الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَفْنَا وَمِمَّا زَادَ شَوْقًا وُقُوفُنَا
…
فَرِيقَيْ هَوًى مِنَّا مَشُوقٌ وَشَائِقُ (1)
فالمشوق هو المحب، والشائق المحبوب، والبكاء من شأن المحب دون المحبوب، واللوعة من البعد ومن مشاهدة حال المحب هي من شأن المحبوب، ولهذا لم يسلك في وصف الأجفان مسلك تحسينها بخلاف مسلكه في وصف الخدود.
القرطاس الثاني:
وقع في ترجمة ياقوت بن عبد الله الرومي البغدادي الأديب من كتاب الوفيات لابن خلكان قال: "وأنشدني له بعضُ الفضلاء بمدينة حلب أبياتًا، منها قوله:
أَلَسْتَ مِنَ الوِلْدَانِ أَحْلَى شَمَائِلًا
…
فَكَيْفَ سَكَنْتَ القَلْبَ وَهوَ جَهَنَّمُ
ثم قال: انتقدوا في بغداد في هذا البيت، فأفكرت فيه ثم قلت: لعل الانتقاد من جهة أنه لا يلزم من كونه أحلى شمائلًا من الولدان أن لا يكون في جهنم. . . فقال: نعم هذا الذي أخذوا عليه" (2)؛ يعني أن قوله: "فكيف سكنت القلب"، استفهامُ تعجب وتحيّر: أي كيف أمكن أن يسكن قلبي إذ هو جحيم بنار المحبة وأنت أحسن من الولدان، فشأنك أن تكون معهم في الجنة.
(1) البيت هو الثاني من قصيدة يمدح فيها الحسين بن إسحاق التنوخي: البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 3، ص 82.
(2)
ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 6، ص 124. وياقوت هذا هو ياقوت بن عبد الله الرومي البغدادي، المكنى بأبي الدر، والملقب مهذب الدين، وقد سمى نفسه حين اشتهر بالشعر عبد الرحمن، وكان مقيمًا بالمدرسة النظامية ببغداد. كان مولى لأبي منصور الجيلي التاجر ببغداد، وبها نشأ وتوفِّي أيضًا سنة 622 هـ، وقد قارب الستين. كان شاعرًا مطبوعًا، له ديوان شعر صغير، وكان حسن الخط ونسخ بخطه كتبًا كثيرة، وقد ذكر ابن خلكان عدة مقطوعات من شعره. وهو غير ياقوت أبي عبد الله الرومي الحموي المتوفَّى سنة 626 هـ بحلب والملقب بشهاب الدين الأديب الخطاط. وقد اشتركا في الاسم واسم الأب والنسبة والعصر وحسن الخط، واختلفا في البلد واللقب. المصدر نفسه، ص 122 - 126 (الترجمة رقم 789).
وأنا أقول: يحتمل أن يكون انتقاد أدباء بغداد البيت من جهة معناه أو من جهة لفظه، فإن كان الانتقاد من جهة معناه، فبيانه أن مراد الشاعر بالولدان، الولدان المعهودون وهم المذكورون في القرآن:{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} [الإنسان: 19]، وهؤلاء الولدان مقرهم الجنة، فأراد الشاعر أن يثبت كون المتغزل فيه منهم، ويتعجب كيف كان مقره في قلبه الذي هو جحيم، ولكنه لم يُثبت كون المتغزل فيه من الولدان، بل غاية ما أثبته أنه أحسن من الولدان في الطبائع والمحاسن، وإذا كان أحسن فلا يتم له التعجب إذ قد يكون من جنس آخر غير جنس الولدان. هذا حاصل انتقادهم مع توجيهه وتبيينه. وهو عندي انتقاد زائف؛ لأن الشاعر بنى معنى بيته على أن المتغزّل فيه قد فاق الولدان في محاسنه، وذلك يوجب أن يكون أولى بسكنى الجنة من بقية الولدان، لأن الجنة جديرة بمنتهى الحسن إذ فيها ما لا عين رأت، ولذلك استقام له التعجب من حلوله في جهنم القلب.
وذلك كله إغراق في التخيل من ثلاثة جهات: كون الموصوف أحلى شمائل من الولدان، وكون ذلك موجبًا سكناه الجنة، وهذان معنيان عزيزان، وكون قلب المحبّ جهنم، وهذا معنى قديم شائع، ولكنه أخرجه إلى العزّة ما اقترن به من التعجب، كما أخرجه في نظيره قول بعض الشعراء فيمن اسمه إبراهيم على طريقة التلميح:
فَيَا نِيرَانَهُ كُونِي سَلَامًا
…
وَبَرْدًا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ فِيهِ (1)
(1) البيت هو الثاني من بيتين ذكرهما بهاء الدين العاملي في الكشكول، وهما:
عَجِبْتُ لِنَارِ قَلْبِي كَيْفَ تَبْقَى
…
حَرَارَتُهَا وَحُبُّكَ يَحْتَوِيهِ
فَيَا نِيرَانَهُ كُونِي سَلَامًا
…
وَبَرْدًا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ فِيهِ
العاملي، بهاء الدين محمد بن حسين: كتاب الكشكول وبهامشه كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي (مصر المحروسة: المطبعة الميمنية، 1305 هـ)، ص 22.