الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يفقهوا حقيقته، فظنوه طاعةً لشخص الرسول، وأنه لما توفي فقد انحلّت ربقةُ الإيمان عنهم. ومثلُ هؤلاء وإن كثروا فلا تعجبك كثرتهم لجفائهم وجهلهم، ولذلك لما فهموا من تصدي المسلمين لقتالهم أن أمر الدين ليس باللعب كانوا سريعي الرجوع إلى الدين في أمدٍ وجيز.
الباب الثالث: الخلافة الإسلامية:
قال: "لم نعرف مَن اخترع لأبي بكر لقب خليفة رسول الله، ولكنا عرفنا أن أبا بكر قد أجازه وارتضاه، ولا شك أن رسول الله كان زعيمًا للعرب ومناط وحدتهم، فإذا قام أبو بكر بعده ملكًا على العرب ساغ في اللغة أن يقال له خليفة رسول الله، فلا معنى لخلافته غير ذلك. ولهذا اللقب روعة، فلا غروَ أن يختاره الصديق وهو ناهضٌ بدولة حادثة بين قوم حديثي عهد بجاهلية، فهذا اللقب جدير بأن يكبح من جماحهم. وقد حمل هذا اللقبُ جماعةً على الانقياد لأبي بكر انقيادًا دينيًّا، لذلك سموا الخروجَ على أبي بكر خروجًا على الدين، ولذلك سموا الذين رفضوا طاعة أبي بكر مرتدين، ولعل جميعهم لم يكونوا في الواقع مرتدين. وقد رفض بيعةَ أبي بكر علي بن أبي طالب وسعد بن عبادة، فلم يوصفوا بأنهم مرتدون"، هذا كلامه في صحائف 95 - 96 - 97.
أقول: إن الذي اخترع لأبي بكر لقب خليفة هو اللغة والقرآن؛ فإنه قد أقيم خلفًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدبير أمر الأمة فهو خليفة، فلا يحتاج إطلاقُ هذا الوصف إلى اختراع أو وضع؛ إذ كلُّ مَنْ قام مقام غيره في علمه فهو خليفته، قال تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} [يونس: 14] على أن القرآن قد علمهم أن يصفوا مَنْ أقامه الله لتدبير الخلق بوصف خليفة إذ قال: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26].
وأما قوله: إن أبا بكر كان خليفةً؛ لأنه قام بعد رسول الله بزعامة العرب على وجه ملكي، فهو اضطرابٌ مع ما تقدم وما يأتي. فإنه قد منع سابقًا أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم زعامة سياسية، ومنع هنا وفيما يأتي أن تكون لأبي بكر زعامةٌ دينية، وأثبت فيما
بين ذلك أن أبا بكر سُمي خليفة؛ لأنه قام بعد النبي بزعامة العرب. وكأنه بهذا ينحو إلى أن إطلاق اسم الخليفة على أبي بكر ضربٌ من المجاز، وإن شئت من التمويه يُقصد به إخضاعُ المسلمين، كما صرح بذلك قوله:"ولهذا اللقب روعة، فلا غرو أن يختاره الصديق وهو الناهض بدولة حديثة" إلخ.
ثم استنتج أن تسمية الخارجين على أبي بكر بالمرتدين قريبٌ من هذا التهويل، وأغمض عينيه عما ملئ به التاريخُ والحديث من انقسام المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثلاث طوائف:
1 -
طائفة ثابتة على الدين وعلى الجامعة الإسلامية وهم أفاضل المسلمين وعلماؤهم وأعيانهم والسابقون منهم.
2 -
وطائفة ثبتت على الدين وخرجت عن الجامعة وهم الذين منعوا الزكاة، وهؤلاء هم جفاة العرب ومن أجرأهم من رؤسائهم الذين لم يفهموا من الدين إلا ظاهرًا، وكانوا يسرون لكيده حسوًا في ارتغاء (1)، مثل مالك بن نويرة. ومن هؤلاء هوازن وبنو سليم وبنو عامر وعبس وذبيان، وبعض بني أسد وبني كنانة.
3 -
وطائفة كفروا بالله ورسوله، مثل غَطَفان وطيِّئ وأسد وتغلب واليمامة. وقد ظهر فيهم مَنِ ادعى النبوةَ، مثل طُليحة الأسدي في بني أسد، وسجاح التغلبية ومسيلمة الكذاب.
وقد سمى المسلمون يومئذ الطائفةَ الأولى باهل الجماعة، وهو معنى قول العلماء بعد ذلك فلان من أهل السنة والجماعة، أو ممن لا يرى الخروج على أئمة الإسلام. وقد قاتل أبو بكر الفريقين بسيوف الصحابة وأفاضل المسلمين، إلا أن قتاله لما نعي الزكاة قتالُ تأديب وقتاله للمرتدين قتال ارتداد. وسموا تلك الحروب
(1) هذا تصرف في المثل القائل: "يُسِرُّ حسوًا في ارتغاء"، وهو يُضرب لمن يُظهر أمرًا ويبطن ويريد خلافَه.
حروب الردة تغليبًا؛ لأن غالب العرب قد كفروا. وحاشا أبا بكر والصحابة أن يجعلوا الخروجَ عن بيعة أبي بكر كفرًا لقصد التهويل.
وأما قوله: إن عليًّا وسعدًا رفضا بيعة أبي بكر، فهو افتراء على صحابيين جليلين. فأما عليٌّ فقد شغله ما أصابه من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم من مرض زوجه فاطمة رضي الله عنها، كما اعتذر به هو نفسه عن تخلفه. وقد ذكر ابن عبد البر عن الحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض ليالِيَ وأيامًا ينادَى بالصلاة، فيقول: مروا أبا بكر يصلي بالناس. فلما قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرتُ فإذا الصلاة عَلَمُ الإسلام، وقوام الدين، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، فبايعنا أبا بكر". (1)
وقد قيل في تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة مدة: إنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يخرج إلى الصلاة حتى يجمع القرآن. فقد اتضح من هذا كله أن عليًّا رضي الله عنه كان معترفًا بصحة بيعة أبي بكر رضي الله عنهما غير رافض لها، وأن تأخره مدة قليلة كان لشواغل مهمة. والتخلف غير الرفض؛ فإن معنى الرفض أن يُطلب من أحد شيء فيأباه.
وأما تخلفُ سعد بن عبادة رضي الله عنه عن بيعة أبي بكر إلى أن توفي فهو الصحابي الوحيد الذي لم يبايع لأبي بكر، فلا بد من تأويل فعله بما يليق بصحابي جليل مثل سعد بن عبادة. ولعله لما رأى الأنصار قد أعدته للخلافة يوم السقيفة ثم رأى إجماع الصحابة على أبي بكر وانصرافهم عن بيعة سعد استوحش نفسَه بين الناس، وكان سعد رجلًا عزيز النفس فخرج من المدينة ولم يرجع إليها حتى مات بحوران من أرض الشام في خلافة عمر وقيل في خلافة أبي بكر، ولم يُنقَلْ عنه طعنٌ في بيعة الصديق ولا نواء بخروج.
(1) ابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق علي محمد البجاوي (بيروت: دار الجيل، ط 1، 1413/ 1992)، ج 3، ص 971 (وقد ذكر ابن عبد البر قيس بن عبادة بين الحسن البصري وعلي بن أبي طالب).
فتخلفُه عن البيعة لا يقتضي رفضَه لها، ولا مخالفته فيها، حتى يكونَ تخلفُه قادحًا في انعقاد الإجماع؛ إذ "لا يُنسب لساكت قول"، كما قال الشافعي (1)، لا سيما وقد قال جماعةٌ: إن مخالفة الواحد لا تضر انعقادَ الإجماع، كما تقرر في الأصول. ولم ينقل أحدٌ أن الصحابةَ طلبوا منه بيعة، ولا تحرجوا من تخلفه. وقد أشار إلى هذا المعنى ابن أبي عزة الجمحي (2) حين قال بعد السقيفة:
(1) الشافعي، أبو عبد الله محمد بن إدريس: الأم، وبهامشه مختصر المزني (القاهرة: دار الشعب، بدون تاريخ، وهي على الأرجح مصورة عن نشرة المطبعة الأميرية ببولاق الصادرة سنة 1321 هـ)، ج 1، 134؛ الأم، ج 10: اختلاف الحديث، ص 110 (نشرة رفعت عبد المطلب). وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه العبارة جاءت أثناء كلام الشافعي على الخلاف في مسألة "الساعات التي تُكره فيها الصلاة"، حيث قال:"ولَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلُ قَائِلٍ وَلَا عَمَلُ عَامِلٍ، إنَّمَا يُنْسَبُ إلَى كُلٍّ قَوْلُهُ وَعَمَلُه. وفي هذا ما يَدُلُّ على أَنَّ ادِّعَاءَ الإِجْمَاعِ في كَثِيرٍ من خَاصِّ الأَحْكَامِ ليس كما يقول مَنْ يَدَّعِيه". وقد اختُلف في ترتيب هذه المسألة وموضعها من الأجزاء المختلفة لكتاب الأم، اختلافًا راجعًا إلى أن ترتيب هذا الكتاب لم يكن من وضع الشافعي نفسه، وإنما تولى تلاميذه ذلك، ثم اجتهد مَن بعدهم في التصرف في صور الترتيب التي ألفوها في مختلف نسخ الأم توفيقًا وتعديلًا. ففي نشرة بولاق وضعت المسألة التي جاءت عبارة الشافعي فيها في "كتاب الصلاة"، بينما وضعت في النشرة التي حققها رفعت عبد المطلب في "كتاب اختلاف الحديث". انظر بصدد مشكلة ترتيب الأم مقدمة المحقق، الأم، ج 1، ص 13 - 16. وقد اعتمد علماء الأصول من الشافعية على عبارة الشافعي هذه في إنكارهم حجية الإجماع السكوتي، حتى عدها الإمام الجويني من ألفاظ الشافعي الرشيقة، فقال عند حديثه عن وجوه انعقاد الإجماع: "فإن من ألفاظه الرشيقة في المسألة: لا يُنسب إلى ساكت قول". الجويني، إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف: البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم الديب (المنصورة/ مصر: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط 3، 1412/ 1999)، ج 1، ص 448.
(2)
وابن أبي عزة الجمحي لم أعثر له على ترجمة، ولا علمت على وجه اليقين اسمه، وأبوه هو أبو عَزة عمرو بن عبد الله الجمحي، شاعر من قريش، استخدم شعره في التحريض على المسلمين، أسر يوم بدر كافرًا، وعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم إذ توسل إليه قائلًا:"يا رسول الله إني ذو عيال وحاجة قد عرفتها"، فصفح عليه السلام عنه. ثم عاد لما كان عليه، فلما كانت غزوة أُحد وأسر، طلب العفو مرة أخرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يُلسع المؤمن من جحر مرتين". انظر ترجمته في: ابن سلام الجمحي: طبقات الشعراء، ص 99 - 100. ومن الصحابة من اسمه خارجة بن عمرو الجمحي، فربما كان هو صاحبَ الشعر المذكور، وعسى خبيرًا بالسير والتاريخ يأتينا في ذلك بالخبر اليقين بشأنه.
حَمْدًا لِمَنْ هُوَ بِالثَّنَاءِ حَقِيقُ
…
ذَهَبَ اللَّجَاجُ وَبُويِعَ الصِّدِّيقُ
مِنْ بَعْدِ مَا ركَضَتْ بِسَعْدٍ نَعْلُهُ
…
وَرَجا رَجَاءً دُونَهُ العَيُّوقُ
جَاءَتْ بِهِ الأَنْصَارُ عَاصِبَ رَأْسِهِ
…
فَأَتَاهُمُ الصِّدِّيقُ وَالفَارُوقُ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ والَّذِينَ إِلَيْهُمُ
…
نَفْسُ المُؤَمِّلِ لِلْبَقَاءِ تَتُوقُ
فَدَعَتْ قُرَيْشٌ بِاسْمِهِ فَأَجَابَهَا
…
إِنَّ المُنَوَّهَ بِاسْمِهِ المَوْثُوقُ (1)
هذا كنه ما يروى عن صحابيين جليلين، هما من أعلم الناس بالمصلحة الإسلامية وحفظ جامعتها. ولو أرخينا العنان وتنازلنا في الجدال وسلمنا تسليمًا جدليًّا بأن عليًّا وسعدًا قد رفضا صراحةً أن يبايعا لأبي بكر - وهو ما لا راويَ له - فلا نجد للمؤلف في ذلك كله دليلًا على ما يريد من إنكار كون الخلافة منصبًا دينيًّا عظيمًا هو من أركان الإسلام حتى كان على معناها الحقيقي الذي شرحناه في أول مقالاتنا.
وهل يكون امتناعُهما حينئذ إلا رأيًا في الدين واجتهادًا في تحقيق أولوية أبي بكر بالخلافة؟ ! وذلك لا ينقض الإجماعَ على أصل مشروعية الخلافة أو الإمامة للمسلمين؛ لأنهما إذا امتنعا عن بيعة أبي بكر فقد كان سعد راضيًّا بأن يبايعه الأنصار، فهو قابل بوجوب نصب الإمام، وكون الإمام علي رضي الله عنه قائلًا بوجوب ذلك أظهر لأنه كان ممن ولي تلك الخلافة.
ثم ذكر في صحائف 98 - 99 - 100 ما وقع من مالك بن نويرة من امتناعه من إعطاء الزكاة لأبي بكر، وأن خالد بن الوليد قتله وأن أبا بكر أنكر قتله، وأن شاعرًا من شعرائهم قال:
(1) ابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 3، ص 976. وفيه في البيت "شُكْرًا" بدل "حمدًا" (وقد أورد ابن عبد البر هذه الأبيات في ترجمة أبي بكر الصديق)؛ الكلاعي الأندلسي، أبو الربيع سليمان بن موسى: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، تحقيق محمد كمال الدين عز الدين علي (بيروت: عالم الكتب، ط 1، 1417/ 1997)، ج 1/ 2، ص 443.
أَطَعْنَا رَسُولَ الله إِذْ كَانَ بَيْنَنَا
…
فَيَا لَعِبَادِ الله مَا لأَبِي بَكْرِ؟ (1)
وذكر معارضةَ عمر لأبي بكر حين قال له: "كيف تقاتل الناسَ وقد قالوا لا إله إلا الله؟ "(2)، ثم تحير المؤلف في سبب حروب الردة وغمز هنالك مغامز سيئة ترمي إلى أن أسبابها التنافس، ثم ذكر أنه أصفح عن البحث في أن أبا بكر هل كانت له صفةٌ دينية تجعله مسؤولًا عن أمر مَنْ يرتد عن الإسلام أو هل لها أسباب غير دينية؟
ولا فائدةَ في إطالة الخوض معه هنا؛ لأن تلك الحروب سواء كانت دينية أم سياسية، وسواء كان سببها الارتداد أو الخروج عن الطاعة، فلا دليلَ في صفتها على شيء يتعلق بانتساب الخلافة إلى الدين؛ لأن الخلافة إن كانت خطة دينية كما وضحناه فحرب الخارجين عن الدين من شؤونها، وكذلك حرب الخارجين عن الجامعة الإسلامية؛ إذ الدين والجامعة متلازمان كما قدمنا بيانه. وإن كانت الخلافة زعامةً سياسية فقط كما يراه المؤلف، فحريٌّ بصاحبها قتالُ من يخرج عن الطاعة سواء اقترن خروجُه برفض الدين أم كان مجرد عصيان؛ لأن الحالتين يتحقق فيهما الخروج عن الطاعة
(1) البيت للحطيئة من مقطوعة من ثمانية أبيات قالها في الردة يحرض المشركين على قتال المسلمين، وقد جاء في الديوان مختلفًا عما ذكره المصنف هنا، ولفظه:
أَطَعْنَا رَسُولَ الله إِذْ كَانَ صَادِقًا
…
فَيَا عَجَبًا مَا بَالُ دِينِ أَبِي بَكْرِ؟
ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت، تحقيق نعمان محمد أمين طه (القاهرة: مكتبة الخانجي، ط 1، 1407/ 1987)، ص 195.
(2)
انظر تفاصيل المحاورة بين عمر وأبي بكر رضي الله عنهما في: ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ج 1، ص 19؛ صحيح البخاري، "كتاب الزكاة"، الحديثان 1399 - 1400، ص 225؛ "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة"، الحديث 7284/ 7285، ص 1253؛ صحيح مسلم، "كتاب الإيمان"، الحديث 20، ص 33 - 34؛ سنن الترمذي، "كتاب الإيمان"، الحديث 2607، ص 614؛ البزار: البحر الزخار، الحديث 217، ج 1، ص 334.
فإذا تأملتَ هذا، علمت أنه ما كان من حقِّ المؤلف أن يخوض في تعليق حرب الردة بهذا الموضع، إلا إذا كان يريد حملَ تبعته على أبي بكر؛ إذ لا صفةَ له تسوِّغ له قتالَ قوم لم يكن مسؤولًا عن كفرهم. لكنه ناقض نفسَه من حيث لا يدري؛ لأنه إذا كان يدعي أن أبا بكر زعيمٌ سياسي، فيجب أن يعترف له بالحق في قتال الخارجين من أهل مملكته.
أما محاورة مالك بن نويرة لخالد بن الوليد، فهي نفسُ ما قام به الفريق الثاني من أهل حروب الردة، وكان مالك بن نويرة من زعمائهم، ولعل ذلك سبب قتل خالد بن الوليد له؛ لأنه رآه مثوِّرًا للعامة ومغريًا لهم، كما هو الشأنُ في حمل التبعات على القادة والرؤساء؛ إذ العامة أتباع كل ناعق.
وأما مراجعة عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما، فقد أبدى مؤلفُ الكتاب بعضَها وأخفى كثيرًا؛ فإن في آخر الخبر أن عمر بن الخطاب قال:"فعلمت أن ما شرح الله له صدرَ أبي بكر هو الحق"، فتكون معارضة عمر له معارضة من لم يظهر له دليل الحكم، وذلك أنه قال لأبي بكر:"كيف تقاتلهم وقد قالوا لا إله إلا الله"، فقال أبو بكر:"لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه"، قال عمر:"فعلمتُ أن ما شرح الله له صدرَ أبي بكر هو الحق". (1) وليس معنى ذلك أنه قال تقليدًا لأبي بكر، ولكن معناه أن حُجَّةَ أبي بكر قد نهضت في نظر عمر فصار موافقًا له في اجتهاده.
(1) صحيح البخاري، "كتاب الزكاة"، الحديثان 1399 - 1400، ص 225؛ "كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم"، الحديثان 6924 - 6925، ص 1193؛ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة"، الحديثان 7284 - 7285، ص 1253؛ سنن الترمذي، "كتاب الإيمان"، الحديث 2607، ص 614؛ سنن أبي دَاوُد، "كتاب الزكاة - وجوبها" الحديث 1556.