الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الثالث: الخلافة والحكومة في التاريخ
الباب الأول: الوحدة الدينية والعرب:
قدم مقدمة في أن الإسلام دعوة لخير البشر كله، ورابطة لهم في أقطار الأرض، وأن الله اختار ظهورَه بين العرب لحكمة، وأن أول من اجتمع حوله هم العرب على تخالف شعوبهم. وهي مقدمة صحيحة مسلمة، إلا أنه استنتج منها ما لا يلاقيها فقال في صحائف 83 إلى صحيفة 89:"إن هاته الوحدة العربية لم تكن سياسية، ولا كان فيها معنى من معاني الدولة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغير شيئًا من أساليب الحكم عندهم ولا مما كان لكل قبيلة من نظام إداري وقضائي، ولا عزل واليًا ولا عين قاضيًا، بل ترك لهم كلَّ الشؤون وقال: "أنتم أعلم بها"، وإن ما اشتملت عليه الشريعةُ من أنظمة العقوبات والجيش والبيع والرهن ليس في الحقيقة من أساليب الحكم السياسي ولا من أنظمة الدولة، وهو إذا جمعته لم يبلغ جزءًا يسيرًا من لوازم دولة، وإنما هو شرع ديني خالص لله ولمصلحة البشر، وإن العرب مع دخولهم تحت جامعة الإسلام بقوا دولًا شتى بحسب ما اقتضته حياتُهم بخضوع العرب للنبي خضوعَ عقيدة لا خضوع حكومة. فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أوشكت أن تنقض تلك الوحدة العربية وارتد أكثر العرب إلا أهل المدينة ومكة والطائف. وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يشير إلى شيء يسميه دولة ومن غير أن يسمي أحدًا يخلفه".
وأقول ليس الحق ما ذكره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقام للناس أمر دنياهم، إذ المقصود من الدين صلاحُ العاجل والآجل، ولا يتم صلاحُ العاجل إلا بإقامة مَنْ يحمل الناسَ على الصلاح بالرغبة والرهبة. وقد نص القرآن على ولاية الأمر فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
ولا جَرَم أن دين الإسلام قد شرعه الله شرعًا تدريجيًّا، فابتدأ يدعو الناسَ لأصول الصلاح بتطهير النفس، وذلك بإعلان التوحيد وآداب النفس من العبادات والأمر بالعدل. فلما تهيأت النفوسُ لقبول الشريعة، أخذ التشريعُ ينمو حتى بلغ أوسعَ تفاريعه، فكان في هذا التدرج حكمةٌ إلهية:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32].
وإذا علمنا أن الإسلام شرع أوجب على الناس التعامل بأحكامه فغير عوائدَهم، وقمع المعاندين من رؤسائهم، وتركهم مسلوبي السلطة، وعوضهم برؤساء وأمراء وقضاة من متابعيه، وهذا مما لا يرتاب فيه مَنْ له اطلاعٌ على الحديث والسيرة والتاريخ، فقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه إلى الجهات التي أسلم أهلها من بلاد العرب، وقرر من قرر من أقيال (1) اليمن على ما بأيديهم حين أسلموا، على أنهم قائمون مقام أمرائه كما فعل مع وائل بن حجر قَيْل حضرموت وجعله رئيس أقيال بلاد اليمن.
وقد قدمنا فيما تقدم من المباحث أن مظاهر الدولة كلها متوفرةٌ في نظام الشريعة الإسلامية، وأعظمُها الحرب والصلح والعهد والأسر وبيت المال والإمارة والقضاء، وسن القوانين والعقوبات إلى أقصاها وهو الإعدام، بحيث لم يغادر شيئًا مما يلزم لإقامة نظام أمة بحسب العصر والقوم، وما ترك من التفاصيل التي لم يدع إليها داعٍ يومئذ إلا وقد أسَّس له أصولًا يمكن استخراجُ تفاصيله منها، كما هو معلوم من علم أصول الفقه، وهو معنى قوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، على ما بينه الشاطبي في الموافقات (2).
(1) أقيال، جمع قَيْل، لقب كان يُطلق على الملك من ملوك حمير، ويُجمع كذلك على قُيول.
(2)
قال في أول كتاب الأدلة: "لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وكانت هذه الوجوه مبثوثةً في أبواب الشريعة وأدلتها، =
علمنا بلا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أسس بيده أصولَ الدولة الإسلامية، وأعلن ذلك بنص القرآن وقد قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 48 - 50].
وكيف يستقيم أن يكون الإسلام شريعةً ثم لا تكون له حكومةٌ تنفذ تلك الشريعةَ وتحمل الراعيَ والرعيةَ على العمل بها؟
فإنه لو وكّل الأمرُ لاختيار الناس لأوشك أن لا يعمل به أحد، وليست الدولةُ إلا سلطانًا تحيا به الشريعة، كما قال أرسطو (1).
= غير مختصة بمحل دون محل، ولا بباب دون باب، ولا بقاعدة دون قاعدة، كان النظر الشرعي فيها أيضًا عامًّا لا يختص بجزئية دون أخرى؛ لأنها كلياتٌ تقضي على كل جزئي تحتها، وسواء علينا أكان جزئيًّا إضافيًّا أم حقيقيًّا؛ إذ ليس فوق هذه الكليات كلِّيٌّ تنتهي إليه، بل هي أصولُ الشريعة، وقد تمت، فلا يصح أن يُفقد بعضُها حتى يُفتقر إلى إثباتها بقياس أو غيره، فهي الكافيةُ في مصالح الخلق عمومًا وخصوصًا؛ لأن الله تعالى قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ". الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى: الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز (بيروت: دار المعرفة، 1416/ 1996)، ج 2، ص 5 - 7.
(1)
أورد ذلك ابنُ خلدون نقلًا عن كتاب "السياسة" المنسوب لأرسطو حيث قال: "العالم بستانٌ سياجُه الدولة، والدولة سلطانٌ تحيا به السنة، السنة سياسة يسوسها الملك، الملك نظام يعضده الجند، الجند أعوان يكفلهم المال، المال رزق تجمعه الرعية، الرعية عبيد يكنفهم العدل، العدل مالوف وبه قوام العالم، العالم بستان". مقدمة ابن خلدون، ص 44.
لأجل هذا كله لم يتردد أهلُ الحل والعقد في مصر الإسلام - وهو المدينة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب المبادرة بإقامة الخليفة عن النبي في تدبير أمر الأمة، مع القطع بأنه لا يخلفه في غير ذلك من التشريع وتبليغ الرسالة. وهذا الخليفة وإن جارينا صاحب الكتاب في أنه لم يعينه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت تسميتُه بإجماع أهل العلم والدين من أصحاب النبي المهاجرين والأنصار، وذلك الإجماع حجةٌ أعظم من خبر أو خبرين. على أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بإقامة الخليفة من بعده، فقد ورد في صحيح البخاري وغيره عن جبير بن مطعم أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها بأمر فقالت:"أرأيت يا رسولَ الله إن لم أجدك؟ كأنها تعني الموت، فقال لها: إن لم تجديني فائْتِي أبا بكر". (1) وروي في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يأبى الله والمسلمون غير أبي بكر". (2)
(1) أخرج البخاري عن جبير بن مطعم أنه أخبر ابنه محمد "أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته في شيء، فأمرها بأمر، فقالت: أرأيت يا رسولَ الله إن لم أجدك؟ قال: "إن لم تجديني فائتي أبا بكر"". قال البخاري: "زاد الحميدي، عن إبراهيم بن سعد: كأنها تعني الموت". صحيح البخاري، "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة"، الحديث 7360، ص 1266. وانظر كذلك "كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث 3659، ص 614؛ "كتاب الأحكام"، الحديث 7220، ص 1243 - 1244؛ سنن الترمذي، "أبواب المنَاقِب عَن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم"، الحديث 3685، ص 838. قال الترمذي: "هذا حديث غريب صحيح من هذا الوجه".
(2)
أخرج الحاكم النيسابوري: "أخبرني أحمد بن عبد الله المزني بنيسابور، ومحمد بن العدل، حدثنا إبراهيم بن شريك الأسدي بالكوفة، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو شهاب، عن عمرو بن قيس، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائتني بدواة وكتف أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدا"، ثم ولانا قفاه، ثم أقبل علينا، فقال:"يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"". المستدرك على الصحيحين، "كتاب معرفة الصحابة رضي الله تعالى عنهم"، الحديث 6087، ج 3، ص 584. وانظر كذلك: سنن أبي دَاود، "كتاب السنة"، الحديث 4660، ص 734.