الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اهتمام العلماء بكتاب المفتاح
أورد الأستاذ النجار شاهدًا على ذلك خطبةَ السيد الشريف في شرحه للقسم الثالث من المفتاح (1). وهنالك شاهدٌ أعظم، وهو كلامُ العلامة قطب الدين الشيرازي في شرحه الذي سماه "مفتاح المفتاح"، فإنه أبعدُ عهدًا، وأقربُ بالمؤلف عصرًا؛ لأنه أتمَّ شرحَه سنة إحدى وسبعمائة (701 هـ). قال:"وقد ألف الناسُ فيهما (أي علمي المعاني والبيان) وجلبوا ذهبًا، أو حطبوا حطبًا، وما من تأليفٍ إلا وقد تصَفَّحتُ سينَه وشينَه، وعلمتُ غثَّه وسَمِينَه، فلم أجد ما يُنتفع به (2) في ذلك حقَّ الانتفاع إلا كتاب "المفتاح" للإمام البارع، سراج الملة والدين، أبي يعقوب يوسف بن أبي بكر بن علي (كذا) السكّاكي الخوارزمي، برَّد الله مضجعَه، ونوّر مُهجته. وذلك أنه لمَّا كان إمامَ أئمة البلاغة ببيانه، ومالكَ أزمة الفصاحة ببنانه، وناظمَ درر الفوائد في منظوم فرائده، وناثرَ غُرَرِ الفوائد في منثور فوائده، استقادت له البراعةُ بأرسانها، واستفادت منه البراعةُ بفرسانها. فسوابقُ فصاحته لا تُجارَى حلباتُها، ولواحقُ بلاغته لا تُبارَى غلباتُها، ونفائسُ فرائده لا تُنَافَس. . . ومقائس فوائده لا تقاس في أحكامها، جرى طِرْفُ فضله المجلى في حلبة الرهان فجلّى، وسما طَرْفُ شرفه إلى معارج الطُّرَف وتعلّى، فارتقى من أفنان فنونه إلى مرقَى الفرائد، وعُدَّ من أماجد الأفراد وأفراد الأماجد. فهو الذي أصبح به بحرُ هذين العلمين عذبًا فراتًا
(1) انظر ذلك في: الجرجاني، أبو الحسن علي محمد بن علي السيد الشريف: الحاشية على المطول شرح تلخيص المفتاح، تحقيق رشيد أعرضي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1428/ 2007)، ص 33 - 34.
(2)
يبدو أن الشيرازي اقتبسَ هذ الجزء من خطبة كتابه من ابن الأثير الذي قال: "وبعد، فإن علمَ البيان لتأليف النظم والنثر بمنزلة أصول الفقه للأحكام وأدلة الأحكام؛ وقد ألّف الناسُ فيه كتبًا، وجلبوا ذهبًا وحطبًا، وما من تأليفٍ إلا وقد تصفّحتُ شينه وسينه، وعلمت غثّه وسمينه؛ فلم أجد ما يُنتفع به في ذلك إلا كتاب الموازنة لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمديّ، وكتاب سر الفصاحة لأبي محمد عبد الله بن سنان الخفاجيّ، غير أن كتاب الموازنة أجمعُ أصولًا، وأجدى محصولا. . ." ابن الأثير: المثل السائر، ج 1، ص 23.
بعد ما كان ملحًا أُجاجًا، وأبدع فيهما غرائبَ أوضح بها لمن بعده طُرقًا فجاجًا، حتى أصبحت روضةُ العلمين مفتحة الأزهار متسلسلةَ الأنهار"، إلى أن قال: "ولله درُّ القائل فيه:
سِرَاجُ المَعَالِي يُوسُفُ بنُ مُحَمَّدٍ
…
بِمِفْتَاحِهِ قَدْ حَلَّ كُلَّ مُعَقَّدِ
وَأَعْجَزَ بِالإِيجَازِ فِي سِحْرِ لَفْظِهِ
…
فَكَادَ بِهِ يسْبِي النُّهَى وَكَأَنْ قَدِ
فَلَمْ نَرَ فِي كُتبِ الأَوَائِلِ مِثْلَهُ
…
وَإِنْ لَمْ تُصَدِّقْنِي بِهِ فَتَفَقَّدِ"
إلى آخر كلامه (1).
وقد جرى أسلوبُ تأليف "المفتاح" على طريقة الضبط، والتقسيم، والتحديد، والتدرج في توليد المسائل اللاحقة عن مسائل السابقة، والحوالة على قواعد العلوم الأخرى، وتعليل وجوهِ انحصار العلوم والأبواب فيما حوته من المسائل، وتلك هي الطريقةُ المتبعةُ في العلوم العقلية والمنطقية. فالسكاكي يُعنى بتلك الطريقة في تنظيم كتابه وتسويته، وتفريغ (2) مباحثه ومسائله، كما أفصح عن ذلك في ديباجته، من ذلك قوله:"وأنت تعلم أن المفرد متقدِّمٌ على أن يؤلف (أي يُرَكَّب) وطِباق المؤلَّف (أي المركب) للمعنى متأخر عن نفس التأليف، لا جرم أنّا قدمنا البعض على هذا الوجه وضعًا، لنؤثر تقدمًا استحقه طبعا"(3). وقال في صدر
(1) عن نسخة خطية عتيقة بمكتبتي نسخت سنة 714 (أربع عشر وسبعمائة) برسم خزانة شرف الدين الطيبي العلامة الجليل محشي الكشاف، وهو عزيز الوجود. - المصنف. - لم أقف على هذا الكتاب، ولا يبدو أنه طبع أصلًا. أما الأبيات التي ذكرها الشيرازي فلم على قائلها، وقد أوردها كذلك محقق "الكشف" في الحاشية نقلًا عن الشيرازي أيضًا، ولم ينسبها. حاجي خليفة: كشف الظنون، ج 2، ص 1762.
(2)
كذا في الأصل، ولعله تصحيف، والأولى أن يقال: تفريع.
(3)
السكاكي: مفتاح العلوم، ص 40 (نشرة هنداوي).
علم المعاني: "ولما كان علمُ البيان شعبةً من علم المعاني لا تنفصل عنه إلا بزيادة اعتبار، جرى منه مجرى المركّبِ من المفرد، لا جرم آثرنا تأخيرَه"(1).
وربما سلك في مسائله وأمثلته مسالكَ العلوم العقلية كقوله: "وأما الحالة التي تقتضي وصفَ المعرف فهي إذا كان الوصف مبينا له كاشفًا عنه، كما إذا قلت: الجسم الطويل العريض العميق محتاجٌ إلى فراغ يشغله". (2) وكذلك كلامه في مبحث تعريف المسند إليه بلام التعريف، حيث بناه على قواعد الكلي الطبيعي وأفراده المقررة في علم المنطق (3). وكذلك كلامُه في الجمع بين مدلول الجملتين في الذهن من باب الفصل والوصل (4)، وفي تقسيم وجه الشبه من باب التشبيه، حيث بناه على قواعد الحس المشترك من مسائل علم الحكمة (5).
(1) المصدر نفسه، ص 249.
(2)
المصدر نفسه، ص 272.
(3)
السكاكي: مفتاح العلوم، ص 278 - 280 (نشرة هنداوي). والكلي عند علماء المنطق من الألفاظ المشتركة، ويطلق على عدة معان. الأول الكلي الحقيقي، وهو المفهوم الذي لا يمنع تصورُه من تصور وقوع شركة كثيرين فيه، ويقابله الجزئي الحقيقي. والثاني الكلي الإضافي، وهو ما اندرج تحته شيء آخر في نفس الأمر، وهو أخص من الكلي الحقيقي. والإطلاق الثالث للكلي هو أنه اللفظ الدال على المفهوم الكلي، ذلك أن الكلي والجزئي كما يطلقان على المفهوم فيقال إن المفهوم إما كلي وإما جزئي، كذلك يطلقان على اللفظ. الدال على المفهوم كليًّا أم جزئيا. وكذلك يقسم الكلي باعتبارات أخرى إلى كلي طبيعي وهو ما له وجود في الخارج، وكلي عقلي وهو ما لا وجود له في الخارج وإنما وجوده في الذهن. انظر في ذلك: الجرجاني: التعريفات، ص 266 - 267؛ التهانوي، محمد علي: كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تحقيق جماعة من الباحثين بإشراف رفيق العجم (بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، ط 1، 1996)، ج 2، ص 1376 - 1380.
(4)
قال بشأن الجمع بين مدلول الجملتين: "والجامع العقلي هو أن يكون بينهما اتحادٌ في تصور، مثل الاتحاد في المخبر عنه، أو في الخبر، أو في قيد من قيودهما، أو تماثل هناك، فإن العقلَ بتجريده المثلين عن التشخص في الخارج يرفع التعدد عن البين. أو تضايف كالذي بين العلة والمعلول، والسبب والسبَّب، أو السفب والعلو، والأقل والأكثر، فالعقل يأبى أن يجتمعا في الذهن". مفتاح العلوم، ص 362.
(5)
انظر: السكاكي: مفتاح العلوم، ص 440 - 447.
وقد قال العلامةُ التفتازاني هنالك بعد أن فرغ من التقسيم: "واعلم أن أمثالَ هذه التقسيمات التي لا تتفرع على أقسامها أحكامٌ متفارقة، قليلةُ الجدوى. وكأن هذا ابتهاجٌ من السكاكي باطلاعه على اصطلاحات المتكلمين. فلله درُّ الإمام عبد القاهر وإحاطته بأسرار كلام العرب وخواص تراكيب البلغاء؛ فإنه لم يزد في هذا المقام على التكثر من أمثلة أنواع التشبيهات، وتحقيق اللطائف المودَعة فيها". (1)
وأسلوبُ نظم كلامه في "المفتاح" وإن كان مملوءًا بالنكت الأدبية الدالة على ضلاعته في العلوم الأدبية، فهو غير خَليٍّ من النزوع إلى اللهجة الحكمية التي نرى عليها كتبَ أمثال ابن سينا مع فصاحته المشهود بها. وربما أطال الجملَ وأكثر المعترضات منها، فألجأ الناظرَ أن يعود بنظره من آخر الكلام إلى أوله ليلتئم المعنى المقصود في فهمه. ولذلك لم يختلف العلماء في صعوبة فهم كتابه على غير المتضلعين في العلم، بخلاف أسلوب الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز"، فإن نسج كلامه يكسب مطالعه ملكة إنشائية متينة. وأنا وإن كنتُ لا أنصح الأدباء باتباع أسلوب نظم كلامه، أرى لهم في الإقبال عليه اكتسابَ ثروة من الألفاظ المفردة الفصيحة.
ومما اختصَّ به السكاكيُّ أنه غيّر كثيرًا من ألفاظ المصطلحات العلمية، خصوصًا المصطلحات المنطقية؛ لأنه حاولَ ابتزازَ (2) علم النظر إلى العلوم العربية، واخترع ألفاظًا اصطلاحية لم تكن من عناوين المسائل. ومن أهم ما اشتمل عليه المفتاح خاتمته، وهي فذلكةٌ في رد المطاعن عن القرآن من أحسن ما كتب في هذا الغرض وفاءً به وإيجازا (3).
(1) التفتازاني: المطول شرح تلخيص المفتاح، ص 527.
(2)
أي جلب علم النظر (وهو علم المنطق) إلى علوم العربية وتوظيفه فيها. وقد تمثل ذلك بصورة خاصة في القسم الذي عنونه السكاكيُّ باسم "علم الاستدلال أو علم خواص تركيب الكلام".
(3)
السكاكي: مفتاح العلوم، ص 700 - 726 (نشرة هنداوي).