الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. فلذاك كان جواب الصفدي غير وجيه؛ لأن غايته أن المتنبي كان مضطرًّا إلى ذكر لفظ الصبح دون النهار؛ لأنه أرشق في المعنى. ولم يعرج الصفدي على محاولة تصحيح الطباق بين لفظي الليل والصبح في بيت المتنبي، ولذلك كان بحثُ البدر البشتكي مع الصفدي بحثًا متمكنًا.
والذي يدفع عن المتنبي انتقاد المعتمد ابن عباد أن المضادة حاصلة بين الليل والصبح إذ الصبح جزئي من جزئيات النهار الذي هو ضد الليل والجزئي قائم به معنى الكلي، إذ لا وجود للكلي في نفس الأمر إلا في ضمن جزئياته، كما تقرر في علم المنطق. على أن الأدباء يجتزئون في محسِّن المضادة المسمى بالطباق، بحصول التضاد ولو على وجه الإجمال، فقد عدوا من الطباق قوله تعالى:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، مع أن الشدة إنما يقابلها اللين، واعتبرت مقابلتها بالرحمة؛ لأن الرحمة مسببة عن الرقة واللين في المعاملة. وقد أخذ المتنبي بعض معنى هذا البيت من قول عبد الله بن المعتزّ.
لا تَلْقَ إلا بليل منْ تواصلُه
…
فالشمسُ نمامة والليل قَوَّاد (1)
وتصرف فيه تصرفًا بديعًا بما أراح من بشاعة كلمة قواد، فلله درّ المتنبي، ويرحم الله ابن عباد.
القرطاس الرابع:
يحوي قرطاسنا هذا حديثًا بديعًا غريبًا من أحسن ما ورد في أخبار نقد الشعر والمراجعة فيه بين ناقديه وشاعريه، وهو ما ذكره الشيخ عبد القاهر الجرجاني في
(1) ديوان ابن المعتز، (طبعة دار صادر)، ص 166. وللبيت ثانٍ يقول فيه الشاعر:
كَمْ عَاشِقٍ وَظَلَامُ اللَّيْلِ يَسْتُرُهُ
…
لَاقَى أَحِبَّتَهُ، وَالنَّاسُ رُقَّادُ
كتاب "دلائل الإعجاز" أن عنبسة الفيل (1) قال: قدم ذو الرمة (2) الكوفة فوقف بالكُناسة وهو على ناقته، فجعل ينشد الناس قصيدته التي أولُها:
أَمَنْزِلَتِي مَيٍّ سَلَامٌ عَلَيْكُمَا
…
عَلَى النَّأْيِ وَالنَّائِي يَودُّ وَيَنْصَحُ
حتى بلغ قوله:
إِذَا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ
…
رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
وكان عبد الله بن شبرمة (3) حاضرًا فناداه: "يا غيلان أراه قد برح (يريد أن رسيس الهوى قد زال بعد ذلك لقوله: لم يكد يبرح). قال عنبسة: فشنق (4) ذو الرمة ناقته، وجعل يتأخر بها ويتفكر، ثم أعاد البيت هكذا:
(1) عنبسة الفيل هو عنبسة بن معدان الميساني، وكان ينتسب إلى مهرة بن حيدان، ويضاف اسمه إلى الفيل لأن أباه معدان كان يقال له معدان الفيل بالإضافة، بسبب أن زياد بن أبي سفيان - كما يقول ياقوت - أو أن عبد الله بن عامر - كما يقول ابن الأنباري في نزهة الألباء - كانت له فيلة بالكوفة ينفق عليها كل يوم عشرة دراهم، فأقبل رجل من أهل ميسان يقال له معدان، فقال: ادفعوها إلي وأكفيكم المؤونة وأعطيكم عشرة دراهم كل يوم، فدفعوها إليه، فأثرى وابتنى قصرًا، ونشأ له ابن يقال له عنبسة فروى الأشعار وظرف وفصح وملح، وغلب عليه إضافته إلى الفيل، كما غلب على أبيه. وكان نحويًّا إمامًا، أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وكان من أبرز أصحابه. وكان من الأولين ممن وضعوا علم النحو. ترجمه ابن الأنباري في "نزهة الألباء" وياقوت في "معجم الأدباء" والسيوطي في "البغية". - المصنف.
قال محقق كتاب دلائل الإعجاز العلّامة محمود محمد شاكر هكذا هنا "عن عنبسة وأرجح أنه خطأ. . ." لأن راوي الخبر هو عبد الصمد بن المعذل، عن جده غيلان بن الحكم بن البختري بن المختار. وقال: الخبر بتمامه في الموشح 179، 180، والأغاني 18/ 34. دلائل الإعجاز، ص 274 - 275.
(2)
ذو الرمة هو غيلان بن عطية من بني عدي من الرباب، يلقب بذي الرُّمة (بضم الراء). والرمة الحبل. كان من شعراء البادية ومن عشاق العرب، شغف بمية، وكان منزله بقرب الدهناء حذو منازل بني تميم. - المصنف.
(3)
هو عبد الله بن شبرمة الضبي الكوفي، قاضي الكوفة، تابعي صغير، توفي سنة 144 هـ.
(4)
جذب لها الزمام حتى رفعت رأسها لتتأخر فيخلو عن الناس.
إذا غَيَّر النأيُ المُحِبِّينَ لَمْ أَجِدْ
…
رَسِيسَ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
وفي رواية: لم تجد. قال عنبسة: فلما انصرفت حدثت أبي (1) بما كان، فقال لي: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غير شعره لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقول الله تعالى:{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، وإنما هو لم يرها ولم يكد" (2).
هذا ما نقل من هذا المشهد الأدبي الرائع. فوجه ما انتقده ابن شبرمة على ذي الرمة أنه شاع في كلامهم أن يقال: ما كاد فلان يفعل ولم يكد يفعل، في أمر هو قد وقع إلا أنه ما وقع إلا بعد لأيٍ وعناء، وقد كان بعيدًا في الظن أن يفعله، كقوله تعالى:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71]، قال في الكشاف:"قوله {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [استثقال لاستقصائهم] واستبطاء لهم، وأنهم لتطويلهم المفرط [وكثرة استكشافهم] ما كادوا يذبحونها و [ما كادت] تنتهي سؤالاتهم"(3)، أي ثم انتهت، فلما قال ذو الرمة: "لم يكد رسيس الهوى من حب مية
(1) قال محقق "دلائل الإعجاز" العلامة محمود محمد شاكر: "حدثت أبي" قائله غيلان بن الحكم، وأبوه هو الحكم بن البخترى بن المختار. دلائل الإعجاز، ص 275 (الحاشية رقم 1).
(2)
الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 274 - 275. هذا وقد أورد المصنف كلام عنبسة الفيل بتصرف، كما أن البيت الأول من قصيدة ذي الرمة الحائية التي أنشدها بالكناسة لم يذكره عنبسة حسب ما حكاه عنه الجرجاني، وإنما ذكر الأبيات الثلاثة الآتية:
هي البُرءُ والأسقامُ والهمُّ والمُنى
…
وموتُ الهوى في القلب منِّي المبرِّحُ
وَكَان الهوى بالنأيِ يُمحَى فيمَّحي
…
وحبكِ عندي يستجِدُّ ويربَحُ
إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يكَدْ
…
رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
والبيتان اللذان ذكرهما المصنف من قصيدة "بكى زوج ميّ" من الطويل، وهما الأول والثاني حسب ترتيبهما في الديوان. ديوان ذي الرمة، ص 43. أما البيت الأول من المجموعة التي أوردها الجرجاني في القصة فترتيبه في القصيدة كما هي في الديوان 26، وأما الثاني فغير موجود.
(3)
الزمخشري: الكشاف، ج 1، ص 154.
يبرح"، حمله ابن شبرمة على هذا المحمل، فقال له: أراه قد برح، أي: لأن مثل قوله: لم يكد يبرح يقتضي أنه قد برح بعد ذلك.
وأما وجه رد معدان (1) نقد ابن شبرمة، فإن كلام ذي الرمة جرى على دلالة ذلك التركيب بحسب الوضع، فان نفي فعل المقاربة يدل بأصله على انتفاء مدلول الفعل وهو المقاربة، فتنتفي مقاربةُ وقوع الفعل بالصراحة، بطريق اللزوم على نفي وقوع الفعل بالأولى. وذلك كقوله تعالى:{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، فإنه مبالغة في انتفاء رؤية الرائي يدَه في تلك الظلمات، ولهذا الاعتبار فسّر الكشاف قوله تعالى:{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، فقال: "مبالغة في لم يرها، أي لم يقرب أن يراها فضلًا عن أن يراها، ومثله قول ذي الرمة:
إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يكَدْ
…
رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
أي لم يقرب من إبراح فما باله يبرح".
فرأيُ صاحب الكشاف موافقٌ لرأي معدان الفيل، ورأي عبد القاهر أن الوضعَ وبعضَ الاستعمال شاهدان لبديهة ذي الرمة ولمعدان الفيل، وأن الاستعمالَ العرفي قد جرى أيضًا بأن يقال ما كاد يفعل ولم يكد يفعل في فعل قد حصل، يشيرون بذلك إلى أنه ما حصل إلا بعد جهد وبعد أن كان بعيدًا في الظن حصولُه، كقوله تعالى:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71]، وأن ذلك هو الذي أوهم ابن شبرمة، وأوقع ذا الرمة في مثل ذلك الوهم فغيّر بيته بعد التفكر.
أما أنا فأرى أن عربية ذي الرمة ما كانت لتحيد به عن كلامه الأول إلى إصلاحه، لولا أنه رأى نقدَ ابن شبرمة متجهًا وحقًّا، لا سيما وهو قد غيّر بيته بعد أن
(1) الصواب أن الذي رد نقد ابن شبرمة هو الحكم بن البخترى بن المختار. دلائل الإعجاز، ص 275.
خلا بنفسه وفكّر مليًّا، ولم يزل ذلك البيت مثبتًا في ديوانه عندنا على الوجه الذي أصلحه به، فما هو إلا أن ذا الرمة بعد تفكره وقع بين رأيين:
أحدهما: أن يكون رأى دلالة نفي كاد على انتفاء مقاربة الفعل بحسب أصل الوضع دلالة غير صريحة في الاستعمال لورودها في ذلك النفي في الاستعمال بوجهين كما في آية: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71] وآية: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] بحسب ظاهرها على تفسير الزمخشري، فأراد أن يتجنب تركيبًا محتمل الدلالة مطروقًا للنقد، فغيّر ذلك بما هو دونه في الجزالة، إذ لا يخفى ضعفُ قوله لم أجد أو لم تجد. وهذا ما ظنه به العلامة ابن مالك في شرح التسهيل (1).
الرأي الثاني: أن يكون رأى أن نفيَ كاد نُقل في الاستعمال من دلالته الوضعية إلى دلالة أخرى، فصار قولُهم: ما كاد يفعل، بمنزلة كاد أن لا يفعل، كقوله تعالى:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71]، حيث جمع بين إثبات وقوع الفعل وبين نفي المقاربة، بحيث صار بيتُ ذي الرمة خطأ في المراد، إذ اقتضى أن رسيس الهوى كاد أن لا يبرح أي وقد برح. ويكون قوله تعالى:{لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] ليس المقصود منه أنه لا يرى يده ولا يقارب، بل المقصود منه أنه يكاد أن لا يراها أي بحيث يراها بجهد وعناء على غير ما فسر به صاحب الكشاف، فيكون ذو الرمة قد أخطأ في عربيته في بيته الأول فأصلح بيته لذلك بالإصلاح الثاني.
وهذا الاحتمال يدخل مغمزًا في الاحتجاج بعربية ذي الرمة. وأنا أرجّح هذا الاحتمال الثاني، وأرى أن نفي كاد في كلام العرب صار من طرق القلب، فهو قلب مطّرد نقل به ذلك التركيب من ظاهره إلى خلاف مقتضى الظاهر، ولا أحسب أن العرب ينفون كاد ويريدون نفي المقاربة، ليدلوا على تعين وقوع الفعل بطريق
(1) ابن مالك: شرح التسهيل، ص 400.
اللزوم؛ لأن هذا ليس من طرق بلاغتهم فيما تحققناه من استعمالهم، وأن قوله تعالى:{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] جاء على ذلك الاعتبار، أي يكاد لا يراها؛ لأن الذي يسير في البحر في ظلمات يرى يده إذا أخرجها بعناء. وبذلك يدخل الشك في سلامة ذوق ذي الرمة في بديهته حين رمى بيته الأول على عواهنه، ويجعلنا نعدّه في صف أهل العلم باللغة؛ لأنه ما أصلح بيته إلا عن تأمل وتفكر.