الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطاب في الاحتفال السنوي لمكتبة التلميذ الزيتوني
(1)
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وإنعامه وتممه، وأرسل رسولًا يتلو صحفًا مطهرة فيها كتب قيمة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمة.
أما بعد، فقد خُتمت هذه السنة الموسمية لأعمال مكتبة التلميذ الزيتوني بعد عمل جاد وهمة يقظَى لا تعرف السهاد، فبرهنت أعمالُها على كفاءة القائمين بتنسيقها، وأظهرت في خلال هذه السنة تقدمات جمة ووفرة من الأعمال المهمة. ولقد زارتني هيئة جمعيتها غير مرة، وأطلعتني على الجهود المصروفة في إنمائها، فشاهدت تقدمًا سريعًا أقر العين، وأوجب شكر أولئك الساعين.
إن أهمية هذه المؤسسة حقيقةٌ ببذل العناية والمعاضدة للقائمين بها، فإن إيصال العلوم النافعة إلى أذهان التلامذة غايةٌ سعى إليها الحكماء والناصحون، فتوخوا لها مختلفَ الطرق ودبروا لتفاضلها وتقصير خطاها قصارى ما استطاعوا من ابتكار الأساليب واختلاف مظاهرها. فالتلميذ الذي يقضي ساعاتِ يومه في متابعة برنامج تعليمه وتحضيره المستغرق أوقاتَه لا يزال بعد ذلك في حاجة إلى الازدياد من المعارف، وهو مع ذلك محتاج إلى استجماع ذهنه واستجداد نشاطه عقب الأعمال التي قد تفضي به إلى الملال. فلا جرم أن كان جديرًا بأن يحتال ناصحوه على أن يعرضوا على ذهنه معارفَ لم تسمح له دروسُ التعليم بتلقيها، ولا يسمح له طلب الكمال بأن يفرط فيها، ولا تساعده قوة العمل بعد الفوات بتلافيها.
(1) المجلة الزيتونية، المجلد 6، الجزآن 2 - 3، 1364/ 1945 (ص 424 - 426).
فمن الحكمة أن يوفَّق بين حالي حاجته وراحته. فكما كانت تلك المعارفُ مغايرةً للعلوم التي يلقنها في برنامج تعليمه، كذلك ينبغي أن تكون وسيلةُ إيصالها إلى ذهنه مغايرةً للوسائل المعتادة، حتى يحصل استجدادُ نشاط ذهنه باختلاف الأساليب من غير حرجٍ عليه في ذلك ولا تثريب، فإن لاختلاف الأساليب تجديدًا لإقبال النفس على مزاولة الأشياء المتكررة.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة خشيةَ السآمة عليهم (1)، واقتداء بتلك السنة كان عبد الله بن عباس إذا أفاض في القرآن والتفسير طويلًا وخاف عليهم الملالَ يقول لأصحابه عقب ذلك:"أحمِضوا"، يريد خُذوا في مُلح الكلام والأخبار (2). ومعنى تلك الاستعارة أن الإحماض هو أن ترعى الإبلُ الحمض، وهو النبتُ الذي فيه ملوحةٌ وحموضةٌ بعد أن كانت ترعى الخلة - وهي الحلو من النبت - تحب أن تخالف الطعم تجديدًا لشهوة المرعى. ولعلكم تذكرون تلك النكتةَ التي وجَّه بها علماءُ البلاغة أسلوبَ الالتفات في كلام العرب، فمثلوه بحسن القِرى إذا يخالف المضيفُ لضيوفه بين ألوان الطعام، وكما كان اختلافُ الألوان من قرى الأشباح، كذلك يكون اختلاف الأساليب من قرى الأرواح (3).
(1) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراة السآمة علينا". صحيح البخاري، "كتاب العلم"، الحديث 68، ص 17 (وانظر كذلك الحديث 70). وأخرج مسلم عن شقيق البلخي عن أبي وائل قال:"كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الله إنا نحب حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم. فقال: ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهيةُ أم أُملكم. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا". صحيح مسلم، "كتاب صفة القيامة والجنة والنار"، الحديث 83، ص 1086.
(2)
ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم: غريب الحديث، تحقيق عبد الله الجبوري (بغداد: إدارة إحياء التراث الإسلامي بوزارة الأوقاف، 1977)، ج 2، ص 366.
(3)
قال السكاكي في بيان معنى الالتفات ووظائفه وفوائده: "واعلم أن هذا النوع - أعني نقلَ الكلام عن الحكاية إلى الغيبة - لا يختص المسند إليه، ولا هذا القدر، بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها يُنقل كلُّ واحدٍ منها على الآخر. ويسمى هذا النقلُ التفاتًا عند علماء علم المعاني، والعربُ يستكثرون منه، ويرون الكلامَ إذا انتقل من أسلوبٍ إلى أسلوب أدخلَ في القبول عند السامع، =
إن العلومَ شتى، ومناحي التفكير عديدة، وكلُّها لازمٌ لاستكمال الحضارة، ويتبعها شيءٌ آخر مهمٌّ وهو مزاولةُ المجتمع، واندماجُ المرء بين أهل عصره. والتلميذ في منقطع من العمل يغمر أوقاته ويستغرق ساعاته، فإن هو لم يحتلْ على التزوُّد من تلك العلوم والمناحي والاتصال بذلك المجتمع، كان كالغريب في قومه، وكأنه ابنُ أمسه لا ابن يومه. وليس أجدى عليه في قصده، وأبقى له على سننه وتقاليده العلمية من انتيابه مكتبةَ التلميذ، فهنالك يتعرف إلى طبقات من صنفه لا تجمعه وإياهم حِلقُ الدروس، ويطلع على كتب لا تعرض له في برامج تعليمه، فيصبح ذهنه كالنحل العواسل تختار من كل الأزهار والثمرات، لتخرج له عصارةً مختلفةَ الألوان والأذواق فيها شفاءٌ للنفس.
فمكتبةُ التلميذ الزيتوني تحتوي على فوائد غالية ومقاصد شريفة تجتمع في أنها: تحصل فائدة الاجتماع في الاختصاص، وتقابس الأفكار، وتزويد العقول بالمعارف الجمة، كلُّ ذلك في حفظ كرامة، واستبقاء للآداب العالية ومكارم الأخلاق.
ورحم الله أبا عثمان الجاحظ إذ يقول في الكتاب: "هو الصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالكر، ولا يخدعك بالنفاق، ولا يحتال لك بالكذب". (1)
= وأحسنَ تطريةً لنشاطه، وأملأَ باستدرار إصغائه، وهم أحرياءُ بذلك. أليس قِرَى الأضياف سجيتهم ونحر العشار للضيف دأبهم وهِجِّيراهم؟ . . . أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون فيه بين لون ولون، وطعم وطعم، ولا يحسنون قِرَى الأرواح فلا يخالفون فيه بين أسلوب وأسلوب وإيراد وإيراد؟ ! فإن الكلامَ المفيد عند الإنسان، لكن بالمعنى لا بالصورة، أشهى غذاءً لروحِه وأطيبُ قرًى لها". مفتاح العلوم، ص 296 (نشرة هنداوي).
(1)
قال أبو عثمان في فضل الكتاب من مقدمته الطويلة لكتاب الحيوان: "والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملك، والمستميح الذي لا يستريثك، والجار الذي لا يستبطيك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملَق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق، ولا عقال عليك بالكذب". الجاحظ: كتاب الحيوان، ج 1، ص 50 - 51.
وإني أثني على همة الشاب الزيتوني أنه شاب يُقبل باختيار وأريحية وبوسائله الخاصة على ما يساق إليه الناس بالإلزام. وهذه ظاهرة مباركة تسهل علي ما أضمره لهذه النابتة من إصلاح ورفع مستوى، فإن من اختار نفسه وسائل تكملة ثقافته لا يتردد في الإقبال على أمثالها إذا رسمت في برامج تعليمه.
لذلك كان العملُ الذي تقوم به الهيئةُ المسيِّرة لهذه المكتبة عملًا جليلًا مجديًا في ترفيع الثقافة الزيتونة علمًا وعملًا، فلها جزيلُ الشكر على انقطاعها لخدمة الناشئة العلمية الزيتونية انقطاعَ عنايةٍ وإيثار، ومثلَه معه أُوَجِّهُ لِلَجْنة مراقبتها الناصحة ورئيسها المفضال، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.