المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قال تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ٤

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌بشار بن برد: حياته وشعره

- ‌مقدمة:

- ‌نسب بشار:

- ‌اسمه وكنيته ولقبه:

- ‌أهل بشار:

- ‌مولده ونشأته ووفاته:

- ‌صفته:

- ‌عمى بشار:

- ‌لباسه:

- ‌خلق بشار:

- ‌بداهة جوابه وملحه:

- ‌مجلس بشار:

- ‌اعتقاد بشار:

- ‌سبب وفاته:

- ‌مكانته لدى الخلفاء والأمراء:

- ‌غرامه وهل هو حقيقة أو تصنع

- ‌سعة علمه بالعربية وتفننه:

- ‌البصرة وقبائل العرب حولها:

- ‌مرتبته من العلم:

- ‌شعر بشار

- ‌نظم شعره:

- ‌نسيب بشار:

- ‌هجاء بشار:

- ‌رجز بشار:

- ‌أقدم شعر بشار:

- ‌رواة بشار وكاتبو شعره:

- ‌توسع بشار في اللغة وقياسه فيها:

- ‌توسعه في العروض وفي الضرورة:

- ‌مكانة شعر بشار من حفظ فصيح اللغة ومستعملها:

- ‌مكان شعر بشار من حفظ التاريخ في الجاهلية والإسلام:

- ‌شهادة الأئمة لبشر بجزالة الشعر وسلامة الذوق:

- ‌اهتمام أهل الصناعة بشعر بشار:

- ‌من نقد بشارا ومن أجاب عنه:

- ‌نقده للشعر والشعراء:

- ‌مكانة بشار من النثر:

- ‌علاقة بشار بإفريقية:

- ‌أعلام شعر بشار:

- ‌ديوان بشار:

- ‌النسخة المستخرجة من هذا الجزء من الديوان:

- ‌[خاتمة: منهج المصنف في تحقيق الديوان]:

- ‌قراطيس من نقد الشعر

- ‌القرطاس الأول:

- ‌القرطاس الثاني:

- ‌القرطاس الثالث:

- ‌القرطاس الرابع:

- ‌طريقة من شعر العرب في توجيه الخطاب إلى المرأة

- ‌السند التونسي في علم متن اللغة

- ‌ابن سيده:

- ‌اتصال السند الأندلسي بتونس:

- ‌المحْوَر الخامِسمُرَاجَعَات وَمُتَابَعَات وَمُتفَرَّقات

- ‌الفَرْع الأَوّلمُرَاجَعَات

- ‌نقد علمي لكتاب "الإسلام وأصول الحكم

- ‌[تقديم]

- ‌الكتاب الأول: الخلافة والإسلام

- ‌الباب الأول: الخلافة وطبيعتها:

- ‌الباب الثاني: في حكم الخلافة:

- ‌الباب الثالث: في الخلافة من الوجهة الاجتماعية:

- ‌الكتاب الثاني: الحكومة والإسلام

- ‌الباب الثاني: الرسالة والحكم:

- ‌الباب الثالث: رسالة لا حكم، دين لا دولة:

- ‌الكتاب الثالث: الخلافة والحكومة في التاريخ

- ‌الباب الأول: الوحدة الدينية والعرب:

- ‌الباب الثاني: الدولة العربية:

- ‌الباب الثالث: الخلافة الإسلامية:

- ‌[خاتمة]

- ‌نظرة في الكتاب المعنون "‌‌مقدمةفي النحو" المنسوب إلى الإمام خلَف الأحمر

- ‌مقدمة

- ‌مؤلف هذه المقدمة:

- ‌هل يعد خلف الأحمر من أئمة النحو؟ وهل يعد من نحاة المذهب البصري أو من نحاة المذهب الكوفي

- ‌وصف هذه المقدمة:

- ‌إيضاح ما يحتاج إليه في المقدمة:

- ‌تفسير الشواهد الشعرية الواردة في هذه المقدمة وهي غير معروفة في شواهد النحو

- ‌نظرة في كتاب "الجامع الكبير" لابن الأثير

- ‌مقارنة وتحليل بين كتاب "المثل السائر" وكتاب "الجامع الكبير

- ‌تُحفةُ المجد الصريح في شرح كتاب الفصيح

- ‌[مقدمة]

- ‌[نسب اللبلي وطرف من حياته ورحلته وأسماء أساتذته وتلاميذه]

- ‌مؤلفاته

- ‌صفة كتاب تحفة المجد الصريح

- ‌كتاب الفصيح وما عليه من الشروح

- ‌هل توجد نسخة أخرى من كتاب تحفة المجد الصريح

- ‌تكملة وتقفية للتعريف بكتاب "تحفة المجد الصريح" وصاحبه وأصله

- ‌تصحيح أخطاء وتحاريف في طبعة جمهرة الأنساب لابن حزم

- ‌الفَرْعُ الثَّانِيمُتَابعَات

- ‌أخطاء الكتاب في العربية: رد على نقد

- ‌تحقيق ترجمة عالم كبير وإصلاح وهْم في تسميته

- ‌نظرات على ترجمة السكاكي

- ‌نسبه:

- ‌اهتمام العلماء بكتاب المفتاح

- ‌نشأة السكاكي الجثمانية والعلمية:

- ‌نحلته ومذهبه

- ‌العصر الذي ألف فيه "المفتاح

- ‌تذييل لترجمة سعد الدين التفتازاني

- ‌الفَرْعُ الثَّالِثمُقَدِّمات كُتُب

- ‌النابغة الذبياني وشعره

- ‌نسبه:

- ‌مكانته في الشعر

- ‌ما عيب به شعره:

- ‌تحكيمه بين الشعراء:

- ‌اتصاله بالنعمان بن المنذر:

- ‌لحاق النابغة بملوك غسان بعد هربه من النعمان بن المنذر:

- ‌انقطاع أخريين النابغة والنعمان، ورجوعه إلى النعمان لما بلغه مرضه:

- ‌شرف النابغة ورفاهية عيشه

- ‌دين النابغة:

- ‌من لقب بالنابغة من الشعراء بعد النابغة الذبياني:

- ‌تنبيه لتكملة ديوان النابغة:

- ‌الواضح في مشكلات شعر المتنبي

- ‌الغرض من هذا الكتاب

- ‌طريقة هذا الكتاب:

- ‌ترتيب الأبيات التي فسرها في هذا الكتاب:

- ‌ترجمة مؤلف كتاب الواضح:

- ‌اسم الكتاب:

- ‌نسخة الكتاب:

- ‌سرقات المتنبي ومشكل معانيه

- ‌من هو ابن بسام صاحب الذخيرة

- ‌غرض هذا الكتاب وطريقته

- ‌مؤلف هذا الكتاب

- ‌صفة نسخة كتاب "سرقات المتنبي ومشكل معانيه" لابن بسام النحوي:

- ‌الفتح ابن خاقان وكتابه "قلائد العقيان

- ‌ترجمة مؤلف "قلائد العقيان

- ‌مشيخته:

- ‌مكانته من الإنشاء والشعر:

- ‌تآليفه:

- ‌أخلاقه وحاله:

- ‌كتاب "قلائد العقيان

- ‌اسم الكتاب:

- ‌حالةُ نسخ كتاب القلائد مخطوطها ومطبوعها:

- ‌النسخ التي أجريت المقابلة بها:

- ‌المطبوعات من "قلائد العقيان

- ‌الفَرْعُ الرَّابعُخُطَب وَرَسَائِل

- ‌خطاب ابن عاشور عند عودته لمشيخة جامع الزيتونة وفروعه عام 1364/ 1945

- ‌خطاب في حفل اختتام السنة الدراسية بجامع الزيتونة

- ‌فضيلة العلم وحظ الأمة التونسية منه:

- ‌النصح للزيتونة هو النصح لمتعلميها:

- ‌كيف كانت العلوم بالزيتونة وكيف يجب أن تكون

- ‌ضبط البرامج:

- ‌عناية ملوك تونس بالعلم:

- ‌شكر الأمة التونسية

- ‌شكر الطلبة الزيتونيين:

- ‌العناية بالفروع الزيتونية:

- ‌العناية بالتعليم الابتدائي:

- ‌دعوة أبوية لشيوخ التدريس:

- ‌النتيجة بعد اطراد العناية:

- ‌الحمد لله .. لنحمد الله

- ‌خطاب في احتفال جمعية الزيتونيين

- ‌خطاب بالفرع الزيتوني بصفاقس

- ‌خطاب في حفل الفرع الزيتوني بسوسة

- ‌خطاب في جامع عقبة خلال زيارة الفرع الزيتوني بالقيروان

- ‌خطاب في الاحتفال السنوي لمكتبة التلميذ الزيتوني

- ‌خطاب في الجلسة العامة للجنة الحي الزيتوني

- ‌خطاب في الذكرى السنوية الأولى لعودته إلى مشيخة الزيتونة

- ‌خطاب في موسم ختم السنة الدراسية

- ‌حوار حول إصلاح التعليم الزيتوني

- ‌[من تقديم محرر المجلة]:

- ‌الرسالة الأولى

- ‌الرسالة الثانية

- ‌الرسالة الثالثة

- ‌الرسالة الرابعة

- ‌الرسالة الخامسة

- ‌ملحق

- ‌رسالتان إلى الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌الرسالة الأولى

- ‌الرسالة الثانية

- ‌رسالة إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة بمناسبة تأبين الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور

- ‌قصيدة في مدح الشيخ محمد النخلي

- ‌دعوة إلى الشيخ محمد الخضر حسين:

- ‌مصادر التحقيق ومراجعه

- ‌أعمال المصنف:

- ‌أ) التأليف:

- ‌ب) التحقيق:

- ‌التفسير والدراسات القرآنية:

- ‌الحديث والسنة:

- ‌علم الكلام والفلسفة:

- ‌الفقه وأصول الفقه:

- ‌اللغة والأدب:

- ‌التاريخ والسير والتراجم والطبقات:

- ‌موسوعات ومعاجم وقواميس:

- ‌المجلات والدوريات:

- ‌خطب ورسائل:

- ‌مراجع متنوعة:

الفصل: قال تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ

قال تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]. فلذاك كان جواب الصفدي غير وجيه؛ لأن غايته أن المتنبي كان مضطرًّا إلى ذكر لفظ الصبح دون النهار؛ لأنه أرشق في المعنى. ولم يعرج الصفدي على محاولة تصحيح الطباق بين لفظي الليل والصبح في بيت المتنبي، ولذلك كان بحثُ البدر البشتكي مع الصفدي بحثًا متمكنًا.

والذي يدفع عن المتنبي انتقاد المعتمد ابن عباد أن المضادة حاصلة بين الليل والصبح إذ الصبح جزئي من جزئيات النهار الذي هو ضد الليل والجزئي قائم به معنى الكلي، إذ لا وجود للكلي في نفس الأمر إلا في ضمن جزئياته، كما تقرر في علم المنطق. على أن الأدباء يجتزئون في محسِّن المضادة المسمى بالطباق، بحصول التضاد ولو على وجه الإجمال، فقد عدوا من الطباق قوله تعالى:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، مع أن الشدة إنما يقابلها اللين، واعتبرت مقابلتها بالرحمة؛ لأن الرحمة مسببة عن الرقة واللين في المعاملة. وقد أخذ المتنبي بعض معنى هذا البيت من قول عبد الله بن المعتزّ.

لا تَلْقَ إلا بليل منْ تواصلُه

فالشمسُ نمامة والليل قَوَّاد (1)

وتصرف فيه تصرفًا بديعًا بما أراح من بشاعة كلمة قواد، فلله درّ المتنبي، ويرحم الله ابن عباد.

‌القرطاس الرابع:

يحوي قرطاسنا هذا حديثًا بديعًا غريبًا من أحسن ما ورد في أخبار نقد الشعر والمراجعة فيه بين ناقديه وشاعريه، وهو ما ذكره الشيخ عبد القاهر الجرجاني في

(1) ديوان ابن المعتز، (طبعة دار صادر)، ص 166. وللبيت ثانٍ يقول فيه الشاعر:

كَمْ عَاشِقٍ وَظَلَامُ اللَّيْلِ يَسْتُرُهُ

لَاقَى أَحِبَّتَهُ، وَالنَّاسُ رُقَّادُ

ص: 1719

كتاب "دلائل الإعجاز" أن عنبسة الفيل (1) قال: قدم ذو الرمة (2) الكوفة فوقف بالكُناسة وهو على ناقته، فجعل ينشد الناس قصيدته التي أولُها:

أَمَنْزِلَتِي مَيٍّ سَلَامٌ عَلَيْكُمَا

عَلَى النَّأْيِ وَالنَّائِي يَودُّ وَيَنْصَحُ

حتى بلغ قوله:

إِذَا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ

رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ

وكان عبد الله بن شبرمة (3) حاضرًا فناداه: "يا غيلان أراه قد برح (يريد أن رسيس الهوى قد زال بعد ذلك لقوله: لم يكد يبرح). قال عنبسة: فشنق (4) ذو الرمة ناقته، وجعل يتأخر بها ويتفكر، ثم أعاد البيت هكذا:

(1) عنبسة الفيل هو عنبسة بن معدان الميساني، وكان ينتسب إلى مهرة بن حيدان، ويضاف اسمه إلى الفيل لأن أباه معدان كان يقال له معدان الفيل بالإضافة، بسبب أن زياد بن أبي سفيان - كما يقول ياقوت - أو أن عبد الله بن عامر - كما يقول ابن الأنباري في نزهة الألباء - كانت له فيلة بالكوفة ينفق عليها كل يوم عشرة دراهم، فأقبل رجل من أهل ميسان يقال له معدان، فقال: ادفعوها إلي وأكفيكم المؤونة وأعطيكم عشرة دراهم كل يوم، فدفعوها إليه، فأثرى وابتنى قصرًا، ونشأ له ابن يقال له عنبسة فروى الأشعار وظرف وفصح وملح، وغلب عليه إضافته إلى الفيل، كما غلب على أبيه. وكان نحويًّا إمامًا، أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وكان من أبرز أصحابه. وكان من الأولين ممن وضعوا علم النحو. ترجمه ابن الأنباري في "نزهة الألباء" وياقوت في "معجم الأدباء" والسيوطي في "البغية". - المصنف.

قال محقق كتاب دلائل الإعجاز العلّامة محمود محمد شاكر هكذا هنا "عن عنبسة وأرجح أنه خطأ. . ." لأن راوي الخبر هو عبد الصمد بن المعذل، عن جده غيلان بن الحكم بن البختري بن المختار. وقال: الخبر بتمامه في الموشح 179، 180، والأغاني 18/ 34. دلائل الإعجاز، ص 274 - 275.

(2)

ذو الرمة هو غيلان بن عطية من بني عدي من الرباب، يلقب بذي الرُّمة (بضم الراء). والرمة الحبل. كان من شعراء البادية ومن عشاق العرب، شغف بمية، وكان منزله بقرب الدهناء حذو منازل بني تميم. - المصنف.

(3)

هو عبد الله بن شبرمة الضبي الكوفي، قاضي الكوفة، تابعي صغير، توفي سنة 144 هـ.

(4)

جذب لها الزمام حتى رفعت رأسها لتتأخر فيخلو عن الناس.

ص: 1720

إذا غَيَّر النأيُ المُحِبِّينَ لَمْ أَجِدْ

رَسِيسَ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ

وفي رواية: لم تجد. قال عنبسة: فلما انصرفت حدثت أبي (1) بما كان، فقال لي: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غير شعره لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقول الله تعالى:{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، وإنما هو لم يرها ولم يكد" (2).

هذا ما نقل من هذا المشهد الأدبي الرائع. فوجه ما انتقده ابن شبرمة على ذي الرمة أنه شاع في كلامهم أن يقال: ما كاد فلان يفعل ولم يكد يفعل، في أمر هو قد وقع إلا أنه ما وقع إلا بعد لأيٍ وعناء، وقد كان بعيدًا في الظن أن يفعله، كقوله تعالى:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71]، قال في الكشاف:"قوله {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [استثقال لاستقصائهم] واستبطاء لهم، وأنهم لتطويلهم المفرط [وكثرة استكشافهم] ما كادوا يذبحونها و [ما كادت] تنتهي سؤالاتهم"(3)، أي ثم انتهت، فلما قال ذو الرمة: "لم يكد رسيس الهوى من حب مية

(1) قال محقق "دلائل الإعجاز" العلامة محمود محمد شاكر: "حدثت أبي" قائله غيلان بن الحكم، وأبوه هو الحكم بن البخترى بن المختار. دلائل الإعجاز، ص 275 (الحاشية رقم 1).

(2)

الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 274 - 275. هذا وقد أورد المصنف كلام عنبسة الفيل بتصرف، كما أن البيت الأول من قصيدة ذي الرمة الحائية التي أنشدها بالكناسة لم يذكره عنبسة حسب ما حكاه عنه الجرجاني، وإنما ذكر الأبيات الثلاثة الآتية:

هي البُرءُ والأسقامُ والهمُّ والمُنى

وموتُ الهوى في القلب منِّي المبرِّحُ

وَكَان الهوى بالنأيِ يُمحَى فيمَّحي

وحبكِ عندي يستجِدُّ ويربَحُ

إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يكَدْ

رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ

والبيتان اللذان ذكرهما المصنف من قصيدة "بكى زوج ميّ" من الطويل، وهما الأول والثاني حسب ترتيبهما في الديوان. ديوان ذي الرمة، ص 43. أما البيت الأول من المجموعة التي أوردها الجرجاني في القصة فترتيبه في القصيدة كما هي في الديوان 26، وأما الثاني فغير موجود.

(3)

الزمخشري: الكشاف، ج 1، ص 154.

ص: 1721

يبرح"، حمله ابن شبرمة على هذا المحمل، فقال له: أراه قد برح، أي: لأن مثل قوله: لم يكد يبرح يقتضي أنه قد برح بعد ذلك.

وأما وجه رد معدان (1) نقد ابن شبرمة، فإن كلام ذي الرمة جرى على دلالة ذلك التركيب بحسب الوضع، فان نفي فعل المقاربة يدل بأصله على انتفاء مدلول الفعل وهو المقاربة، فتنتفي مقاربةُ وقوع الفعل بالصراحة، بطريق اللزوم على نفي وقوع الفعل بالأولى. وذلك كقوله تعالى:{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، فإنه مبالغة في انتفاء رؤية الرائي يدَه في تلك الظلمات، ولهذا الاعتبار فسّر الكشاف قوله تعالى:{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، فقال: "مبالغة في لم يرها، أي لم يقرب أن يراها فضلًا عن أن يراها، ومثله قول ذي الرمة:

إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يكَدْ

رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ

أي لم يقرب من إبراح فما باله يبرح".

فرأيُ صاحب الكشاف موافقٌ لرأي معدان الفيل، ورأي عبد القاهر أن الوضعَ وبعضَ الاستعمال شاهدان لبديهة ذي الرمة ولمعدان الفيل، وأن الاستعمالَ العرفي قد جرى أيضًا بأن يقال ما كاد يفعل ولم يكد يفعل في فعل قد حصل، يشيرون بذلك إلى أنه ما حصل إلا بعد جهد وبعد أن كان بعيدًا في الظن حصولُه، كقوله تعالى:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71]، وأن ذلك هو الذي أوهم ابن شبرمة، وأوقع ذا الرمة في مثل ذلك الوهم فغيّر بيته بعد التفكر.

أما أنا فأرى أن عربية ذي الرمة ما كانت لتحيد به عن كلامه الأول إلى إصلاحه، لولا أنه رأى نقدَ ابن شبرمة متجهًا وحقًّا، لا سيما وهو قد غيّر بيته بعد أن

(1) الصواب أن الذي رد نقد ابن شبرمة هو الحكم بن البخترى بن المختار. دلائل الإعجاز، ص 275.

ص: 1722

خلا بنفسه وفكّر مليًّا، ولم يزل ذلك البيت مثبتًا في ديوانه عندنا على الوجه الذي أصلحه به، فما هو إلا أن ذا الرمة بعد تفكره وقع بين رأيين:

أحدهما: أن يكون رأى دلالة نفي كاد على انتفاء مقاربة الفعل بحسب أصل الوضع دلالة غير صريحة في الاستعمال لورودها في ذلك النفي في الاستعمال بوجهين كما في آية: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71] وآية: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] بحسب ظاهرها على تفسير الزمخشري، فأراد أن يتجنب تركيبًا محتمل الدلالة مطروقًا للنقد، فغيّر ذلك بما هو دونه في الجزالة، إذ لا يخفى ضعفُ قوله لم أجد أو لم تجد. وهذا ما ظنه به العلامة ابن مالك في شرح التسهيل (1).

الرأي الثاني: أن يكون رأى أن نفيَ كاد نُقل في الاستعمال من دلالته الوضعية إلى دلالة أخرى، فصار قولُهم: ما كاد يفعل، بمنزلة كاد أن لا يفعل، كقوله تعالى:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71]، حيث جمع بين إثبات وقوع الفعل وبين نفي المقاربة، بحيث صار بيتُ ذي الرمة خطأ في المراد، إذ اقتضى أن رسيس الهوى كاد أن لا يبرح أي وقد برح. ويكون قوله تعالى:{لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] ليس المقصود منه أنه لا يرى يده ولا يقارب، بل المقصود منه أنه يكاد أن لا يراها أي بحيث يراها بجهد وعناء على غير ما فسر به صاحب الكشاف، فيكون ذو الرمة قد أخطأ في عربيته في بيته الأول فأصلح بيته لذلك بالإصلاح الثاني.

وهذا الاحتمال يدخل مغمزًا في الاحتجاج بعربية ذي الرمة. وأنا أرجّح هذا الاحتمال الثاني، وأرى أن نفي كاد في كلام العرب صار من طرق القلب، فهو قلب مطّرد نقل به ذلك التركيب من ظاهره إلى خلاف مقتضى الظاهر، ولا أحسب أن العرب ينفون كاد ويريدون نفي المقاربة، ليدلوا على تعين وقوع الفعل بطريق

(1) ابن مالك: شرح التسهيل، ص 400.

ص: 1723

اللزوم؛ لأن هذا ليس من طرق بلاغتهم فيما تحققناه من استعمالهم، وأن قوله تعالى:{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] جاء على ذلك الاعتبار، أي يكاد لا يراها؛ لأن الذي يسير في البحر في ظلمات يرى يده إذا أخرجها بعناء. وبذلك يدخل الشك في سلامة ذوق ذي الرمة في بديهته حين رمى بيته الأول على عواهنه، ويجعلنا نعدّه في صف أهل العلم باللغة؛ لأنه ما أصلح بيته إلا عن تأمل وتفكر.

ص: 1724