديوان النابغة إلا ما اشتمل عليه شرحٌ عليه لعاصم بن أيوب البطليوسي بطبع المطبعة الوهبية بمصر سنة 1293 هـ. في ضمن مجموع عُنون بعنوان "خمسة دواوين من أشعار العرب" نُسبَتْ على التوزيع إلى النابغة، وعروة بن الورد، وحاتم الطائي، وعلقمة الفحل، والفرزدق. ولم يذكر طابعُه مرجعَه فيما طبع، ولم يذكر الشارحُ البطليوسي الروايةَ التي اعتمد عليها. ويظهر أنه اعتمد روايةَ الأصمعي مما جمعه من شرح الشعراء الستة.
ووقفتُ على ما جمعه الراهبُ لويس شيخو في كتابه الذي سماه "شعراء النصرانية"، وطبع في بيروت سنة 1890 م الموافق لعام 1357 هـ. ويظهر أنه جرد ما في شرح عاصم بن أيوب البطليوسي، وزاد عليه أبياتًا مما في كتب الأدب، إلا أنه خلط ذلك بما هو من شعر النابغة الجعدي أو من شعر غيره دون تثبت. على أنه أَعْرَى ما جمعه عن بيان مراجعه بالتفصيل، ولكنه أجملَ فعد مراجعَه عدًّا في آخر
(1) بعد طول بحث وتسآل لم أهتد إلى أن لأبي جعفر النحاس شرحًا خاصًّا على شعر النابغة، ولكن وجدتُ له شرحًا لتسع قصائد مختارات (هُنَّ غالب المعلقات) لتسعة من شعراء الجاهلية، بعنوان "شرح القصائد التسع المشهورات". والشعراء الذين اشتمل هذا الشرح على قصائدهم هم امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد بن ربيعة، وعنترة بن شداد، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، والأعشى ميمون بن قيس، والنابغة الذبياني. وقصيدة النابغة التي تضمنها هذا الشرحُ هي معلقته المعروفة التي طالعها:"يا دار مية بالعلياء فالسند". وبعد نظرٍ في هذا الشرح، وتتبع لعباراته، وجدتُ أن جملةَ القرائن التي ذكرها المصنفُ هنا موجودةٌ فيه، مثل اعتماد الشارح على الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة، وقوله هو:"قال أبو جعفر". وقد كاد يترجح لدي كونُ شرحِ المعلقة هذا جزءًا من الشرح الذي ذكر المصنفُ أنه شرحٌ لشعر النابغة، لولا أني لم أعثر على عبارة "حدثنا أبو عبيدة"، التي قد تكون وردت في شرح باقي قصائد النابغة، والله أعلم. ولعل عالمًا محنكًا في شؤون الأدب ينير لنا السبيل في هذه المسألة. انظر شرح معلقة النابغة في: النحاس، أبو جعفر أحمد بن محمد: شرح القصائد التسع المشهورات، تحقيق أحمد خطاب (بغداد: وزارة الإعلام، مديرية الثقافة العامة، 1393/ 1973)، ج 2، ص 731 - 767.
ترجمة النابغة، ورأيتُ أنه أخذ أبياتًا كثيرةً من "معجم البلدان" لياقوت وأبياتًا من كتاب "لسان العرب".
وقد أصدرت المكتبةُ الأهلية في بيروت سنة 1315 هـ ديوان النابغة مقتضبًا من المجموع الذي طُبع بالمطبعة الوهبية بمصر سنة 1293 هـ، مقتصرًا على ما شرحه عاصم البطليوسي دون ما جاء في ذلك الشرح من قصائد للنابغة غير مشروحة، مذيلةً صفحاته بتعاليق مقتضبة من شرح عاصم بن أيوب البطليوسي.
ثم إن المكتبةَ الأهلية ببيروت نشرت أيضًا سنة 1347 هـ/ 1929 م ديوان النابغة بأن أعادت ما نشرته في المرةَ الأولى، مع زيادةِ قصائدَ ومقاطيع نُسبت إلى النابغة، بعضُها معروفُ النسبة إليه، وبعضُها لا نعرفه، وبعضُها من شعر غير النابغة. ولولا هذا الخلط، لكانت هذه الطبعةُ أجدى من الطبعة الأولى.
وقد علق عليها بعضُ أهل الأدب حُلِّيَ بوصف الأستاذ، وسُمِّيَ عبد الرحمن سلام، ولم نقف على ترجمته، أكثرُها من التعاليق التي في طبعة الأولى. ويظهر من لهجة الكلمة التي قدمها الأستاذ المذكور في صدر هذه الطبعة أن له حظًّا موفورًا من الأدب، غير أنه تبرأ من عهدة صحة النسخة التي طُلب منه التعليقُ عليها.
ولا توجد لديوان النابغة طبعةٌ على رواية منسوبة، عدا ما طُبع من شرح عاصم بن أيوب البطليوسي (1). وفي معجم المطبوعات لسركيس ذكر كتاب "العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهليين"، منهم النابغة وأنه طبع في ليدن سنة 1870 م، وكتب في كتاب "شعراء النصرانية" لندن عوض ليدن (انظر ص 732 جزء 1)، وأنه طبع في بيروت سنة 1886 م، وأنه طبع في مصر سنة 1910 م.
(1) يبدو أن المصنفَ كتب ما كتب بين يدي تحقيقه لديوان النابغة قبل أن ينجز الأستاذُ محمد أبو الفضل إبراهيم تحقيقَه لهذا الديوان، كما يبدو أن هذا الأخير لم يطلع على تحقيق ابن عاشور، فهو لم يذكره في المقدمة التي عرض فيها لمصادر شعر النابغة والنشرات التي صدرت به، فهل حجابُ المعاصرة هو سبب ذلك؟
وغالبُ ظني أنه هو ديوان الشعراء الستة الموجودة منه نسختان في الخزانة الأحمدية بجامع الزيتونة.
فعمدتُ إلى ما اتفق على إثباته عاصم بن أيوب البطليوسي في شرحه، وأبو جعفر في شرحه، وجمعتُ منهما هذا الديوان، مبتدئًا بما اتفقا على إثباته، ومعبرًا عنه بقولي:"قال النابغة" أو نحوه دون عزو إلى أحد الشرحين لاتفاقهما عليه. ثم أذكرُ ما انفرد به أبو جعفر في شرحه معزوًّا إليه، مع التنبيه في جميع ذلك على اختلاف الروايات في الألفاظ وفي ترتيب الأبيات.
وأثبتُّ ما يوجد من شعر النابغة في "ديوان الشعراء الستة" الموجود بجامع الزيتونة المذكور فيما تقدم، وهو الذي أعنيه إذا قلت:"في نسخة الديوان". وضممتُ إلى ذلك ما خلا عنه كلا الشرحين، فألحقت بكل حرف من حروف القوافي ما حصل لدي من شعر النابغة، وعبرت عنه بملحقات، منبهًا على ذكر من نسبه إلى النابغة الذبياني، مع بيان مرجعي في ذلك.
وعلقتُ على ما يحتاج إلى التعليق من الأبيات: بتفسير غريب المفردات، وبيان المعاني الخفية دول تطويل، مما لم يعرج عليه في شرح عاصم بن أيوب الذي هو المطبوع الوحيد. ورأيتُ ذلك كافيًا لإقبال الذين لهم تأهلٌ لمطالعة الديوان حتى تقع لديهم طبعةٌ علمية منه.
ويُوجد بين الذين روَوْا شعرَ النابغة اختلافٌ في إثبات أبيات القصائد وفي كلمات من الأبيات. وأشهر الرواة لشعر النابغة: الأصمعي، وأبو عبيدة، وأبو عمرو، وابن الأعرابي. وأشهر رواية الأصعمي ما يوجد في "ديوان الشعراء الستة" للأصعمي. على أن للأصعمي رواياتٍ ليست مما في "ديوان الشعراء الستة"، وهي مروياتٌ على عهد أئمة الأدب، وقد نسبها أبو جعفر في شرح ديوان النابغة لرجلٍ يُعرف بابن الجصاص. ورواية في ديوان النابغة ذكرها أبو جعفر في شرحه في قصيدة "ودع أمامة إن أردت رواحا".