الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اتصال السند الأندلسي بتونس:
كانت أقرب البلاد إلى الأندلس، في اتساق الصلات العلمية، واطرادها وانعكاسها، البلاد التونسية، منذ افتتح موسى بن نصير الأندلس من تونس. وازداد هذا التقارب بقيام الدولة المرابطية، وجمعها القطرين - مع سائر الأقطار المغربية - في حكم سلطنة واحدة، وانبناء الدولة الموحدية - بعد - على ذلك الأساس، ثم بما تكون عند تشتت الدولة الموحدية من صلاتٍ خاصة مقرِّبة بين القطرين الأندلسي والتونسي، في أول القرن السابع، عند ازدهار الدولة الحفصية بتونس، صلاتٍ طمَّ بها سيلُ علماء اللغة الأندلسيين على البلاد التونسية الأعلام الذين اشتمل عليهم برنامجُ ابن جابر ورحلة ابن رشيد (1)، ورحلة العبدري (2)؛ إذ توطنها ابن الأبار، وابن الغماز، وحازم القرطاجني، وابن عصفور، واللبلي، وآل ابن سعيد، وهم - في موضوعنا - بيتُ القصيد: فقد آوى إلى تونس - منتصفَ القرن السابع - ثلاثةٌ من نبلاء هذا البيت المجيد، هم موسى بن سعيد العنسي، وابنه الكاتب الرحالة علي بن موسى، وصاحب كتاب المغرب، وقريبُهما محمد بن الحسين بن سعيد بن الحسين بن سعيد العنسي، وعقد لذكرهم جميعًا المقري في نفح الطيب فصلًا مسهبًا، بمناسبة ترجمة علي بن سعيد، في الباب الخامس "في التعريف ببعض من رحل من الأندلسيين إلى بلاد المشرق"(3).
والمقصود من بينهم - هنا - هو ثالثهم: أبو عبد الله محمد بن الحسين، فقد ذكره ابن خلدون في فصل علم اللغة من المقدمة، عقب الكلام على ابن سيده وكتابه المحكم، فقال: "ولخصه (المحكم) محمد بن أبي الحسين، صاحب المستنصر من
(1) مخطوط الأسكوريال.
(2)
مخطوط الزيتونة.
(3)
انظر: المقري التلمساني، أحمد بن محمد: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس (بيروت: دار صادر، 1408/ 1988)، ج 2، ص 262 - 292.
ملوك الدولة الحفصية بتونس، وقلبَ ترتيبَه إلى ترتيب كتاب "الصحاح" في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها، فكانا توأمَيْ رحم، وسليلَيْ أبوة". (1) وإجمال عبارة ابن خلدون هذه ربما يفيد أنهما كتاب واحد، مبني على تلخيص وقلب وترتيب، ولكن المحقق أنهما كتابان.
وورد في "تاريخ آداب اللغة العربية" لجرجي زيدان أن لكتاب "المحكم" اختصارًا موجودًا في المتحف البريطاني بخط مغربي قديم، نسبه لمحمد الأنسي المتوفَّى سنة 680 (2). والأظهر أنه لم يهتد إلى تمام الاسم، وأن "الأنسي" هي تصحيف "العنسي"، وأن هذا الكتاب هو الذي أشار إليه ابن خلدون، وهو المفصَّل وصفُه في فهرس المتحف البريطاني (الملحق الثالث 228، 229). وهي نسخةٌ بخط المؤلف في جزءين غير تامة، يستفاد من خطبتها صريحًا أنها "خلاصة المحكم"، وأن للمؤلف كتابًا آخر هو "ترتيب النسخة الكبرى من المحكم"(3).
ولما غلبت الهجرة على أعلام اللغة من الأندلسيين في القرن السابع - وكانت أكثرُ رحلتِهم إلى تونس كما أسلفنا - تأتَّى لعلماء اللغة وأهل الرواية والوافدين على تونس من الاتصال في الاستفادة والإفادة بالأندلسيين والفاسيين، والمراكشيين، والتلمسانيين، والبيجائيين، والقسنطبيين، بله التونسيين، ومن الرحلة إلى المشرق، والاتصال بالوافدين من المشرق عليهم، ما صاروا به المستودَع والمرجع في أصالة الملكة العربية، وصحة الإسناد فيها، وضبط اللغة، ورواية كتبها، والقيام على شواهدها، وما جعل تصانيفَهم وأسانيدهم التي تضمنتها فهارسهم وبرامجهم ومشايخهم، مدارَ رواية اللغة في البلاد المغربية قاطبة.
(1) ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، ص 549. - المحقق.
(2)
ص 312 ج 2 ط الهلال.
(3)
عدد الجزءين بمكتبة المتحف البريطاني 471 و 472.
وقد أشار ابن خلدون إلى أن ملكة العربية صحت في إفريقية بجلاء أهل شرقي الأندلس إليها (1)، فأصبحت البلاد التونسية مقصدًا تُشد لها الرحال للأخذ عن هؤلاء الأئمة والتخرج بهم. وشاعت دراسةُ كتب اللغة بتونس على علمائها وحملة روايتها عن أهل الإسناد فيها، بما تضمنته الفهارسُ والبرامج والمشيخات، والرحلات الممتعة المبنية على ذكر الشيوخ والكتب والقراءة والرواية ووصل الأسانيد.
وظهرت في تونس نخبةٌ من المهتمين بعلوم اللغة، من الإفريقيين أصالةً، الآخذين عن الأندلسيين المهاجرين، المتصلين من طريقهم بالأسانيد الأندلسية الأولى. فصارت فهارسُ الرواة الأندلسيين مندرجةً في الفهارس التونسية، وأصبحت أصول الكتب المقروءة المصححة المسندة، آتية إلى تونس من الأندلس أو متكونة فيها. فنجد من عمد الأسانيد اللغوية، الذين انتقلوا من الأندلس إلى تونس: القاضي أحمد بن الغماز البلنسي (2)، والشيخ محمد بن هارون القرطبي (3)، والأستاذ أبا جعفر أحمد اللبلي (4)، والأستاذ أبا عبد الله ابن الأبار البلنسي (5)، والإمام أبا الحسن حازمًا القرطاجني (6). وقد سبق أن أخذوا في الأندلس عن أبي القاسم ابن بقي (7)، وأبي علي الشلوبين (8)، وأبي الربيع سليمان الكلاعي (9). فقرئت عليهم أصولُ كتب اللغة بتونس، مرويةً بأسانيدها الأندلسية المثبتة في المشيخات والفهارس، مثل مشيخة ابن حبيش، يرويها ابن الغماز عن الكلاعي عنه، وقد وضع فيه تأليفًا
(1) مقدمة ابن خلدون، ص 563 - 564. - المحقق.
(2)
الديباج المذهب لابن فرحون ص 76 ط مصر سنة 1329.
(3)
فهرس الفهارس ص 425 ج 2.
(4)
الديباج ص 80.
(5)
فهرس الفهارس ص 99 ج 1.
(6)
بغية الوعاة، ص 214.
(7)
برنامج شيوخ الرعيني تحقيق الأستاذ شبوح دمشق 1381.
(8)
برنامج الرعيني ص 84.
(9)
برنامج الرعيني ص 66.
خاصًّا (1) ووضع ابن الغماز فهرسًا تضمن ذلك المعجم رواه عنه ابن جابر الوادياشي في فهرسه، ومثل برنامج ابن بشكوال يرويه ابن الأبار عنه، ومثل برنامج ابن أبي الأحوص يرويه أبو إسحاق بن حبي كما في رحلة ابن رشيد، ويرويه أبو الحسن القيجاطي التونسي وعنه يروى في الأسانيد المتأخرة.
ونجد من كتب اللغة التي قرئت بتونس على أولئك الأساتيذ مثل كتاب "الألفاظ" لابن السكيت؛ قرأه ابن جابر على ابن الغماز (2)، وكتاب "الفصيح" لثعلب قرأه ابن جابر أيضًا على اللبلي، وقد قرأه اللبلي على أبي علي الشلوبين وغيره، كما يثبت اللبلي في فهرسته التي رواها عنه ابن رشيد، أنه قرأ من خصوص كتب اللغة، فضلًا عن عامة علوم العربية: كتاب "إصلاح المنطق" لابن السكيت، وكتاب "أدب الكتاب"، وكتاب "كفاية المتحفظ" لابن الأجدابي و"مثلث قطرب"، و"صحاح الجوهري"، و"أفعال ابن القطاع"، و"مقصورة ابن دريد"، و"الكامل للمبرد"، و"مقامات الحريري". ونجد من النسخ المروية المقابلة المقروءة، نسخة "المحكم" التي كتبها بخطه أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر القيسي الإشبيلي عن أصل أبي عبد الله محمد بن خلصة، الذي قرأه على مؤلفه ابن سيده سنة 455 هـ، وهي نسخة تقدر في ثلاثين مجلدًا، يوجد منها اليوم ثمان مجلدات في خزائن جامع الزيتونة (3)، وعليها مقابلاتٌ متتابعة وتوقيفات لا يبعد أن تكون من عمل الرئيس أبي عبد الله ابن الحسين عند اختصاره كتاب المحكم؛ لأنها في الغالب تحقيقاتٌ مقارنة لما في المحكم بما في تهذيب الأزهري وصحاح الجوهري. والمقدر أن تكون هذه النسخة قد آوت إلى تونس مع الذين آووا إليها عند سقوط بلنسية سنة 645 هـ.
(1) نفح الطيب ص 587 ج 2.
(2)
فهرس ابن جابر مخطوط الاسكوريال.
(3)
الأحمدية 3914 وما بعده.
واستمرت هذه الحركة في خدمة اللغة رائجة، والهمم في الاعتناء بها صاعدة، طيلة القرن السابع والقرن الثامن. وامتدت إلى مصر، واتصلت بأئمة اللغة فيها بواسطة الراحلين المجتازين أمثال ابن رشيد، أو المنقطعين المهاجرين أمثال التيفاشي (1)، فكان ذلك سبب اتصالها بابن منظور صاحب "لسان العرب"، زيادة على أصالته الإفريقية.
ثم أخذت الهمم في التقاصر، والإقبال في التراجع، من أواخر القرن الثامن، بما توالى على البلاد التونسية من أحدث الفتن والقلاقل والأوبئة، مما قطع الأمل، وقتل العزائم، وشتت الألباب. وإن كان ابن خلدون قد يعزو ذلك إلى شيء صرح به بالنسبة إلى الملكة اللسانية؛ إذ علل انقراضها وانقطاع سند تعليمها في العدوة (المغرب الأقصى وتونس) بـ "عسر قبول [أهل] العدوة لها، وصعوبتها عليهم بعوج ألسنتهم ورسوخهم في العجمة البربرية، وهي منافية لما قلناه". (2) ولنا في تنويهه بمقام شيخيه محمد بن بحر، ومحمد بن جابر الوادياشي، في علوم العربية واللسان، وما أخذ عنهما من علم مسند بالرواية (3)، ما يُبعد التعليلَ الذي أورده عن أن يكون له في موضوعنا مجال.
وأيًّا ما كان السبب، فإن سند تعليم اللغة في البلاد التونسية قد انقطع بعد اتصاله، وأصبحت الأسانيدُ المتصلة بكتب اللغة مندرجةً اندراجًا تبعيًّا في الإجازات والأثبات، تحكي ما كان لها من الشأن السامي والمقام المكين. فتكفل بإبلاغ الأمانة رجالُ الفهارس والأثبات والرحلات العلمية، مثل القيجاطي، وابن جابر، وابن رشيد، والحفيد ابن مرزوق، وخالد البلوي، والعبدري. فتلقاها عنهم أصحابُ الأسانيد العامة والأثبات الجامعة من أهل المشرق وأهل المغرب، وإن لم
(1) أحمد بن يوسف في الأعلام للزركلي.
(2)
مقدمة ابن خلدون، ص 564. - المحقق.
(3)
ص 384 ج 7 تاريخ. - المؤلف. ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد الحضرمي الإشبيلي: التعريف بابن رحلة ابن خلدون، تحقيق محمد بن تاويت الطنجي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1425/ 2004)، ص 38 - 39. - المحقق.
يكونوا من أهل الاختصاص بعلم اللغة. وصارت روايةُ كتب اللغة بطريق الإجازة فقط، مجردةً عن القراءة والتحقيق والدرس، التي كانت تعتمد عليها الروايةُ كما رأينا عند ابن بشكوال وابن الغماز واللبلي.
فاتسع مجال التلقي بالإجازة وحدها بين المشرق والمغرب من أوائل القرن التاسع، وآوت طرقُه كلها إلى مصر. واجتمع منها لشيخ الإسلام ابن حجر ما لا يكاد يشذ عنه شيء من مختلف طرق الرواية في عامة الأقطار الإسلامية. فقد انتهت إليه الأسانيد التونسية من طريقيْ ابن عرفة وابن خلدون عن شيخهما محمد بن جابر الوادياشي، ومن طريق الحفيد ابن مرزوق عن القيجاطي (1). وهي طرق تجتمع فيها جميعُ الأسانيد اللغوية التي قدمنا ذكرَها. كما انتهت إليه الأسانيد المشرقية، وأهمها - وخاصة في علم اللغة - سند الإمام مجد الدين الفيروزآبادي - صاحب "القاموس" - الذي روى عنه ابن حجر مباشرة، وقد روى الفيروزآبادي عن ابن مرزوق.
وعن ابن حجر وتلاميذه - أمثال السيوطي، وشيخ الإسلام زكريا [الأنصاري]، والشيخ إبراهيم اللقاني - انتشرت هذه الأسانيد مجتمعة، واندرجت الأسانيد المتصلة بالإجازة العامة المطلقة في الفهارس والأثبات التي مدارها كتب السنة، والمستندة روايتها في الأكثر إلى القراءة والدرس والمناولة على ما ينبغي لرواية السنة من التثبت والتحري.
ويدخل في أقطار دائرة تلك الأسانيد جميعُ فنون الثقافة الإسلامية، متساهلًا في روايتها بالإجازة المجردة ومنها كتب اللغة. فأصبح الناس عالة على جوامع الأسانيد المصرية المصنفة في القرن التاسع، وخاصة فهرس الحافظ ابن حجر وفهرس السيوطي المسمى "نشاب الكتب في أنساب الكتب".
(1) نفح الطيب 263 ج 3 أزهرية.
فصارت الطرق متشابكة، متداخلة، في المراجع الحديثة، التي عليها اعتماد الناس في القرون الثلاثة الأخيرة، كما يتمثل ذلك في الأسانيد التي أوردها الشيخ مرتضى الزبيدي في روايته القاموس، والأسانيد التي تضمنتها إجازةُ الشيخ عبد القادر الفاسي المتوفى سنة 1091 هـ، أو كتاب "الأمداد في علو الإسناد" لعبد الله بن سالم البصري المتوفى سنة 1134 هـ، مما لا يعدو كله أن يكون تسجيلًا لرواية حقيقية متصلة تسلسلت حقبةً من الزمن ثم انقطعت، وأصبح الحديث عنها متسلسلًا ذكره في ما يعتز به الخلف من آثار السلف.