الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال: "ما رأيت شعرًا أغزل من هذا". (1)
وصنّف الأديب هارون بن علي بن يحيى المنجم البغدادي (المتوفّى سنة 288) كتابَ "البارع في أخبار الشعراء المولّدين"، وجمع فيه مائة وواحدًا وستين شاعرًا، وافتتحه بذكر بشار بن برد. واختار فيه من شعر كل واحد عيونَه. قال ابن خلكان:" [وبالجملة فإنه] من الكتب النفيسة، [فإنه] يُغني عن دواوين [الجماعة] الذين ذكرهم، فإنه [مخض] أشعارَهم وأثبت منها زُبْدتَها وترك [زَبَدَها]، وإن كتاب الخريدة (للعماد الكاتب) وكتاب الحظِيري والبَاخَرْزِي [والثعالبي] فروعٌ عليه، وهو الأصل الذي نسجوا على منواله". (2)
وعُني أبو الفرج الأصبهاني بشعر بشار وأخباره، فخصه بترجمة ذكر فيها معظمَ ما يرويه أهلُ الأدب والفكاهة عن بشار، ثم خصه بترجمة في أخباره مع عبدة خاصة، وتعرّض في ترجمة حمّاد عجرد لكثر من أخبار بشار (3).
ولم يزل أصحابُ كتب المحاضرات والمختارات والأمالي يزينون كتبَهم بمختارات بشار، مثل الراغب الأصفهاني والحُصَري والشريف المرتضى وغيرهم. ثم جاء الأديبان الفاضلان الأخوان الخالديان فاختارا من شعره كثيرًا، وسنذكر ذلك عند الكلام على ديوانه.
من نقد بشارا ومن أجاب عنه:
في شرح المعري على ديوان المتنبي (4): "قال خلّاد بن مَهْرُويَه لبشار: إنك تجيء بالشيء الهجين المتفاوت؛ بينما تقول شعرًا يثير النَّقْع ويخلع القلوب، مثل قولك:
(1) الحصري القيرواني: زهر الآداب وثمر الألباب، ج 1، ص 381.
(2)
ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 6، ص 78.
(3)
انظر: كتاب الأغاني، ج 3، ص 135 - 250 وج 6، ص 242 - 253 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 641 - 719 وج 2/ 6، ص 748 - 756 و (نشرة الحسين).
(4)
المسمى معجز أحمد، وذكر ذلك عند قول أبي الطيب:"ما أنصف القوم ضبه". - المصنف. هذا صدر البيت الأول من قصيدة قالها المتنبي في هجاء ضبة بن يزيد العتبي سنة 353 هـ، =
إِذَا مَا غَضِبْنَا غَضْبَةً مُضَريَّةً
…
هَتَكْنَا حِجَابَ الشَّمْسِ أَوْ نُقْطِر الدَّمَا
إذا بك تقول:
رَبَابَةُ رَبَّةُ البَيْتِ
…
تَصُبُّ الخَلَّ فِي الزَّيْتِ
لَهَا عَشْرُ دَجَاجَاتٍ
…
وَدِيكٌ حَسَنُ الصَّوْتِ
فقال له بشار: لكل وجهٍ موضعٌ، فالقول الأول جدٌّ، وهذا قلته في جاريتي ربابة، وأنا لا آكل البيضَ من السوق، وربابة تجمع لي البيضَ، فإذا أنشدتها هذا حَرَصت على جمع البيض، فهذا عندها أحسنُ من "قفا نبكِ"، ولو أنشدتُها من النمط الأول ما فهمتْه". (1)
= وقد صنفها المعري ضمن العراقيات الأخيرة وذكر بين شرحها قصة في سبب قول المتنبي لها وأنه اضطر لذلك اضطرارًا ردًّا على ما بدر من ضبة هذا من شتم وسب للمتنبي وأصحابه الذين أرادوا من أبي الطيب "أن يجيبه بمثل ألفاظه القبيحة وسألوه ذلك، فتكلف لهم على مشقة". المعري: شرح ديوان أبي الطيب المتنبي: معجز أحمد، ج 4، ص 251.
(1)
ما في المطبوع من "معجز أحمد" مختلف عما ذكره المصنف فقد جاء فيه: "قال ابن جني ورأيته وقد قرئت عليه القصيدة وهو يُنكر إنشادها، وكان مثلُ أبي الطيب معه في هذه القصيدة، كما روي عن ابن مهْرويه عن [ابن خلاد] عن أبيه قال: قلت لبشار: يا أبا معاذ إنك لتأتي بالأمر المتفارق فمرة تثير بشعرك العجاج فتقول:
إِذَا مَا ضَرَبْنَا ضَرْبَةً مضريَّةً
…
هَتَكْنَا حِجَابَ الشَّمْسِ أَوْ قَطَرَتْ دَمَا
إَذَا مَا أَعَرْنَا سَيِّدًا مِنْ قَبِيلَةٍ
…
ذُرَى مِنْبَرٍ صَلَّى عَلَيْنَا وَسَلَّمَا
ثم تقول:
رَبَابَةُ رَبَّةُ البَيْتِ
…
تَصُبُّ الخَلَّ فِي الزَّيْتِ
لَهَا سَبْعُ دَجَاجَاتٍ
…
وَدِيكٌ حَسَنُ الصَّوْتِ
فقال: إنما أكلم كل إنسان على قدر معرفته، فأنت وعِليةُ الناس يستحسنون ذلك، وأما رباب فهي جاريتي تربي دجاجات وتجمع لي بيضهن، فإذا أنشدتها هذا حرصت على جمع البيض وأطعمتنيه، وهو أحسن عندها وأنفق من شعري كله، فإذا أنشدتها في النمط الأول لما فهمته ولا انتفعتُ بها". ثم قال المعري:"فهذه صورة المتنبي في هذه القصيدة كما ترى". المعري: شرح ديوان أبي =
وقال الحُصري في زهر الأداب: "قيل لبشار: كم بين قولك -[وأنشد هذه الأبيات":
يَا أَطْيَبَ النَّاسِ رِيقًا غَيْرَ مُخَتَبَرٍ
…
إِلَّا شَهَادَةَ أَطْرَافِ المَسَاوِيكِ]
قَدْ زُرْتِنَا مَرَّةً فِي الدَّهْرِ وَاحِدَةً
…
عُودِي فَلَا تَجْعَلِيهَا بَيْضَةَ الدِّيكِ
[يَا رَحْمَةَ الله حُلِّي فِي منَازِلِنَا
…
حَسْبِي بِرَائِحَةِ الفِرْدَوْسِ مِنْ فِيكِ] (1)
"وبين أن تقول:
إنَّمَا عَظْمُ سُلَيْمَى خُلَّتِي
…
قَصَبُ السُّكَّرِ لَا عَظْمُ الجَمَلْ
وَإِذَا قُرِّبَ مِنْهَا بَصَلٌ
…
غَلَبَ المِسْكُ عَلَى رِيحِ البَصَلْ (2)
= الطيب المتنبي، ج 4، ص 251 - 252. ويبدو أن المصنف اعتمد في الأصل على رواية القصة عند أبي الفرج الأصفهاني وسبق منه القلم فعزاها إلى المعري. أما المعري فيبدو أنه تصرف في رواية الأصفهاني أو ربما روى من طريق مختلف، فكان ذلك هو منشأ الاختلاف بين الروايتين. انظر كتاب الأغاني، ج 3، ص 162 - 163 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 659 (نشرة الحسين).
(1)
هذه الأبيات من مقطوعة من سبعة أبيات، انظرها وتخريجها في: ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4، ص 143 - 144 (الملحقات).
(2)
ذكر الأصفهاني أن عبد الرحمن بن العباس حدث عن أبيه العباس بن الفضل بن عبد الرحمن بن عياش بن أبي ربيعة أنه سأل بشارًا: "يا أبا معاذ من الذي يقول:
إِنَّ سَلْمَى خُلِقَتْ مِنْ قَصَبٍ
…
قَصَبِ السُّكَّرِ لَا عَظْمُ الجَمَلْ
وَإِذَا أَدْنَيْتَ مِنْهَا بَصَلَا
…
غَلَبَ المِسْكُ عَلَى رِيحِ البَصَلْ
فغضب وصاح: من الذي يُقَرِّعنا بأشياء كنا نعبث بها في الحداثة فهو عيرنا بها! " كتاب الأغاني، ج 3، ص 162 - 163 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 659 (نشرة الحسين). وذكر الحصري أن بشارًا قال: "إنما الشاعر المطبوع كالبحر، مرة يقذف صدَفة، ومرة يقذف جيفة". زهر الآداب وثمر الألباب، ج 1، ص 216. وانظر الأبيات في: ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4، ص 150 - 151 (الملحقات).
فقال: إنما الشاعرُ المطبوعُ كالبحر، مرةً يقذف صَدَفَه، ومرة يقذف جِيَفَه". (1) فكأنه اعترف بسخافة ذلك، وذلك لا يقدح في حصافة شعره، إذ قد تَعْرِضُ للشاعر مقاماتٌ يرتكب فيها السخيفَ لمناسبة المقام.
وبعد، فكفَى المرءَ نبلًا أن تعدُّ معايبه. على أن لبشار في بعض شعره معاني سخيفة وضعفًا في بعض أبياته، وذلك لا يقدح في فحولته، مثل قوله:
هِيَ الرُّوحُ مِنْ نِفْسِي وَلِلْعَيْنِ قُرَّةٌ
…
فِدَاءٌ لَهَا نَفْسِي وَعَيْنِي وَحَاجِبِي (2)
فقوله "وحاجبي" زيادةٌ ركيكة ما أتى بها إلا لتكلف القافية، وذلك من العِي.
وأما انتقادُ بعض شعر بشار من جهة ما فيه من المفاحشة في الهجاء، فذلك انتقادٌ راجع إلى الأخلاق لا إلى الصناعة. وقد كانوا في عصرهم ذلك يستبيحون مثلَه في الإقذاع بالهجاء، ولكن بشارًا أفرطَ فيه وجاء بشيء ركيك. وأما انتقادهم من جهة السيرة الشعرية، ففي "البيان والتبيين" للجاحظ أن قول بشار:
وَصَاحِبٍ كَالدُّمَّلِ المُمِدِّ
…
حَمَلْتُهُ فِي رُقْعَةٍ مِنْ جِلْدِي (3)
ذهب إلى قول الشاعر:
يَوَدُّونَ لَوْ خَاطُوا عَلَيْكَ جُلُودَهُمْ
…
وَلَا تدْفَعُ المَوْتَ النُّفُوسُ الشَّحَائِحُ (4)
(1) الحصري القيرواني: زهر الآداب، ج 1، ص 216 - 217. وما بين الحاصرتين لم يورده المصنف، وفي الديوان" حِبَّتي" بدل "خُلتي".
(2)
البيت هو الثاني قبل الأخير من قصيدة من بحر الطويل قالها في النسيب بعبدة. ديوان بشار بن برد، ج 1/ 2، ص 231.
(3)
البيت من أرزوجة بشار المشهورة "يا طلل الحي بذات الصمد". ديوان بشار بن برد، ج 1/ 2، ص 159.
(4)
وأرزوجة بشار من الرجز، أما الشعر الذي قال الجاحظ إن بشارًا أخذ المعنى منه فهو من الطويل، وقيل إنه لشاعرين من بني يشكر يدعوان بالأغر: الأغر بن مأنوس، والأغر بن عبد الله. وهذا البيت هو ثان لآخر جاء فيه: =
وأنت خبيرٌ بأن بين المعنيين بونًا يُعدُّ ادعاءُ سرقة بشار منه ظلمًا لبشار، فإن كان لمجرد ذكر لفظ الجِلْد فيجب أن يكون من قال لفظًا في شعره يُعدّ على مَنْ يستعمل مثله سرقة. وقال الإمام المرزوقي في "شرح الحماسة" قولُ الأحوَص الأنصاري:
إِنِّي إِذَا خَفِيَ الرِّجَالُ وَجَدْتَنِي
…
كَالشَّمْسِ لَا تَخْفَى بِكُلِّ مَكَانِ
إن بشارًا أخذه في قوله:
أَنَا المُرَعَّثُ لَا أَخْفَى عَلَى أَحَدٍ
…
ذرَّتْ بِيَ الشَّمْسُ لِلْقَاصِي وَلِلدَّانِي (1)
ومثلُ هذا المعنى مِمَّا تتوجه إليه قرائحُ الشعراء كثيرًا، فلا حظَّ لواحد منهم دون آخر إلا بمقدار حسن تصرفه في التعبير عنه. والأديب اللبيب لا يمتري في حسن تصرف بشار فيه لعدوله عن تشبيهه بالشمس إلى جعل الشمس تطلع به، فسلك طريقةً التجريد المتضمنة للتشبيه، وهي أدقّ، لا سيما إذا كان التشبيه مطروقا.
والتحقيق أنه لا يخلو شاعرٌ عن أن يُلِمَّ في شعره ببعض معاني الشعراء وبعض تراكيبهم، ولا يُعدّ ذلك سرقة. وقد صدر ذلك من العرب ومَن بعدهم،
= لَقَدْ كُنْتَ فِي قَوْمٍ عَلَيْكَ أَشِحَّةٍ
…
بِنَفسكَ، لَوْلَا أنَّ مَنْ طَاحَ طَائِحُ
الجاحظ، البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 43 - 44.
(1)
بيت الأحوص بن محمد الأنصاري هو الرابع من الحماسية 54، والأحوص شاعر إسلامي من شعراء المدينة، عاش في العصر الأموي. المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 223. والصحيح أن القائل بأن بشارًا أخذ معنى بيته المذكور من بيت الأحوص هو الخطيب التبريزي لا المرزوقي. شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 170 (الحماسية 55). وقد علق المصنف على هذا البيت بما يأتي:"وأحسب أن هذا البيت هو عين البيت الواقع في الديوان عدد 72 ورقة 9 بلفظ: للداني وللنائي، في حرف الهمزة، فاشتبه على ناقليه. ويجوز أن يكون أعاده بشار في قصيدة نونية". ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4، ص 236 (الملحقات). والبيت المشار إليه في القصيدة الهمزية هو:
أَنَا المُرَعَّثُ لَا أَخْفَى عَلَى أَحَدٍ
…
ذرَّتْ بِيَ الشَّمْسُ لِلدَّانِي وَللنَّائِي
المصدر نفسه، ج 1/ 1، ص 148.
حتى قال عنترة: "هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ منْ مُتَرَدَّمِ"(1). ذلك أن بعض التراكيب قد تصير مشتهرةً في الاستعمال، فيتناقلها الناسُ، وتسير مَسيرَ الأمثال. وبعضُها قد يصير معروفًا بين الشعراء، فيصير كلغة خاصة بهم، وبعضها قد يبتكره بعضُ الشعراء، فيستجاد منه ويشتهر فيأخذه مَنْ يجيء بعده، ولا يعدّ ذلك سرقة لشهرته. وقد وقع الافتتاح بجملة "بانت سعادُ" لعدّة من شعراء العرب، ذكرهم ابن هشام في شرح قصيدة كَعْب. وقد قال بشار:
مِنْ كُلِّ لَذَّاتِ الفَتَى
…
قَدْ نِلْتُ نَائِلةً وَعُرْفَا (2)
فألَمَّ بقول [زهير بن جناب الكلبي]:
مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الفَتَى
…
قَدْ نِلْتُهُ إِلَّا التَّحِيَهْ (3)
(1) هذا صدر البيت الأول من المعقلة، وعجزه:"أَمْ هَلْ عَرَفْتِ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ". ديوان عنترة، ص 182 (نشرة مولوي)؛ القرشي: جمهرة أشعار العرب، ص 211.
(2)
البيت من قصيدة من عشرة أبيات تُروى لبشار ولوضاح اليمن عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد كُلال، اختلف في نسبه، فقيل هو من أبناء الفرس "الذين قدموا اليمن مع وَهْرِز لنصرة سيف بن ذي يَزَن على الحبشة"، وقيل هو من "آل خَولان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جُشم بن عبد شمس"، وينتهي نسبه إلى حمير فقحطان. كذا قال الأصفهاني. توفي وضاح سنة 90/ 708. الأغاني، ج 2/ 6، ص 726 و 743 (نشرة الحسين)؛ ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4، ص 128 (الملحقات).
(3)
البيت من السابع من قصيدة من خمسة عشر بيتًا قيل إن الشاعر لما كبر جمع بنيه وبني بنيه وأوصاهم بها. وما ذكره المصنف هو رواية محمد بن سلام. وجاء عند الأصفهاني بلفظ: "وَلَكُلُّ مَا نَالَ الفَتَى"، أما الديوان فجاء فيه:"كُلُّ الَّذِي نَالَ الفَتَى". وقائلها هو زهير بن جَناب بن هُبل بن عبد الله بن كنانة ينتهي نسبه إلى قُضاعة. شاعر جاهلي من أبرز شعراء بني كلب بن وبرة وهو من أقدم الشعراء الذين وصل إلينا شعرهم. كان زهير من المعمرين مما أتاح له المشاركة في عدد من أحداث العصر الجاهلي المشهورة، وقد اجتمعت على رئاسته قبائل قضاعة. قال فيه ابن سلام:"كان قديمًا شريف الولد وطال عمره". الجمحي: طبقات الشعراء، ص 37؛ الأغاني، ج 7/ 19، ص 14 - 23؛ ديوان زهير بن جناب الكلبي، تحقيق محمد شفيق البيطار (بيروت: دار صادر، ط 1، 1999)، ص 114.
وقال أيضًا:
وَكُنَّا إِذَا الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ
…
مَشَيْنَا إِلَيْهِ بِالسُّيُوفِ نُخَاطِبُهْ (1)
أخذه من قول الفرزدق:
وَكُنَّا إِذَا الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ
…
ضَرَبْنَاهُ حَتَّى تَسْتَقِيمَ الأَخَادِعُ (2)
وقال بشار:
فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ وَصلَ النِّسَا
…
ءِ وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ البَارِدَا (3)
أخذه من قول العَرْجِيّ (4):
فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ
…
وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أطعَمْ تُفَّاحًا وَلَا بَرْدَا (5)
(1) ديوان بشار بن برد، ج 1/ 1، ص 334. البيت من قصيدته الطويلة التي قالها في مدح محمد بن مروان وقيس عيلان، وفيه لفظ "نعاتبه" بدل "نخاطبه".
(2)
ديوان الفرزدق، ج 2، ص 73.
(3)
ديوان بشار بن برد، ج 2/ 3، ص 137. والبيت هو العشرون من قصيدة في سبعة وأربعين بيتًا من بحر المتقارب قالها بشار في عبدة.
(4)
هو عبد الله ين عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، شاعر غزل مطبوع، توُفِّيَ سنة 120 هـ. لقب بالعرجي؛ لأنه كان يسكن قرية "العرج" بنواحي الطائف، فنسب إليها. عاش وتوفِّيَ بمكة. نحا نحو ابن أبي ربيعة في شعره. كان من الأدباء الظرفاء الأسخياء، وكان ينصب القدور في الليل لإطعام الطارقين. وكان من الفرسان المعدودين، صحب مسلمة بن عبد الملك في وقائعه بأرض الروم، وأبلى معه بلاء حسنًا. سجنه والِي مكة محمد بن هشام، خال هشام بن عبد الملك؛ لأنه شبب بأمه جيداء وبزوجته جبرة المخزومية، ولم يزل في السجن حتى مات، وهو القائل في سجنه:
أَضَاعُونِي وَأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا
…
لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسَدَادِ ثَغْرِ
الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 1، ص 413 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 1، ص 264 (نشرة الحسين).
(5)
ديوان العرجي، رواية أبي الفتح ابن جني، تحقيق خضر الطائي ورشيد العبيدي (بغداد: الشركة الإسلامية للطباعة والنشر، ط 1، 1956)، ص 104 (وفيه: أَحْرَمْتُ بدل حَرَّمت).
وقال بشار:
هَيْفَاءُ مُقْبِلَةً عَجْزَاءُ مُدْبِرَةً
…
لَمْ تُجْفَ طُولًا وَلَا أَزْرَى بِهَا القِصَرُ (1)
أخذه من قول كعب بن زهير:
هَيْفَاءُ مُقْبِلَةً عَجْزَاءُ مُدْبِرَةً
…
لَا يُشتَكَى قِصَرٌ مِنْهَا وَلَا طُولُ (2)
وفي محاضرات الراغب الأصفهاني: "قال أبو عمرو بن العلاء: شعر بشار سُباطَةُ الملوك فيها قطعةُ ذهب وما شئت من رماد، والسباطة الكُسَاحَة". (3) وأبو عمرو بن العلاء ممن يشهدون لبشار كما تقدم، فتعين أن مرادَه بهذا الكلام إنما ينظر إلى ما في كلامه من المفاحشات لا إلى صناعة شعره.
وأما سرقةُ بيت أو أبيات باللفظ ووضعها في شعره، ففي الأغاني: "أخبرني يحيى بن علي قال: حدثني أبي قال: كان إسحاقُ الموصليُّ يَطعَنُ على شعر بشار، ويضع منه، ويذكر أن كلامَه مختلفٌ لا يُشبه بعضُه بعضًا، فقلنا: أتقول هذا القولَ لمن يقول:
إِذَا كُنْتَ فِي كُلِّ الأُمُورِ مُعَاتِبًا
…
صَدِيقَكَ لَمْ تَلْقَ الَّذِي لَا تُعَاتبُهْ
(1) ديوان بشار بن برد، ج 2/ 3، ص 145. البيت هو الخامس من قصيدة من عشرين بيتًا من بحر الوسيط قالها في عبدة.
(2)
البيت ليس في الديوان (حسب رواية السكري وشرحه)، وذكر ابن هشام أنه يروى بعد البيت الثاني من قصيدة "بانت سعاد"، أي قبل قول كعب:
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ
…
كَأَنَّهُ مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ
ابن هشام الأنصاري، أبو محمد جمال الدين عبد الله: شرح قصيدة بانت سعاد، وبهامشه حاشية الشيخ إبراهيم الباجوري (القاهرة: المطبعة الميمنية، 1307 هـ)، ص 15.
(3)
الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، تحقيق عمر الطباع (بيروت: دار الأرقم بن أبي الأرقم، 1420/ 1999)، ج 1، ص 118.
فَعِشْ وَاحِدًا أَوْ صِلْ أخَاكَ فَإِنَّهُ
…
مقَارِفُ ذَنْبٍ مَرَّةً وَمُجَانِبُهْ
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَشْرَبْ مِرَارًا عَلَى القَذَى
…
ظَمِئْتَ، وَأَيُّ النَّاسِ تَصْفُو مَشَاربُهْ
[قال علي بن يحيى: ] وهذا الكلام الذي ليس فوقه كلامٌ من الشّعر ولا حشوَ فيه، فقال لي إسحاق: أخبرني أبو عبيدة [معمر بن المثنى] أن شُبَيْلَ بن عَزْرَةَ الضُّبْعِيَّ أنشده هذا الأبيات للمتلمس، وكان عالِمًا بشعره؛ لأنهما جميعًا من ضُبَيْعة، فقلتُ له: أفليس قد ذكر أبو عبيدة أنه قال لبشار: إن شبيلًا أخبره أنها للمتلمس؟ فقال (بشار): كذبَ والله شبيلٌ، هذا شعري، ولقد مدحْتُ به ابنَ هُبيرَةَ فأعطاني أربعين ألفا (1). . . ثم قلت لإسحاق: أخبرْنِي عن قول بشار في هذه القصيدة:
فَلَمَّا تَوَلَّى الحَرُّ وَاعْتَصَرَ الثَّرَى
…
لَظَى الصَّيْفِ مِنْ نَجْمٍ تَوَقَّدَ لَاهِبُهْ
وَطَارَتْ عَصَافِيرُ الشَّقَائِقِ وَاكْتَسَى
…
مِنَ الآلِ أَمْثَالَ المَجَرَّةِ ناضِبُهْ
غَدَتْ عَانَةٌ تَشْكُو بِأَبْصَارِهَا الصّدَى
…
إِلَى الجَأْبِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تُخَاطِبُهْ (2)
وهذا من أحسن ما وُصف به الحمار والأُتنُ، أفهذا للمتلمس أيضًا؟ قال: لا، فقلت: أفما هو في غاية الجودة وشبيهٌ بسائر الشعر؟ فكيف قصد بشار لسرقة تلك الأبيات خاصة؟ وكيف خصَّه [يعني المتلمسَ] بالسرقة منه وحده من بين الشعراء وهو قبله بعصرٍ طويل؟ وقد روى الرواةُ شعره، وعلم بشارٌ أن ذلك لا يخفَى، ولَم يُعثر على بشار أنه سرق شعرًا قط جاهليًّا ولا إسلاميًّا، [وأخرى فإن شعر المتلمس يُعرف في بعض شعر بشار]، فلم يردّ ذلك بشيء". (3)
(1) يريد بشار أن مثل ابن هبيرة وأدباء مجلسه لا يخفى عليهم شعرُ المتلمس. - المصنف.
(2)
في الأغاني: العانة: القطيع من حُمُر الوحش، والجأب: ذكرها، ومعنى شكواها الصدى بأبصارها: أن العطش قد تبين في أحداقها ففارت.
(3)
الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 195 - 198 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 683 - 684 (نشرة الحسين). وما بين الحاصرتين من كلام ابن يحيى ولم يذكره المصنف. ديوان بشار بن برد، ج 1/ 1، ص 326 و 329 - 330. والأبيات الستة من قصيدة من خمسة وثمانين بيتًا من =