الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطاب في موسم ختم السنة الدراسية
(1)
سبحان الذي غمرت من لدنه فيوضاتُ النعماء، فجلت على الإحصاء، وقصر عن شكرها لسانُ الثناء. أحمده حمد موقن بجزيل خيره، مخلص في التوكل عليه دون غيره، متبرِّئٍ له من الاغترار بالقوة والحول، مستمدٍّ منه العصمةَ والتوفيق في الفعل والقول. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المؤيَّد بالعصمة، والباسط لما أوتي من الحكمة، صلاةً تكون كَفاءَ ما علَّم بعد الجهالة، وهَدَى بعد الضلالة، وفتح قلوبًا بعد الإغلاق، وفتق أنوارًا بعد الإطباق، وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا أثر هديه فانقلبوا أدلة، واستناروا من مدد سناه فطلعوا أهلة.
أما بعد، فلو أن أقومَ بيان جرى على أفضل لسان، فحاول أن يبرهنَ على ما للعلم الشريف من القدر النبيه، ومنازل التعظيم والتنويه، لما بلغ مبلغَ برهان هذا الجمع المبارك الجليل الذي تجلَّى فيه ما لهذه الأمة السعيدة من التعلق بتعليمها الديني وإجلال مقامه، والاندفاع في سبيل معهدها الزيتوني ورفع أعلامه. فهو الموسم العلمي السني الذي يجدد للجامع الأعظم وفروعه كل عام من مهيئات النجاح ما تجدد الشمس للأرض عند إشراقها كل صباح، إذ تبدو فيه العناية السنية عناية الحضرة الشامخة العلية، حضرة سيدنا الملك العظيم المجد، السعيد الجد، السائر على سنن أسلافه الأمراء الصيد والفائز من مفاخرهم بالحظ المزيد والصيت الحميد، سيدنا محمد الأمين دام له العز والتأييد، ولا زال قرير العين في آله وبنيه، مبلَّغ
(1) المجلة الزيتونية، المجلد 6، العدد 10، 1356/ 1946 (ص 587 - 590 و 616 - 619). ألقى المصنف هذه الخطاب بوصفه شيخ جامع الزيتونة وفروعه، وذلك في شهر جمادى الثانية/ يونيو من السنة المذكورة.
الآمال في كل ما يسره ويرضيه، موفَّقًا بتوفيق الله لما وفق له الراشدون، مبلَّغًا به رعاياه الأمل الذي إليه يصبون. فكم دليل قائم على ما لحضرته ودولته في تأييد التعليم الإسلامي من صدق الهمة، المتجددة مظاهره عند كل مهمة.
فقد كنا في كامل أمدِ هذا العام الدراسي نجد من جناب وزيره الأكبر المساعدةَ والتأييد على كل ما من شأنه أن يبلغ بالتعليم الزيتوني أوج كماله، ويحقق سموَّ مكانته وشرف رجاله. وحقيق بأن نشرك في هذا الثناء كاملَ الجهاز الإداري الذي يربط الصلة بيننا وبين جنابه، وعلى رأسه جنابُ رئيس القسم الأول؛ إذ لم نجد منه إلا كامل الإعانة والحرص على إنجاح جهودنا، حتى تسنى لنا أن نوفي بما كنا عقدنا عليه أواصرَ الالتزام في مثل هذا الموكب من ماضي العام.
وإن مما نذكره في مقدمة ذلك أننا كنا في العام الماضي نخطب هنا وامتحان شهادة الأهلية بفرع صفاقس معلق بين شطري تمام وتعطيل، فلم يدر الزمان دورته لهذا العام إلا وقد تم امتحان تلك الشهادة بجميع مواده في أربعة مراكز الفروع، هي صفاقس وقفصة والقيروان وسوسة. وبذلك تم الالتحام بين الجامع الأعظم وفروعه، التحامًا سيبلغ بمعونة الله مداه بإنجاز ما تقرر لهيئة المشايخ المدرسين بالفروع من اللحاق بمدرسي الطبقة الثالثة في جميع حقوقها وواجباتها، على أنه إذا كان الوفاء بهذا الإلحاق قد تأخر لمقتضيات إدارية أوشكت على الانتهاء، فإن أولئك المشايخ لم ينتظروا هذا الوفاء بالحقوق لوفائهم بالواجبات، فقاموا من أول السنة الدراسية بزيادة في ساعات دروسهم ساوت بينهم وبين مدرسي الطبقة الثالثة في عدد الساعات الأسبوعية، فبورك في سعيهم واجتهادهم، وما بذلوا في خدمة دينهم وبلادهم.
أما المشايخ المكلفون بالتدريس في الفروع، فقد جرينا في كامل هذه السنة على معاملتهم معاملة المشايخ المكلفين بالتدريس في الأصل سواء، ونحن نرجو أن يشملهم ما ينال إخوانهم بالأصل.
ثم إن العزم معقودٌ على أن تفتح السنة المقبلة بزيادة ربط لعلاقة الفروع بالأصل، وهو نظام التفقد بتكليف بعض أبنائنا العلماء بالتردد على الفروع للتنسيق بين مناهجها والربط بينها وبين مركزها ربطًا محكمَ العرى، حتى يستتب برنامج التعليم بالجامع وفروعه على نسبة متساوية. ذلك الذي آذنت به طلائع هذا العام فيما أسفرت عنه نتيجة الامتحانات، فقد كانت امتحانات الفروع برهانًا على أن برنامج التعليم الذي سطرناه قد كان مطبَّقًا في الفروع تطبيقًا لا يقل عما هو مطبق به في الأصل، فكانت نتيجةُ الناجحين من عموم المشاركين نتيجة كاملة، وإن نقصت في البعض لوفرة العدد فبأقل من اثنين في المائة.
ثم إن هذا الغِراس لم يزل في نماء وتفرع بما التحق بعداد فروع الجامع أثناء هذا العام، وذلك فرعان بالحاضرة بالجامع المرادي والجامع الحسيني، وفرع بالمهدية، وفرع بالمنستير. وسيزيد امتدادًا بإعادة تنظيم الفروع المعطلة التي تم اعتبارها بصفة رسمية، وتأهبت للاكتساء بالصفة العملية، وهي فروع باجة وبنزرت ومدنين. ثم سيعقب ذلك بإنجاز ما تقرر من تأسيس فروعٍ بالكاف وتالة ومنزل تميم، فعسى أن يصبح بحر انتظام التعليم الزيتوني نميرًا زاخرًا تجيش غواربه وتترامى أواذيه (1) إلى بحرَيْ الشريعة والعربية، فتنتعش بفيضه مشاربه، وتصبح فروعُه منتشرة، فمنها خلجان يمدها ذلك البحر بكل مترع لجب، ومنها ما يباكرها الغيث بقطر ثم ينكسب.
ولعل تسهيلَ هذا الخير يندرج فيما لله تعالى في تصرفاته من أسرار يعلم كنهها الراسخون، ولا ينصرف عن ملاحظة آثارها المتوسمون. فإقبال الأمة على هذا التعليم الذي هو عنوانُ ذاتيتها وقوام جامعتها إيذانٌ بأن الله تعالى قد هيأ لها رشاد أعمالها، وتحقيق آمالها، فساقها إلى التعلق بالعلوم المستمدة من كلمة السعادة، والكفيلة لمن أخذ بها بمنازل السيادة. فعلينا أن نشعر بأننا معشر الذين يسَّرنا لدلائل هذه العناية، وأقامنا هداة على الطريق المنتهية إلى تلكم الغاية.
(1) غوارب: مفرده غارب، وهو أعلى كل شيء وأظهره، وغوارب الماء: أعالي الموج. وأواذي: جمع مفرده آذي، وهو الموج الشديد.
وقد وجب علينا من شكران هذه النعمة ما يفي به عملنا في خدمة هذا الجانب، وإن تزامنت الهمة فإن نعم الله لا يفي بحقها عظيم الشكر، ولكن من بلغ المجهود حق له العذر. فقد بذلنا الجهد في ضبط مواد التعليم وتوزيعها، وتقرير المقادير والأساليب والكتب والمناهج على نحو ما شرطناه في مختتم العام الماضي، وحُرِّر في ذلك برنامجٌ مفصل طُبِع ووُزعت نسخُه بمعاهد التعليم، وكان السيرُ على مقتضاه كفيلًا بتقدم التعليم بخطًى واسعة، وقطعه نحو غايةِ الكمال مسافةً شاسعة.
وقد رُوعيت في هذا البرنامج المحافظةُ على الصبغة الأصلية للتعليم الزيتوني، وهي الصبغة الشرعية والعربية، وتوسيع نطاق الضلاعة للطلبة في هاتين الخصوصيتين بترقية البرنامج في منتهاه إلى أعلى رتبة من الكتب المشهورة التي شهد لها العالمون بغزارة العلم وإحكام الوضع، مع جعله متدرجًا نحو هذا المرتقَى في المناهج الموصلة إلى صحة تصور معاني العلوم، والقدرة على تطبيقها تطبيقًا سريعًا، وتنمية الملكات في التحرير والتقرير، ليتخرج من هذا التعليم المقتدرُ على الغوص فيما درس من المسائل، المضطلع بسبكها في أعز القلوب من الدروس والرسائل.
وقد أمكنت الاستعانةُ على تحقيق هذا المقصد بالتقليل من ساعات التلقي، والتكثير من ساعات العمل الشخصي للطالب؛ إذ يُعهد له بأعمال علمية يعملها خارج الدرس، ويبني على الموازنة بين مواد التعليم بصفة لا تدع الطالبَ الزيتوني منحطَّ الكفاءة في ناحية من نواحي ثقافته العامة إلى منزلة تقضي على فكرته العلمية بالقصور أو الاختلال، وبخاصة نحو الناحية الأدبية وناحية المعارف الرياضية والطبية. كل ذلك مع المحافظة على تفوق نسبة العلوم الشرعية والعربية في كل سنة من سني التعليم، مع أن البرنامج قد حقق الانتهاء في العلوم المتممة إلى منتهًى حميد يناسب عظمةَ هذا المعهد وقيمة شهادته.
هذا وقد وسَّع البرنامج في أوقاته ناحية الأخلاق الدينية، والآداب الإسلامية، والتخلق بخلق القرآن المجيد. ثم تعزز ذلك التوسع بالتخلق العملي بما
شمله النظام الموضوع لمدارس سكنى الطلبة من الاعتناء بهذا التخلق؛ إذ أصبحت المراقبة حازمةً على الطلبة في سلوكهم الديني بالتخلي والتحلي، والسير بهم نحو طريق الأدب والمروءة، وقطع دابر الفوضى، وأخذهم بالانقياد للنظام، وحملهم على المظهر المحمود. وصار شيخ المدرسة مطلوبًا بقضاء أغلب الأوقات فيها، مع الالتزام أن لا تُسند مشيخةُ مدرسة في المستقبل إلا لمن له الإقامة فيها.
وللمحافظة على سلامة أفكار التلاميذ، وسلامة صحتهم قد نظمت في المدارس أوقاتهم، وجعل تحضير دروسهم وأشغالهم التي يكلفون بها تحت مراقبة شيوخ من حملة شهادة العالمية أو شهادة التحصيل، مع الإفساح لهم في نظام أوقاتهم بما يسمح لهم بالراحة والنزهة والاستجمام، لتدفع عنهم دواعي الكلال والفتور، ومع القيام على حفظ النظام الصحي واتخاذ وسائل التطهير والعيادة الطبية ووضع الأدوية للمعالجات الاستعجالية. وقد وجدنا في إقامة ذلك إعانةً يتوجه عنها الشكرُ إلى جناب وزير الشؤون الاجتماعية، مفخر نبغائنا. وقد ابتدأنا في إبطال الطبخ في بيوت الطلبة وعرصات مدارسهم بإيجاد مطابخ لثلاث مدارس وتنظيم قاعات طعام منظمة ينخرط فيها الطلبة باشتراك مالي، مع افتتاح قسم للطعام المجاني بمائدة شرف لهم لإيجادها تبرع بعضُ الأفاضل، ورسمنا فيها ثلاثة من التلامذة: تونسي وجزائري وطرابلسي، فكانت رمزًا على أخوة أهل الشمال الأفريقي في التغذي من علوم هذا المعهد.
وإن ما نرتجيه من تمام مرافق السكنى الصحية العصرية وشمولها جميع المحتاجين من الوافدين في طلب العلم يزيدنا حرصًا على إنجاز المشروع العظيم: مشروع الحي الزيتوني، وتأكيدًا للثقة في الجمعية الساعية لتشييده تحت رئاسة فضيلة العلامة الجليل شيخ الإسلام المالكي (1)، بارك الله في علمه وفضله. وقد لاحظنا من
(1) هو الشيخ محمد العزيز جعيط.
إقبال الأمة على هذا المشروع الصالح إقبالًا نرجو أن يتزايد بفضل الإعانة الأدبية المرتجاة من جناب الوزير الأكبر في مخاطبة الرؤساء الإداريين بالمملكة للحث على الإقبال على الاشتراك، وما صدر من جناب وزير العدلية الهمام من الخطاب لعموم الهيئات الشرعية والعدلية في التنويه بهذا المشروع والحث على تعضيده، بارك الله في كماله، وزكَّى فضائلَ أعماله. وفي هذه النفحة الإلهية من المؤازرة والتأييد التي غمرتنا من عموم الأمة حكومة وشعبًا، اكتسبنا واكتسب أبناؤه الطلبة عدةً لمنازلة الأزمات، وتذليل العقبات.
فقد مر هذا العام على الطالب بأشد صعوباته، فمن فقد المساكن، وقلة الأزدواد والكسى، وغلاء الأدوات، وفقدان الكتب، فصابروا في هذه الشدة الخطيرة على اللأواء، وكانوا للعلم خير أنصار وأولياء، وامتثلوا للنظام المدرسي امتثالًا يصلح للحياة النظامية مثالا. فإذا نحن أخذنا بعضهم على تخلف أو إخفاق، فإنما نؤاخذهم ونحن نألم كما يألمون، ونُضمر لهم المعذرةَ التي يدعون، ولكننا نعمل لهم عملَ مَنْ طَبَّ لِمَنْ حب، ونسوسهم سياسة ناصح وأب، يغالب رقته وعطفه حين ينظر إلى مستقبل زاهر يهون عليه الوحشة التي تمتلكه في الوقت الحاضر. ولذلك لم نزل نتوخى لهم ما يجمع بين بذل النصيحة وبين مراعاة أزمانهم الشحيحة، فربما أعقبنا العقوبةَ بالعفو الجميل، وأتبعنا الحرمان بالتأجيل، عسى أن يكون مزج اللين بالحرص لنجاحهم خيرَ كفيل، كما قال القاضي الفاضل:
مَا نَاصَحْتُكَ خَبَايَا الوُدِّ مِنْ رَجُلٍ
…
مَا لَمْ يَنَلْكَ بِمَكْرُوهٍ مِنَ العَذْلِ
مَحَبَّتِي فِيكَ تَأْبَى أَنْ تُسَاعِدَنِي
…
بِأَنْ أَرَاكَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الزَّلَلِ (1)
(1) نقل عن صلاح الدين الأيوبي أنه قال يومًا للقاضي الفاضل: "لنا مدة لم نر فيها العماد الكاتب، فلعله ضعيف، امض إليه وتفقد أحواله. فلما دخل الفاضل إلى دار العماد، وجد أشياء أنكرها في نفسه، مثل آثار مجالس أنس ورائحة خمر، وآلات طرب"، فأنشد البيتين. ابن حجة الحموي، تقي الدين أبو بكر بن علي بن عبد الله: طيب المذاق من ثمرات الأوراق، تحقيق أبو عمار السخاوي (الشارقة: دار الفتح، 1997)، ص 8.
على أن هذه الصعوبات الجمة التي اعترضت سيرَ التعليم قد كان الكثير منها نازلًا على جوهر برنامج التعليم، مما عرَّض المشيخةَ لملاقاة العناء العظيم. وأهم ذلك ما لاح في فقدان كتب الدراسة والحاجة إلى محلات التعليم، فاعتمدنا في جبر نقص الكتب على همم فضلاء الأمة الذين أمدونا بنسخ قلائل من الكتب المقررة في البرنامج، أمكن أن تُوفي بحاجة الشيوخ في الجملة. وفي مقدمة هذه الأريحيات نذكر أريحة جناب وزير الدولة الذي أمد مكتبة الطلبة بعدد ذي بال من الكتب المدرسية، لا يزال عضدًا للعلم وذويه.
وقد دعا هذا الحالُ الاضطراري إلى توسيع دائرة إملاء تلاخيص الدروس توسيعًا كاد أن يشمل جميعَ مواد التعليم. وعلى ما أوجد هذا التوسيع من إفراط في الاعتماد على إحدى طريقتي الإملاء أو المراجعة بالكتاب، ومن مضايقة في الأوقات دعت في كثير من الدروس إلى عدم البلوغ بالضبط عند المقادير المقررة، فقد كان من جهة أخرى عونًا على توجيه الطلبة نحو الناحية العملية التطبيقية، وعلى تكوين دواعي التأليف والتصنيف للمشايخ المدرسين.
وأما محلاتُ التعليم التي عظمت مشكلتها بتوسيع دائرة التعليم الرياضي، والإكثار من الأعمال التطبيقية في دروس العربية، وتعدد الفروع بالحاضرة وخارجها، فقد توصلنا إلى تخفيف الشدة بإيجاد أقسام دراسية بالحاضرة وسوسة والقيروان. ورجاؤنا أن نتمكن في العام القابل من نوال بنايات مناسبة، وذلك ما تحصلنا فيه على وعود معتبرة من المراجع الحكومية.
هذا ما دخل في اختصاص المشيخة من الصعوبات التي ذللت في المنطقة الداخلية علمية وإدارية. وهنالك صعوبات خارجة عن اختصاص المشيخة ترجع إلى الناحية التشريعية أو الناحية المالية، سعينا في علاجها بالأسباب، وسلكنا لها الأبواب. فوجدنا من فضل الله تسهيلًا عجيبًا جعل منالها الأقصى قريبًا، وأكسب الهيئات التي أعانت على تحقيقها فخرًا خالدًا، يسجل لجميع أفرادها واحدًا واحدا. فقد وجدنا
لدى أعضاء مجلس الإصلاح ورئيسه انقطاعًا إلى علاج المشاكل التي طرحت لدى أنظار ذلك المجلس، حتى توصلوا بمضاعفة الجهود وموالاة الأعمال إلى وضع لائحة رفعت عن إجماع أصواتهم إلى الوزارة الكبرى ليجري اللازم في عرض ما تضمنته على الطابع السعيد، وهي لائحة تتضمن إصلاحَ نظام الإدارة، ونظام المدرسين، ونظام التعليم، وامتياز الشهادات، تذلل بها إن شاء الله ثلاث عقبات كأداء، هي:(1) عقبة الميزانية المالية بتصيير مشيخة الجامع مستقلة في تحرير ميزانيتها وتصريفها، (2) وعقبة القيمة الدولية لشهادات الجامع بتنظيرها بما يقابلها من الشهادات الثانوية والعليا وما يقتضي ذلك بالأولى أن تكون أصغر شهادات الجامع - وهي شهادة الأهلية - محققة الإعفاء التام من الخدمة العسكرية الذي هو من حقوق الشهادات الابتدائية فضلًا عن الثانوية. (3) وعقبة التعليم التحضيري للجامع بحسب نظر المشيخة على عموم المدارس القرآنية والكتاتيب، وهو المبدأ الذي خطونا نحو تطبيقه بالاتصال بالمدارس القرآنية الحرة وتخطيط برامجها وتفقد العمل بها.
على أن ناحية التسهيلات المالية لتقوم المقاصد الإصلاحية قد تم منها أمر ذو بال بما لقينا لدى السادة النواب الأمناء - أعضاء المجلس الكبير - من بذل الجهود العظيمة في خدمة القضية الزيتونية، والنضال عنها، حتى تم تقرير جميع الاعتمادات اللزومية التي اقترحنا تقريرها في ميزان الدولة للعام الجاري، فكانوا اللسانَ الناطق بالإعراب عن رغبة عموم الأمة منوبيهم في شدة التمسك بهذا التعليم، والحرص على إنهاضه وتوسيعه.
وإن الوقت الذي مضى في تحقيق هذه التأسيسات المهمة لم يصدَّ عن اطراد سير النهضة التدريسية والتنفيذات الإدارية بما عم من التكاتف والإخلاص اللذين وفَّقَا بين المقاصد ومزجَا بين الأشخاص فيما لقينا من العلماء الجلة - أفراد الهيئة التدريسية - من الحرص والإعانة على تنفيذ البرنامج والنظم التدريسية، إعانةً بلغت درجة الإيثار على الصالح الذاتي، ومزجت بين المشيخة وهيئة التدريس مزجًا جعل هذه الهيئة مشاركة في سَنِّ كل عمل يرجع إلى برامج التعليم ونظامه، وإنا لنرجو أن
يدأبوا على مواصلتنا بآرائهم الصائبة. وكذلك من الشيوخ المكلفين بالتدريس في المعهد وفروعه، والأساتذة القائمين بتدريس الرياضات والطبيعيات الذين أخلصوا في إيصال الطلبة إلى الدرجات التي رجوناها، فكانوا محلَّ الظن من الوفاء ببر الأبوة التي أودعناها، وقربوا بين الثقافتين الزيتونية والصادقية، فقربوا من هذه الأمة مناها، وكانوا في مقابلة الشيوخ الزيتونيين القائمين بالتعليم في الصادقية خيرَ مظهر لصفاء الأخوة الإسلامية من كل شائبة متكرة من شوائب الطائفية والعنصرية.
أما الهيئةُ الإدارية من حضرات الشيوخ الأعلام: أعضاء مجلس الإصلاح المؤلفين للجنة المناظرات والامتحانات، وأصحاب الفضيلة الشيخين النائبين بالمشيخة، والشيخ النائب بإدارة أمور المدارس، ورجال الهيئة الشرعية المشرفين على إدارة فروع المملكة، وسائر الموظفين بالأصل والفروع من المشايخ الكتبة ووكلاء الكتب والقيمين من الأعوان، فلو أننا حاولنا شكرَهم لكان لسانُهم يثني عليهم، ومحامدُهم تعود إليهم، ولكنها النتائجُ تُعرِبُ عن أربابها، والأعمال تزكِّي جهودَ أصحابها. فقد كانت نتائجُ الامتحانات أفصحَ ناطقٍ بشكر الهيئتين، يشهد لهما بما بذلَا من جهد واستحقَّا من حمد.
فقد شارك في امتحان شهادة العالمية في العلوم سبعة وأربعون، أحرز منهم تلك الشهادةَ واحدٌ وعشرون. وشارك في امتحان العالمية في القراءات اثنان أحرز كلاهما على الشهادة، وشارك في شهادة التحصيل في العلوم مائتان وأربعة وسبعون، نجح منهم مائةٌ وسبعة عشر، وفي التحصيل في القراءات ثمانية أحرز منهم على الشهادة سبعةٌ وتخلف واحد، وفي شهادة الأهلية أربعمائة وواحد وستون أحرز منهم ثلاثمائة وثمانية وثلاثون.
وإنها نتيجة في جملتها بَهِجَة سارة، تكافئ شرفَ هذا الجمع الذي أقبل على تلقيها بعناية تقوي همم محرزيها، وتهيب بمن حولهم على أن يلتحقوا بهم، فيدركوا مقامًا نبيهًا، ويفخروا بما لأمتهم من العناية بإكرام النوابغ من بينها.
فباسم الهيئة التدريسية والإدارية، واسم عموم طلبة المعاهد الزيتونية، أتقدم بشكر هذا الإقبال العظيم الذي تكاملَ بحضور صاحِبَيْ المعالي الوزيرين الجليلين، لا زالَا أقوى سند للنهضة العلمية في مقاصدها الخيرية، واستنارَ بالهيئة الشرعية العلية عنوان الشرف العلمي والعدالة الدينية يتقدمها فضيلة جناب شيخ الإسلام لا زال في أفق المعالي بدرَ تمام، وجناب شيخ الجامع الأسبق الذي سجلت له عرائصُ هذا البيت ذكرياتِ ما بذل في خدمته من نصح واستقامة، وما قرب لطلبته من نجاح وكرامة، وازدهر بحضور هذه النخبة الكريمة من قادة الأمة ونوابها، ورؤساء الهيئتين العدلية الموقرة والإدارية المعترة، وممثلي الصحافة الوطنية التي لها في توسيع صدى نهضة التعليم الزيتوني أكبرُ مزية، ورؤساء الجمعيات والمنظمات، ووجوه الهيئات الحرة من العدول والمحامين والفلاحين والتجار وأرباب الصناعات.
فإن التفاف هؤلاء الفضلاء حولنا يقوي الساعد، ويكون على البراءة في بذل الجهد خير شاهد، ويدعنا نعتبر جميعهم شركاء لنا في شرف الخدمة، ومعينين على توجيهنا للعمل بصادق الهمة، متواصين بالإخلاص لهذا المهم الخطير، وتطهير النفوس من أدران التخاذل والتقصير، ومراعاة حق الله في احتمال هذا العبء الجليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.