الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بداهة جوابه وملحه:
جلس يومًا عند المهدي أمير المؤمنين ومعه أبو دُلامة، فافتخر بشار بحب النساء إياه، فقال أبو دُلامة:"كلا! لوجهُك أقبحُ من ذلك ووجهي مع وجهك"، فقال بشار:"كلا! والله ما رأيتُ رجلًا أصدقَ على نفسِه وأكذبَ على جليسه منك". (1)
وحضر يومًا في دار المهدي، "والناس ينتظرون الإِذْن، فقال المُعَلّى بن طريف أحدُ موالي المهدي لمن حضر: ما عندكم في معنى النَّحْل من قول الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ} [النحل: 68]، فقال بشار: النحل التي يعرفها الناس، قال: هيهات يا أبا معاذ، النحلُ: بنو هاشم، وقوله: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، يعني العلم، فقال بشار: أرانِي الله طعامَك وشرابَك وشفاءك فيما يخرج من بطون بني هاشم، فقد أوسعتَنا غَثَاثَة، [فغضب وشتم بشار]. وبلغ المهديَّ الخبرُ فدعا بهما [فسألهما عن القصة]، فحدثه بشارٌ بها، فضحك (المهدي) حتى أمسك على بطنه، ثم قال للرجل: أجَلْ! فجعل الله طعامَك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فإنك باردٌ غَثّ". (2)
(1) الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 138 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 643 (نشرة الحسين).
(2)
الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 158 (نشرة القاهرة)، الأغاني، ج 1/ 3، ص 656 - 657 (نشرة الحسين). ما بين الحاصرتين زيادة من "كتاب الأغاني" لم يوردها المصنف، وما بين القوسين زيادة من المصنف. ومن طرائفه أيضًا ما رواه حماد بن إسحاق عن أبيه قال:"دخل يزيد بن منصور الحميري على المهدي، وبشارٌ بين يديه يُنشده قصيدة امتدحه بها. فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد بن منصور الحميري، وكانت فيه غفلة، فقال له: يا شيخُ، ما صناعتك؟ فقال [بشار]: أثقُبُ اللؤلُؤَ، فضحك المهدي ثم قال لبشار: أُعزُبْ ويلك، أتتنادر على خالي! فقال له [بشار]: وماذا أصنع به! يرى شيخًا أعمى يُنشد الخليفة شِعْرًا ويسأله عن صناعته! " المصدر نفسه، ص 159.
ومدح المهدي بقصيدة فلم يُجزه، فقيل له:"إنه لم يستجد شعرك، فقال: والله لقد قلتُ شعرًا لو قيل في الدهر لم يُخْشَ صَرْفُه على أحد، ولكنا نكذِبُ في القول فنُكذَبُ في الأمل". (1)
وقال له أبان بن عبد الحميد: "يا أبا معاذ، أنت القائل:
إِنَّ فِي بُرْدَيَّ جِسْمًا نَاحِلًا
…
لَوْ تَوَكَّأْتِ عَلَيْهِ لانْهَدَمْ (2)
وأنت القائل:
فِي حُلّتي جِسْمُ فَتًى نَاحِلٍ
…
لَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ بِهِ طَاحَا
قال: نعم، قال: فما حملك على هذا الكذب؟ والله إنِّي لأرى لو أن الله بعث الرياحَ التي أهلك بها الأممَ الخاليةَ ما حرّكتْك من موضعك! ولكنْ ما سلب الله سراجَيْ أحدٍ إلا عوّضه الله منهما ذكاء قلب أو شجا صوت، فما الذي عوضك الله منهما؟ فقال بشار: عدم النظر إلى ابن فاعلة مثلك منذ أربعين سنة! " (3)
(1) المصدر نفسه، ص 216؛ وانظر كذلك ص 240.
(2)
ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4 (الملحقات)، ص 188.
(3)
من مجموعة عتيقة أظنها لأبي القاسم الأصفهاني بخزانة جامع الزيتونة، عدد 4516. - المصنف. والأصفهاني هو أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصفهاني، وهو غير الراغب الحسين بن محمد بن المفضل الأصفهاني. له كتاب "الحجة في بيان المحجة" و"الواضح في مشكلات شعر المتنبي"، وله يُنسب كتاب "درة التنزيل وغرة التأويل" في التفسير الذي ينسب كذلك للراغب الأصفهاني وللخطيب الإسكافي. وذكر أبو الفرج الأصفهاني رواية قريبة من هذه نسبها إلى بعض الكوفيين. كتاب الأغاني، ج 3، ص 214 - 215 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 695 - 696 (نشرة الحسين). وذكر القالي في ذيل أماليه أن رجلًا قال لبشار:"إنه لم يذهب بصرُ رجل إلا عُوض من بصره شيئًا، فما عوضت أنت من بصرك؟ قال: أن لا أراك فأموت غمًّا". كتاب الأمالي، ص 589.
وكان بشارٌ يعطي أبا الشَّمَقْمَق (1) الشاعر مائتي درهم كلَّ سنة، فقال له أبو الشمقمق في بعض السنوات: أين الجِزْية؟ فقال: أَوَ جزية هي؟ قال: نعم، قال بشار: أنت أفصحُ مني وأعلم بمثالب الناس؟ قال: لا، فلِمَ أُعْطِيك؟ قال: لئلا أهْجُوَك، قال: إن هجوتني هجوتُك، فقال أبو الشَّمَقْمَق:
إنِّي إِذَا مَا شَاعِرٌ هَجَانِيَهْ
…
وَلَجَّ فِي القَوْلِ لَهُ لِسَانِيَهْ
أَدْخَلْتُهُ فِي أَسْتِ أُمِّهِ عَلَانِيَهْ
…
بَشَّارُ يَا بَشَّارُ. . . .
فوثب بشارٌ ووضع يده على فم أبي الشَّمَقْمَق، ولم يتركه ينطق ببقية البيت؛ لأنه علم أنه سيقول:"يا ابن الزانية"(2).
واستصنع بشارٌ قباء عند خياطٍ أعور، فلما أتاه به قال الخياط: "يا أبا معاذ هذا القباء لا تدري: أقباء هو أم دُوَاج؟ فقال بشار: لأقولنّ فيك بيتًا لا يدري سامعُه ألك دعوتُ أم عليك؟ وقال:
خَاطَ لِي عمرٌو قَبَا
…
لَيْتَ عَينيهِ سَوَا
قُلْتُ بَيْتًا لَيْسَ يُدْرَى
…
أَمَدِيحٌ أَمْ هِجَا؟ " (3)
وإن التعمق في اكتناه خُلق بشار يُنبئ بأنه كان مضطربَ النزعة، جاريًا وراء ظِلال الدول والمذاهب، لا قرارَ له في شيء من ذلك، سعيًا وراء منفعته ووجاهته. ولم يكن ذلك بالذي يهز المتقلدين للشوكة والدولة، لعلمهم بأنه ليس مِمَّنْ يُخشى
(1) هو أبو الشمقمق مروان بن محمد، ولد سنة 112/ 730 وتوُفِّيَ سنة 200/ 815. شاعر هجاء، بخاري الأصل، من موالي بني أمية. عاصر شعراء عدة وهجاهم، كبشار بن برد وأبي العتاهية وأبي نواس ومروان بن أبي حفصة وحماد عجرد. لقب بأبي الشمقمق لطوله، كان عظيم الأنف قبيح المنظر. عاش أبو الشمقمق في البصرة، وزار بغداد في أول خلافة هارون الرشيد.
(2)
الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 194 - 195 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 681 (نشرة الحسين). الأصفهاني: محاضرات الأدباء، ج 2، ص 766.
(3)
ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4 (الملحقات) ص 14.
انْحرافُه ولا مِمَّنْ تَنفعُ عصبيتُه، وما هو إلا شعره يُسيِّر به حسن سمعة الممدوح. وذلك مما يكتفي به القائم بالدولة؛ لأن تأثيرَ الأقوال تأثير وقتي يحصل منه المقصود في وقت صدوره، فقد كان بشار من أنصار الدولة الأموية، وله مدائح في مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين، ثم مدح خلفاء الأمويين، ثم مدح خلفاء العباسيين وعرّض بالأمويين.
قالوا: لَمَّا ثار إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن عليّ علَى المنصور مدحه بشار بقصيدة هجا فيها أبا جعفر المنصور، وهي التي طالعها:
أَبَا جَعْفَرٍ مَا طُولُ عَيْشٍ بِدَائِمِ
…
وَلَا سَالِمٌ عَمَّا قَلِيلٍ بِسَالِمِ
فَرُمْ وَزَرًا يُنْجِيكَ يَابْنَ سُلَامَةٍ (1)
…
فَلَسْتَ بِنَاجٍ مِنْ مَضِيمٍ وَضَائِمِ (2)
وقال فيها في مدح إبراهيم [أبا مسلم الخراساني]:
مِنَ الفَاطِمِيِّينَ الدُّعَاةِ إِلَى الهُدَى
…
جِهَارًا وَمَنْ يَهْدِيك مِثْلُ ابْنِ فَاطِمِ! (3)
فلما انتصرت جنودُ المنصور على إبراهيم في تلك السنة خاف بشار، فغَيَّر تلك القصيدة وجعلها مدحًا في المنصور وهجاء لأبي مسلم الخراساني، فصيّر أوله: "أبا
(1) سلامة هي أم أبي جعفر المنصور، قال ابن حزم إنها "أم ولد بربرية، قيل نَفزية، وقيل صُنهاجية". ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد: جمهرة أنساب العرب، تحقيق عبد السلام محمد هارون (القاهرة: دار المعارف، ط 5، 1982)، ص 20.
(2)
في الديوان بتحقيق المصنف لا يأتي الثاني من هذين البيتين مباشرة بعد الأول (والمخاطب فيه أبو مسلم بدل أبي جعفر)، وإنما يفصل بينهما عشرة أبيات. ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4 (الملحقات)، ص 190 - 192.
(3)
المصدر نفسه، ص 193. وقد أورد المصنف الأبيات في الديوان في صورتها المعدلة في مدح المنصور على النحو الآتي:
مِنَ الهَاشمِيِّينَ الدُّعَاةِ إِلَى الهُدَى
…
جِهَارًا وَمَنْ يَهْدِيك مِثْلُ ابْنِ هَاشِمِ!
ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4 (الملحقات)، ص 193. والبيت من قصيدة من خمسة وعشرين بيتًا من بحر الطويل.