الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تذييل لترجمة سعد الدين التفتازاني
(1)
لَمَّا مررت على القاهرة في مرجعي من الحج، ذلك المرور الذي كان مثله كمثل قول ابن الخطيب:
لَمْ يَكُنْ وَصْلُكَ إِلَّا حُلُمَا
…
فِي الكَرَى أَوْ خلْسَةَ المُخْتَلِسِ (2)
كان من أهم ما بادرت باقتنائه أجزاء مجلة "الهداية الإسلامية" التي انحبست عني جراء الانقطاع البريدي بين تونس ومصر في أيام هذه الحروب، وحين استقر بي النوى، ونشرت من حقيبتي ما انطوَى، وراجعت المطالعة التي كان ذهني عنها انزوَى، طالعت فيما طالعته منها ترجمة لسعد الدين التفتازاني من تحرير العلّامة المحقق محمد علي النجار المدرس بكلية اللغة العربية، المنشورة في الجزءين من المجلد 13، فألفيت ترجمة وافية بتحليل نواحي ذلك الرجل العظيم النادر المثيل في علماء الإسلام. ورغبة في استيفاء ما يمكن استيفاؤه، أردت التعليق والتذييل لذلك المقال الممتع.
أ - قول الأستاذ النجار "لكنه (أي التفتازاني) فيما يظهر لا يوقر الصحابي الجليل سيدنا معاوية" إلخ. وقد رأيت أن استظهار الأستاذ لا يتم، فإن قول سعد الدين: "وبالجملة لم ينقل عن السلف المجتهدين والعلماء الصالحين جوازَ اللعن على
(1) مجلة الهداية الإسلامية، الجزء 7، المجلد 17، المحرم 1364.
(2)
هو البيت الثاني من موشحة الوزير لسان الدين ابن الخطيب (من بحر الرمل) التي طالعها:
جَادَكَ الغَيْثُ إِذَا الغَيْثُ هَمَى
…
يَا زَمَانَ الوَصْلِ بِالأَنْدَلُسِ
وقد أوردها ابن خلدون كاملة. انظر: مقدمة ابن خلدون، ص 600 - 604. وانظرها في: ديوان لسان الدين بن الخطيب السلماني، تحقيق محمد مفتاح (الدار البيضاء: دار الثقافة، ط 2، 1428/ 2007)، ج 2، ص 792 - 794.
معاوية وأعوانه؛ لأن غاية أمرهم البغي والخروج عن طاعة الإمام وهو لا يوجب اللعن" (1)، يتعين حملُه على أنه قصد الردَّ على الشيعة الذين يجوِّزون ويأتون ذلك البذاء الشنيع. فأراد إلجاءهم إلى الاعتراف بانتفاء إجازة ذلك من سلف الأمة المقتدى بهم، إذ لا يستطيع المخالف إثبات هذه الإجازة المنفية. وقرينةُ مراده أنه ذكر كلماته تلك بعد أن أورد الأحاديثَ النبوية الدالّة على وجوب توقير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد قوله: "وما وقع بينهم من المنازعات والمحاربات، فله محامل وتأويلات. فسبُّهم والطعنُ فيهم إن كان مما يخالف الأدلة القطعية، فكفر، وإلا بدعة وفسق" (2).
ب - ويقول الأستاذ حاكيًا عن النسائي أنه قال: "أما يرضى معاوية أن يخرج رأسًا برأس حتى يُفضّل؟ "(3) وهذه الكلمة وإن كانت منقولةً في ابن خلكان، فأنا أحسبها تقولًا على النسائي أو سوءَ نقل لكلامه. وذلك الكلام وإن كان المقصود منه أن معاوية ليس أفضل من علي، وهذا معتقدُنا ومعتقد أهل السنة قاطبة، ولكن صيغته لا تخلو من عجرفة وجلافة؛ لأن كلمة "أما يرضى" فيها معنى الإنكار على عدم الرضا.
ولعل أصل عبارة النسائي إن كان لها أصل: "أما ترضون أن يخرج معاوية رأسًا برأس"، أي أن يكون من جملة أهل الفضل، أي في الصحبة؛ لأنها مقولة لمن يعتقدون أفضليةَ معاوية على عليّ رضي الله عنهما. فإن كلمة "أما يرضى" إنما تقال لمن يُظَنُّ به عدم الرضا، وليس لمعاوية رضي الله عنه ادعاء أنه أفضل من علي. والذي ينبغي
(1) التفتازاني، سعد الدين: كتاب شرح العلامة سعد الدين التفتازاني على العقائد النسفية لنجم الدين عمر النسفي ويليه حواشي الخيالي وعبد الحكيم السيالكوتي والعصام (القاهرة: محمود أفندي شاكر الكتبي، ط 1، 1331/ 1913)، ص 490.
(2)
المصدر نفسه، ص 490.
(3)
"روى عبد الله بن مَندة، عن حمزة العَقبي المصري وغيره، أن النسائي خرج من مصر في آخر عمره إلى دمشق، فسُئل بها عن معاوية، وما جاء في فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسًا برأس حتى يُفضّل؟ " الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 14، ص 132.
اعتماده في هذا الشأن هو ما ذكره ابن السبكي في طبقات الشافعية أن النسائي سئل عن التفضيل بين عليٍّ ومعاوية ففضل عليًّا، فخاض في ذلك بعضُ الخوارج وألف كتابًا في فضل علي، فسئل عن سبب تأليفه فقال:"دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنفت هذا الكتاب رجاء أن يهديهم الله". (1)
جـ - ثم تعرض الأستاذ لتعيين المذهب الذي كان سعد الدين يتقلده، فلم يأت بما يدل على انفصاله في ذلك. وقد يلوح أنه انتقل من مذهب إلى مذهب، ولكني رأيتُ العلامة الفناري قد جزم أنه كان شافعيَّ المذهب (2).
د - وذكر الأستاذ النجار أن لسعد الدين ولدًا، وأنه يقال: إنه ألّف شرح تصريف الزنجاني (3) لأجله. وأقول: قد ألف لولده هذا متن تهذيب الكلام في المنطق والكلام، وقال في أوله:"وتبصرة لمن أراد أن يتبصر من أولي الأفهام، لا سيما الولد الأعز الحري الحفي بالإكرام، سمي حبيب الله عليه التحية والسلام".
(1) لم يرد ذكر الخوارج عند السبكي في حكاية القصة، وإنما ذكر أنه عندما دخل النسائي دمشق سئل عن معاوية، فضل عليه عليًّا، "فأُخرج من المسجد، وحُمل إلى الرملة". طبقات الشافعية الكبرى، ج 3، ص 15. وأصل ما أورده السبكي هو ما رواه الوزير ابنُ حِنزابة (الفضل بن جعفر بن الفرات) قال:"سمعت محمد بن موسى المأموني - صاحب النسائي - قال: سمعتُ قومًا يُنكرون على أبي عبد الرحمن النسائي كتاب الخصائص لعلي رضي الله عنه، وتركَه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك، فقال: دخلتُ دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنفت كتاب الخصائص، رجوتُ أن يهديهم الله تعالى". الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 14، ص 129. وأما كتاب الخصائص فقد حققه أحمد ميرين البلوي ونشرته مكتبة المعلا بالكويت سنة 1406/ 1986 بعنوان "خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه".
(2)
انظر كلام الفناري في حاشية المطول صفحة 367 طبع الآستانة في مبحث تقديم بعض معمولات الفعل على بعض، من باب أحوال متعلقات الفعل. - المصنف. وقد جاء هذا الكلام في المتن ورأينا وضعه في الحاشية أولى.
(3)
العنوان الكامل لهذا الكتاب هو "شرح التصريف العزي للزنجاني"، ولا يزال مخطوطًا فيما وصل إليه علمي.
هـ - وذكر الأستاذ النجار ردَّ التفتازاني (1) على الكتاب المسمّى بالفصوص المنسوب إلى الشيخ محيي الدين بن عربي، وتردد في صحة ما ذكره كاتبُ الدائرة من نسبته إلى التفتازاني. وأقول: إن كتاب الرد المنسوب إلى التفتازاني موجودٌ بالمكتبة الصادقية بتونس منسوبًا إلى التفتازاني، وأوله:"الحمد لله المتعالي عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا". فعلينا أن نحقق: أهذا هو الموجود في مكتبة برلين أم هو غيره. أما فاضحة الملحدين، فقد نسبه في كشف الظنون إلى علاء الدين.
و- ونختم هذا التذييل بأن سعد الدين يلقب بين علماء العصور المتأخرة بالعلامة الثاني، ويعنون أنه ثانٍ لمن اشتهر تلقيبه بالعلّامة وهو الزمخشري. وكفى بهذا اللقب تنويهًا بمكانته بين علوم العربية.
(1) يشير المصنف هنا إلى دائرة المعارف الإسلامية التي جاء فيها: "وله [أي التفتازاني] ردٌّ على زندقة ابن عربي في مؤلفه فصوص الحكم، وهذا الرد مخطوط في برلين (Ahlwardt، رقم 2891) وعلى الورقة الأولى منه عنون مشكوك فيه، وهو فضيحة الملحدين". موجز دارة المعارف الإسلامية، تحرير م. ت. هوتسما وزملائه (الشارقة: مركز الشارقة للإبداع الفكري، ط 1، 1418/ 1998)، ج 8، ص 2306.