الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل يعد خلف الأحمر من أئمة النحو؟ وهل يعد من نحاة المذهب البصري أو من نحاة المذهب الكوفي
؟
إن تفوق خلف الأحمر وشهرته بين أهل العربية كانت أكثر ما يكون في الناحية الأدبية وما يتفرع عليها من النقد والموازنة وإثبات اللغة، فقد كان فذًّا في رواية أشعار العرب رجالًا وقبائل، ونشأت عنده من ممارسة ذلك ملكة الذوق بأساليب بلغاء العرب وفصيح الاستعمال؛ وحسبك من ذلك ما رواه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز عن الأصمعي قال: جاء أبو عمرو بن العلاء وخلف الأحمر يومًا إلى بشار بن برد فأنشدهما قصيدته في سَلْم بن قتيبة (1):
بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الهَجِيرِ
…
إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ
فقال له خلف: لو قلتَ يا أبا معاذ مكان "إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ"، "بَكِّرَا فالنَّجَاحُ في التبكير"، لكان أحسن! فقال بشار: إنما بنيتُها أعرابيةً وحشية، فقلت:"إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ"، [كما يقول الأعراب البدويون]، ولو قلتُ:"بَكِّرَا فالنَّجَاحُ في التبكير"، كان هذا من كلام المولَّدين، [ولا يشبه ذاك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة. قال: ] فقام خلفٌ فقبَّله بين عينيه". (2)
= (بيروت: دار إحياء التراث العربي، بدون تاريخ)، ج 2، ص 1426. وكذلك هي فاتحة الطبعة الجديدة التي اعتنى بها الدكتور إميل بديع يعقوب، والتي اعتمدنا عليها في توثيق ما استشهد به المصنف من كلام سيبويه. سيبويه: الكتاب، ج 1، ص 41.
(1)
هو الإمام المحدث سَلْم بن قتيبة، أبو قتيبة الخراساني الفريابي الشعيري، نزيل البصرة. حدث عن عيسى بن طهمان، ويونس بن أبي إسحاق، وعكرمة بن عمار، وشعبة وطبقتهم. وحدث عنه زيد بن أخزم، وعمرو بن علي الفلاس، وبندار، ومحمد بن يحيى الذهلي، وهارون بن سليمان الأصبهاني، وآخرون. وثقه أبو داود، واحتج به البخاري. توفي سنة 200 هـ.
(2)
الأصفهاني: الأغاني، ج 1/ 3، ص 677 - 678 (نشرة الحسين)؛ الجرجاني، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد: كتاب دلائل الإعجاز، تحقيق محمود محمد شاكر (القاهرة: مطبعة المدني، جدة: دار المدني، 1413/ 1992)، ص 272 - 273.
فكان خلف في هذا الشأن إمامًا غير مدافَع؛ والأخبار عنه في هذا كثيرة في كثرة محفوظاته وفي تهمته بوضع القصائد من نظمه ونسبتها إلى بعض مشاهير الشعراء، فتشتبه على النقاد بأشعار من تنسب إليهم. وقد تطرق الشكُّ بعضَ مروياته، وكثر الجدالُ في تصحيح ذلك. فأما في جانب علم النحو، فلا شبهةَ في أنه معدودٌ من أئمة النحاة، لذلك ترى النحاة قد عزَوا إليه آراء خاصة به في مسائل من النحو ليست قليلة.
إن علمَ النحو ظهر في الكوفة فيما دوّنه أبو الأسود الدؤلي في خلافة الخليفة الرابع، ولكن الكوفة والبصرة كانتا مدينتين نزلت قبائلُ العرب حولهما من نجْديين ويمنيين أهل الفصاحة. فنزلت مثلُ عُقيل وهُذيل وبني عامر حول البصرة، ومثلُ أسد وتميم حول الكوفة. فكان لأهل المدينتين حظٌّ من مخالطة الفصحاء واستعمال العربية الفصحى، وربما كان أهلُ البصرة أكثر تفرغًا لذلك؛ لأن الكوفة كانت معدودةً دارَ الجند؛ وعُرفت بذلك في قول عَبدة بن الطّيب:
إِنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ بَيْتًا مُهَاجِرَةً
…
بِكُوفَةِ الجُنْدِ غَالَتْ وُدَّهَا غُولُ (1)
وكان النحاة فيهما متقابسين (2) مسائلَهم، ولم يقع تمايزٌ بين طريقة البصريين وطريقة الكوفيين إلا بعد انحياز سيبويه وشيعته بالبصرة، وانحياز الكسائي وشيعته
(1) الشاعر هو عبدة بن يزيد الطيب بن عمرو بن وَعْلة بن أنس بن عبد الله بن عبد نهم بن جشم بن عبد شمس. شاعر مخضرم مُجيد ليس بالمُكثر، أدرك الإسلام وأسلم. شهد مع المثنى بن حارثة قتال هرمز سنة 13 هـ، وكان في جيش النعمان بن المُقَرِّن في حرب الفرس بالمدائن. كان عبدة أسود، وهو من لصوص الرباب. توفي نحو سنة 25/ 645. ترجم له الأصفهاني في "الأغاني" ترجمة قصيرة، وذكر ابن قتيبة في "الشعر والشعراء" شيئًا من شعره. جمع الدكتور يحيى الجبوري ما عثر عليه من شعره ونشره في ديوان. والبيت من قصيدة طويلة أوردها الضبي والبغدادي. الضبي: المفضليات، ص 125 (المفضلية 26)؛ البغدادي: منتهى الطلب، ص 174 - 177؛ شعر عبدة بن الطيب، تحقيق يحيى الجبوري (بغداد: دار التربية، 1391/ 1971)، ص 59 (وفيهما:"دونها" عوض "ودها").
(2)
أي يقتبس بعضُهم من بعض.
بالكوفة. وكان ظهورُ خلف الأحمر قبيل ذلك، فكان في عصر التقابس، ولكنه غلب عليه اتباعُ النحاة الكوفيين، ووافقهم في مسائل كثيرة من مسائل الخلاف، فنُسب إليهم.
وطريقةُ نحاة الكوفة أسعدُ بمنهج خلف؛ إذ كانت تغلب عليه روايةُ أشعار العرب. وفيها من نوادر الاستعمال توسعاتٌ تُلجئهم إليها الضرورة، ثم يتابع بعضُهم بعضًا فيها، فكان نحاةُ الكوفة يوسعون القواعدَ النحوية بمراعاة أن يسوِّغوا للمولَّدين استعمالَ ما يرد في شعر العرب، خلافًا لنحاة البصرة الذين لا يجيزون القياسَ على كثير من ذلك. فكثيرٌ مما يجعله نحاةُ البصرة مستثنًى من القاعدة ويصفونه بالندور، يجعله نحاةُ الكوفة من تمام القاعدة، فنحاةُ البصرة أشدُّ تثبتًا، وأضيقُ اشتراطًا.
ولذلك كان الكوفيون يأخذون عن البصريين، وكان البصريون لا يرضون بالأخذ عن الكوفيين، كما في "المزهر"(1). ومعنى هذا أن ذلك بعد أن افترق المذهبان بتحيز أتباع الكسائي، لا فيما قبل ذلك. ويظهر أن نحاة البصرة أرادوا لزَّ المولدين إلى اتّباع الاستعمال الشائع في العربية حفاظًا على سلامة اللغة من أخطاء المولدين كيلا تلتبس بتوسعات العرب الصرحاء حفظًا لقرار اللغة قرارًا مكينًا.
فأما الذين وصفوا خلفًا الأحمر بالبصري، فإنهم أرادوا نسبتَه إلى البلد الذي نشأ فيه وعُرف به، وهو محملُ كلام أبي الطيب الحلبي في كتابه "مراتب النحويين"، والسيوطي في ترجمته من "بغية الوعاة (2). ومن أجل ذلك لم يترجم له السيرافي في
(1) قال السيوطي في سياق كلامه على طبقات علماء اللغة والنحو وأخذ بعضهم عن بعض: "وكذلك أهل الكوفة كلهم يأخذون عن البَصْرِيين، وأهل البَصْرَة يمتنعون من الأخذ عنهم؛ لأنهم لا يرون الأَعْرَاب الذين يَحْكُونَ عنهم حجة". المزهر، ج 2، ص 351.
(2)
انظر: الحلبي، أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي: مراتب النحويين، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: مكتبة نهضة مصر ومطبعتها، بدون تاريخ)، ص 1، و 72 و 84؛ السيوطي: بغية الوعاة، ج 1، ص 554.
كتاب "أخبار النحويين البصريين". وهذا أبو البركات الأنباري في كتاب "الإنصاف" قال صراحة في المسألة الحادية عشرة: "وذهب خلفٌ الأحمر - من الكوفيين - إلى أن العامل في المفعول معنى المفعولية"(1)، وتبعه الرضيُّ في شرح الكافية في باب المفعول به. وآثار كونه من أصحاب الطريقة الكوفية تظهر في مواضع من هذه المقدمة إذ يقدِّم ذكر الكوفيين على البصريين كقوله:"وهو الذي يسميه الكوفيون الاستيتاء (كذا)، ويسميه البصريون القطع"(2)، وقوله:"والتحقيق يسميه الكوفيون الإيجاب"(3)، ونحو ذلك. فلم يبق مجالٌ للشك في أن خلفًا كان في عداد نحاة الكوفة، وعلى هذا سنبني النظرَ في توضيح مسائل هذه المقدمة.
والأصل في نسبة الناس أن يُنسبوا إلى قبائلهم وأجدادهم، ثم إلى مواطنهم وبلادهم، ومن القليل أن ينسبوا إلى النِّحل والأديان والمذاهب. فإذا كان الاسم المنسوب إليه بين الدلالة على النسبة فذاك، وإلا وجب التمحيص. لذلك تراهم كثيرًا ما يقولون في النسبة إلى القبائل إذا كان المنسوب من موالي القبيلة أن يتبعوا النسب بقولهم مولاهم. وقالوا في ترجمة أبي مسعود البدري عقبةَ بن عمرو الأنصاري البدري إنه نسب إلى بدر؛ لأنه كان يسكن ببدر، وليس هو ممن شهد بدرًا على أصح الأقوال.
(1) الأنباري، كمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن أبي الوفاء بن عبيد الله: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، نشرة بعناية حسن حمد وإشراف إميل بديع يعقوب (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1418/ 1997)، ج 1، ص 82.
(2)
صفحة 53 من المقدمة. - المصنف. الأحمر، خلف: مقدمة في النحو، تحقيق عز الدين التنوخي (دمشق: مديرية إحياء التراث القديم بوزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1381/ 1961)، ص 53. وقد بين محقق الكتاب معنى الاستيتاء فقال:"مصدر استأتاه: طلب أن يأتيه، وفي الإغراء يطلب المتكلم من المخاطَب أن يتطاوعه فيما يغريه به، أي إن الإغراء والقطع عند البصريين تسميه الكوفيون الاستيتاء".
(3)
صفحة 80 من المقدمة. - المصنف.
ومثلُ ذلك أن أبا منصور الأزهري اللغوي هو منسوبٌ إلى جد جده أزهر (1)، فلا يُتوهم أنه منسوبٌ إلى الجامع الأزهر، فإنه عُرف بهذا قبل أن يصطلح الناس على نسبة خريج الجامع الأزهر إليه. وكذلك نسبة القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي بالمالكي (2)؛ فإنها نسبة إلى جدّ جدِّ جدّه مالك ابن طَوْق صاحب الرحبة، وليس نسبةً إلى مذهب مالك الذي كان من جلة فقهائه؛ ولقد أشار المعري إلى الأمرين بقوله فيه حين نزل بمعرة النعمان:
وَالمَالِكِيُّ ابْنُ نَصْرٍ زَارَ فِي سَفَرٍ
…
بِلَادَنَا فَحَمَدْنَا النَّأيَ وَالسَّفَرَا
إِذَا تَفَقَّهَ أَحْيَا مَالِكًا جَدَلًا
…
وَيَنْشُرُ المَلِكَ الضِّلِّيلَ إِنْ شَعَرَا (3)
(1) أبو منصور محمد بن أحمد الهرويّ، الملقب بالأزهري نسبة إلى جده الأزهر بن طلحة بن نوح الهروي، ولد بهراة سنة 282/ 895. لغوي أديب أدرك الجلّة من أهل الشأن، كالزجَّاج ونفطويه وابن دريد، وأخذ عن الربيع بن سليمان وابن السراج. جاء إلى بغداد عائدًا من حجّ فَأَسرَتْهُ القرامطة، ووقع في سهم عرب من أهل البادية من قبيلة هوازن فبقي فيهم زمنًا طويلًا (قيل سبعًا وعشرين سنة) في البادية، وتعلم عليهم فحفظ من طرقهم، إذ كانوا فصحاء لا يتطرق إليهم اللحن. أخذ عنه أبو عبيد الهروي صاحب "كتاب الغريبين"، وأبو يعقوب القراب السرخسي الهروي (محدث هراة)، وأبو سعيد بن علي بن عمرو الذي روى عن الأزهري كتاب "معاني القراءات"، وأبو ذر عبد الله بن أحمد الحافظ الهروي، الفقيه المالكي، وغيره. صنف كتبًا كثيرة، منها كتابه المشهور في اللغة "تهذيب اللغة" مرتبًا إياه على طريقة الخليل في كتاب العين. وله "تفسير ألفاظ مختصر المُزَنِي"، و"التقريب في التفسير"، و"شرح شعر أبي تمام"، وغير ذلك. وكان عارفًا بالحديث عالي الإسناد. توفي أبو منصور سنة 370/ 980.
(2)
هو الإمام العلامة، شيخ المالكية بالعراق، أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن حسين بن هارون بن أمير العرب مالك بن طوق التغلبي العراقي، من أولاد صاحب الرحبة. فقيه محقق، وعالم باللغة، وشاعر مرهف. ولد ببغداد سنة 362/ 974 هـ، وتوفي سنة 422/ 1031 هـ في مصر التي رحل إليها سنة 419 هـ. من تصانيفه "التلقين"، و"الإشراف في نكت مسائل الخلاف"، و"المعونة في مذهب عالم المدينة"، و"شرح الرسالة"(لابن أبي زيد القيرواني)، و"الملخص في أصول الفقه".
(3)
البيتان هما التاسع والعاشر من قصيدة من بحر البسيط يخاطب فيها الشاعر أبا القاسم التنوخي. المعري: سقط الزند، ص 314 - 315؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، ج 29، ص 85 - 86؛
فوصف خلف بالبصري؛ لأنه سكن البصرة طويلًا تبعًا لمولاه بلال بن أبي بردة الذي ولي شرطة البصرة سنة 109 هـ، وُلي عاملًا بها قاضيًا إلى أن عُزل سنة 120 هـ، وإن كان أصل مواليه من أهل الكوفة من أصحاب الخليفة الرابع. قال ابن حزم في الجمهرة:"كان عقب أبي بردة منتشرًا بين الكوفة والبصرة"(1).
فبحق ينقشع الترددُ في مذهب خلف في النحو أنه كوفي المذهب، وينهار ما بني على عدّه بصريَّ المذهب في النحو من استبعاد أن يخطّئ سيبويه وهو من أهل طريقته، ثم إبطال أن يكون خلف هو الذي ألقى المسائل على سيبويه في مجلس المناظرة. على أنه لو فُرض انتسابُ خلف إلى المذهب البصري، لم يكن ذلك مثارًا لاستبعاد وقوع خلاف بينه وبين سيبويه في مسائل، فطالما اختلف علماء أهل المذهب الواحد في مسائل من علمهم.
وليس فيما رواه أكثرُ الرواة لخبر مجلس المناظرة تعيينُ أيِّ الأحمرين حضر ذلك المجلس، ولا ما يمنع أن يكون كلاهما حاضرَه، فأيُّ دليل يدفع أن خلفًا مع الحاضرين؟ وقد أثبت ذلك ابنُ الأنباري في كتاب "الإنصاف" فقال:"حضر سيبويه في مجلس يحيى بن خالد وعنده ولداه ومَنْ حضر بحضورهم من الأكابر، فأقبل خلفٌ الأحمر على سيبويه قبل حضور الكسائي، فسأله عن مسألة" إلخ (2)،
(1) صفحة 374 طبع دار المعارف بالقاهرة [1368]. - المصنف.
(2)
صفحة 293 طبع ليدن. - المصنف. وتمام الكلام: ". . . فسأله عن مسألة، فأجابه سيبويه، فقال له الأحمر: أخطأت، ثم سأله عن ثانية فأجابه فيها، فقال له: أخطأت، ثم سأله عن ثالثة فأجابه فيها، فقال له: أخطأت، فقال له سيبويه: هذا سوءُ أدب". وأما المسألة التي سأل فيها الكسائيُّ سيبويه فهي المعروفة بالمسألة الزنبورية حيث سأل الكسائيُّ سيبويه: "كيف تقول: كنتُ أظن أن العقرب أشدَّ لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب. فقال له الكسائي: لحَنتَ، ثم سأله عن مسائل أخرى من هذا النحو. . ." الأنباري: الإنصاف في مسائل الخلاف، ج 2، ص 209 - 210. وانظر كذلك: الزبيدي الأندلسي، أبو بكر محمد بن الحسن: طبقات النحويين واللغويين، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف، ط 2، 1984)، ص 68 - 71.
وكذلك عَيَّنَ خلفًا الأحمر ابنُ هشام (1). ولا ينفي ذلك أن يكون عليُّ بن المبارك الأحمر حاضرًا كما حكاه القفطي (2)، ولا يتعارض الخبران لإمكان أن يحضر كلاهما.
وأما الذي ألقى المسائلَ على سيبويه فهو خلف الأحمر لا محالة؛ لأنه بالمكانة التي تؤهله لذلك يومئذ، وهو أعظم شهرةً يومئذ من علي بن المبارك الأحمر وأسنُّ منه. فهذا وجهُ الجمع بين القولين. فإن اتّبعنا طريقةَ الترجيح، فترجيحُ ما قاله ابنُ الأنباري وابن هشام أولَى من ترجيح ما قاله القفطي؛ لأن ابن هشام من أئمة الطائفة النحوية، فهو أثبتُ فيما يرويه من أخبارهم وآرائهم، وأهل الدار أدرى بما فيها.
ولا يُعرف تَعيينُ الذي ألقى المسائلَ على سيبويه بأنه علي بن المبارك لغير القفطي، وفيه نظر. فالذي أثبته غيرُه بالأسانيد الصحيحة الاقتصارُ على ذكر الملقب بالأحمر، كما في الأشباه والنظائر بسند الزجاجي (3). وإذا جاز الوهم على ابن هشام في تعيين الأحمر بأنه خلف، فجوازُ الوهم على القفطي مثلُه، فلا موجِب لترجيح أحد الكلامين على الآخر. على أن القفطي قد صرح في ترجمة علي بن المبارك الأحمر بأنه لم يكن له ذكرٌ قبل أن يستخلفه الكسائي لتأديب أولاد الرشيد لمّا أصاب الكسائيَّ الوضَحُ في وجهه، حتى إنه لما سماه لأولاد الرشيد قالوا:"لم تأت لنا بأحد متقدم في العلم". وذكر أيضًا أن الأحمر "لم يكن له قبل ذلك ذكر، ولا يُعرف"(4).
وهذا يُغلِّب الظنَّ بأنه لم يكن يوم المناظرة بالرتبة التي تخوله حضور ذلك المجلس مع أول من حضر. وقد يكون عليٌّ الأحمر حضر في رفقة الكسائي لأنه من
(1) ابن هشام: مغني اللبيب، ج 2، ص 103.
(2)
القِفطي، الوزير جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف: إنباه الرواة على أنباء النحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: دار الفكر العربي/ بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، ط 1، 1406/ 1986)، ج 2، ص 314.
(3)
السيوطي، جلال الدين: الأشباه والنظائر في النحو، تحقيق جماعة من العلماء (دمشق: مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1407/ 1987)، ج 3، ص 29 - 30.
(4)
القفطي: إنباه الرواة، ج 2، ص 315 - 316.