الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اعتقاد بشار:
ليس البحثُ في اعتقاد بشار شديدَ الصلة بتعريف قيمة أدبه وشعره؛ فإن لدينا من بلغاء شعراء العربية مَنْ هو مشرك، وهم معظمُ شعراء الجاهلية، ومَنْ هو مؤمن، وهم معظمُ شعراء الإسلام، ومن هو متديِّنٌ بغير الإسلام كالأخطل والسموأل، ومنهم من شرب من الصفو والكدر كلبيد وحسان، وكل هؤلاء لا نجد لاعتقادهم أثرًا في رفعة شعرهم.
غير أن الناس قد عُنُوا في قرون الإسلام الأولَى بالخوض في عقائد أصحاب الشهرة ونحلهم ومذاهبهم، فأصبح هذا البحث من تكملة تراجم أولئك المشاهير. وبشار ممن أخذ بأَوفر حظ من هذا الخوض منذ القدم؛ لأن لاعتقاده أثرًا في حياته، فكان حقًّا علينا أن نتابع الباحثين من رجال الأدب، فنشفع القول ببيان عقيدة بشار ومقدار إيمانه من الصلابة.
إذا أردنا استخراجَ عَقد بشار من شعره لم نجد في شعره أثرًا من الدلالة على ما يكنه اعتقاده من إيمان أو إلحاد، كما لا نجد في شعر معظم الشعراء آثارًا على عقائدهم ونحلهم. ولولا أن الشرك كان عادة من عادات العرب، انتظمت عليه أمورُهم، لمَا كان في شعر شعراء الجاهلية أثرٌ من آثار الشرك إلا نادرًا، بل إن الموجود في شعر بشار من جانب الاعتقاد هو ما يجري على عقائد المسلمين الخالصين.
وبالرغم مِمَّا أُلصق بشعر بشار من أبيات مصنوعةٍ قَصَد بها أعداؤه إلحاقَ الأذى به في حياته أو تبريرَ صَنيع الذين فتكوا به في مماته، فنحن مُلْجَؤُون حين البحث عن عَقْد بشار إلى اقتناص ذلك من مجموع ما يُؤْثَرُ عنه من الأقوال والنزعات وغيرها، عَلَى ما في معظمها من الرَّيب، وأنها - وإن كانت قد أُلصقت به - لا تُشبه نظمَ شعره.
كان الرميُ بالزندقة والإلحاد قد طلع قرنُه من أثناء القرن الأول الإسلامي، ثم بلغ أشده في العصر الذي عاش فيه بشار، بما عظم من المخالفات الاعتقادية
والتعصبات المذهبية وقضاء الأوطار السياسية. وكان مبدأ ظهور الدولة العباسية بُوقًا نفخت فيه تُهَمُ الإلحاد زفيرها، وضربت عليه السياسةُ طبلَ نفيرها؛ إذ أراد دعاةُ العباسية أن يحلوا من قلوب الأمة محلَّ الدولة الأموية، وكانت الأموية قد أينعت محبتُها في قلوب أوليائها، وهم الجم الغفير، بما كان لخلفائها وأمرائهم من الأواصر العربية، وما شبّ في عصرهم من النهضة الأدبية، وما ملك قلوبَ عامتهم من المكارم والعطايا الذهبية.
وكان ينازع العباسيين في الدعوة دُعاةُ الطالبيين، وكان الطالبيون أهلَ سخاء وتسامح، ولم يكن لدُعاة العباسية من هذه الوسائل ما هو قُرَابٌ (1) لما ارتكزت عليه الصلةُ الأموية والقرابة الطالبية، فابتكروا في إيجاد جاذبة هي أعلى وأعظم من كل ما كان يَجلب للأمويين والطالبيين قلوبَ الناس.
هنالك كان ابتكار الجاذبة الدينية: من متٍّ بأقرب قُربَى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وتظاهرٍ بتأييد الإسلام، ورَمْيِ أضدادهم بالاستخفاف بهذا الجانب. وإن أحق من يرمونه بهذه الهناة من كان من ملوك الأموية وشيعتها، كما نسبوا إلى الوليد بن يزيد من التجاهر بالمُرُوق ما لا يروج على ذي عقل حصيفٍ صدوره من خليفة المسلمين. وكان المهدي العباسي قد انبرى لتطهير مملكته من المخالفين، وشدّد التنقيبَ على الذين يُنسَبون إلى الزندقة. ولا شك أنه كان يُرائي بذلك، فإن بشارًا مدحه بقوله:
يَصُبُّ دِمَاءَ الرَّاغِبِينَ عَنِ الهُدَى
…
كَمَا صُبَّ مَاءُ الظَّبْيَةِ المُتَرَجْرِجُ (2)
وأحسب أن المهديَّ كان يريد الاستعانةَ بذلك على إماتة نزعة التظاهر بالعصبية الفارسية والشعوبية، فكانوا يَصِمون أبناءَ الفرس بالزندقة، ويتهمونهم بأنهم يُسرّون عقيدة دينهم الأول، ولذلك سَمَّوا الإسرار بالكفر زندقة، مشتقة من
(1) قُرَاب: أي قريب من.
(2)
ديوان بشار بن برد، ج 1/ 2، ص 63.
اسم الزند، وهو كتاب دين الفرس القديم كما سيأتي. وقد جاء في حوادث سنة 163 هـ أن المهديَّ لَمَّا خرج إلى غزو الروم وبلغ إلى حلب، أرسل فجمع مَنْ بتلك الناحية من الزنادقة، فقتلهم وقطّع كتبَهم بالسكاكين (1). وأقام لهذه الأعمال خطّةً يُسمَّى صاحبُها صاحب الزنادقة، وقد وَلِيَها عثمان بن نَهِيك وعمر الكَلْوَاذاني (2)، ومحمد بن عيسى بن حمدويه، فقتل من الزنادقة خلقًا كثيرا (3).
وذكر ابن الأثير في حوادث سنة 166 هـ أن المهدي "أخذ داود بنَ رَوح بن حاتم، وإسماعيل بن مُجالد، ومحمد بن أبي أيوب المكي، ومحمد بن طيفور في الزندقة، فاستتابهم وخلى سبيلهم، وبعث داود إلى أبيه وهو بالبصرة، وأمره بتأديبه"(4). وذكر في حوادث سنة 155 هـ أن عبد الكريم بن أبي العَوجاء حُبس بالكوفة على الزندقة في زمن أبي جعفر المنصور، حَبَسه عاملُ الكوفة محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، ثم قتله بدون أمر المنصور، وغضب المنصور على عامله وعزله (5).
وذكر صاحبُ الأغاني أن علي بن الخليل الشاعر رُميَ بالزندقة لاتصاله بصالح بن عبد القدوس، ثم ثبتت براءته فأطلق (6). وقتل المهدي صالح بن عبد القدوس الشاعر في سنة 167 هـ على تهمة الزندقة، مع ما أفصح صالح عنه من البراءة وصحة الإيمان (7).
(1) ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 5، ص 244.
(2)
بفتح الكاف وسكون اللام وفتح الواو بعدها ألف ثم ذال معجمة بعدها ألف، منسوب إلى بلد يسمى بكَلْوَاذَى قرب بغداد. المصنف. جاء هذا البيان بين قوسين في المتن ورأينا وضعه في الحاشية أولَى.
(3)
ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 5، ص 258.
(4)
المرجع نفسه، ج 5، ص 253.
(5)
المرجع نفسه، ص 207.
(6)
الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 14، ص 175 - 177 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 5/ 14، ص 349 (نشرة الحسين).
(7)
ما قاله المصنف بشأن قتل المهدي صالحَ بن عبد القدوس هو ما ذكره الصفدي. وذكر ابن المعتز روايتين: الأولى أن الذي قتله المهدي، والثانية أنه هارون الرشيد، وقال: هذا الوجه "عندي =
أقول إتْمامًا لذكر الزندقة: وفي سنة 161 هـ قتل المهديُّ محمدَ بن أبي عبيد الله وزيرِ المهدي على تهمة الزندقة، ثم قَتل الهادي سنة 169 هـ عليَّ بن يقطين من الزنادقة الذي ذكره بشار في بعض شعره (1)، ويعقوبَ بن الفضل بن عبد الرحمن [بن عباس] بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطب، وكان أقر بالزندقة لدى المهدي فسجنه؛ لأنه كان أقسم ألا يقتلَ هاشميًّا، وعهد للهادي أنه إنْ ولِيَ الخلافة يقتله. ومن الزنادقة أحد أولاد داود بن علي بن عبد الله بن عباس، سُجن ومات في السجن سنة 169 هـ. وكان يونس بن [أبي] فروة ويزيدُ بن الفَيض قد اختفيا منذ زمن المهدي، ولم يزالا مختفيين حتى سنة 175 هـ.
وكان الخلفاء قد يُظهِرون الشدة في ذلك، ويشايعون أميالَ العامة، ذكر ابن الأثير أن المنصور لما غضب على محمد بن سليمان بن علي عامِلِه على الكوفة، لقَتْلِه عبدَ الكريم بن أبي العوجاء على تهمة الزندقة، كتب المنصور كتابًا يهدّد فيه محمد بن سليمان ويأمر بعزله، وأخبر بذلك عمه عيسى بن علي، فقال له عيسى:"إن محمدًا إنما قتله على الزندقة، فإن كان أصاب فهو لك، وإن أخطأ فعليه، ولئن عزلتَه على إثر ذلك ليذهبن بالثناء والذكر ولترجعن بالقالة من العامة عليك، فمزق الكتاب"(2).
= أثبت من الأول". الصفدي: نكت الهميان في نكت العميان، ص 171؛ ابن المعتز: طبقات الشعراء، ص 90 - 91.
(1)
وذلك كما في قوله:
حَتَّى مَتَى لَيْتَ شِعْرِي يَا ابْنَ يَقْطِينِ
…
أُثْنِي عَلَيْكَ بِمَا لَا مِنْكَ تُولِينِي
أَمَا عَلِمْتَ جَزَاكَ صَالِحةً
…
عَنِّي وَزَادَكَ خَيْرًا يَا ابْنَ يَقْطِينِ
أَنِّي أُرِيدُكَ لِلدُّنيا وَزِينَتِهَا
…
وَلَا أُرِيدُكَ يَوْمَ الدينِ لِلدِّينِ
ديوان بشار بن برد، ج 2/ 2، ص 234.
(2)
ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 5، ص 207. وتمام كلام ابن الأثير أن المنصور لَمَّا بلغه مقتلُ ابن أبي العوجاء على يد محمد بن سليمان، غضب وقال: "والله لقد هممت أن أقيده به (يعني أن يقتل محمد بن سليمان بابن أبي العوجاء)، ثم أحضر عمه عيسى بن علي وقال له: هذا عملك أنت، أشرت بتولية هذا الغلام الغر، قتل فلانًا بغير أمري، وقد كتبت بعزله وتهديده، فقال عيسى: إن محمدًا إنما قتله على الزندقة، فإن كان أصاب فهو لك، وإن أخطأ فعليه. ولئن عزلته على أثر =
والزندقة اسم اشتقه العرب من كلمة "زندو" - بالفارسية - الدالة على كتاب السفر المقدس الذي يقال بالفارسية "الزندوفستا"، وهو كتاب ماني الذي يُدعى أتباعُه المانوية (1). ويقال لهم الثنوية؛ لأنهم يثبتون إلهين اثنين. فقالوا: تزندق إذا اعتقد اعتقاد مجوس الفرس، أي انتسب للزندو. ثم اشتقوا منه "زندقة" للاعتقاد، و"زنديق" للمعتقد، ثم أطلقوه على من يُسِرُّ هذا الاعتقاد، فلا يسمّون المتظاهر بالمجوسية زنديقًا. ثم صار اسم الزندقة اسْمًا علَميًّا في الفقه، يدل على مَنْ يُظهر الإسلام ويبطن الكفر، سواء كان كفره باعتقاد المجوسية الفارسية أم بالدهرية أم بغير ذلك، ولذلك قالوا: الزنديق يرادف المنافق، وخصّوا المنافقَ بمبطن الكفر في زمن الرسول عليه السلام والزنديقَ بمبطن الكفر بعد ذلك الزمن.
وكان مِمَّا يَصير به المرءُ معرَّضًا إلى تهمة الزندقة أن يكون فارسيَّ الأصل، أو أن يُؤْثَرَ عنه بُغْضُ العرب، أو أن يكون من أهل الخلاعة والمجون أو المزح في الأمور الراجعة إلى العبادات، أو أن يكون منكِرًا لشيء من أصول الشيعة العباسية، أو أن يكون لا يحفظ من القرآن شيئًا - فقد أُخِذ بذلك محمد بن أبي عبيد الله وزيرِ المهدي، حسبما ذكره ابن الأثير في حوادث سنة 161 هـ (2). هذا والمهديُّ لم يكن له من أصالة الرأي ما كان للمنصور والسَّفاح، فأغْرَق في تقصِّي أحوال الناس والرمي بالزندقة.
= ذلك ليذهبن بالثناء والذكر، ولترجعن بالمقالة من العامة عليك، فمزق [المنصور] الكتاب". وهذا يعني - على عكس ما ذكر المصنف من قبل - أن المنصور لم يعزل محمد بن سليمان.
(1)
الزندقة - كما ذكر المصنف - اسم اشتقه العرب من كلمة "زندو" الفارسية، الدالة على كتاب الفرس المقدَّس الذي يقال له "الزندوفستا"(Zindvesta) وهو كتاب ماني (Mani) بن فاتك الحكيم المولود سنة 215 أو 216 بعد ميلاد المسيح عليه السلام، والذي ظهر في زمان سابور بن أردشير، وقتله بهرام بن هرمز بن سابور سنة 275 م. وقد أحدث دينًا بين المجوسية والنصرانية، وكان يقول بنبوة المسيح، ولا يقول بنبوة موسى عليهما السلام، وتعرف نحلته بالمانوية (Manicheism) وبها يسمى أتباعه (Manicheists)، ويقال لهم كذلك الثنوية؛ لأنهم يثبتون إلهين. وقد كان القديس أوغسطين من أتباع هذه الديانة قبل اعتناقه المسيحية.
(2)
ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 5، ص 238 - 239.
وقد كان تلقيبُ أبي جعفر المنصور ابنَه محمدًا بالمهدي تَمهيدًا إلى تأييد الدولة به، وإيهام أنه المهديُّ الذي يزعمه الشيعة والذي جعلوا ظهوره فيما يسمونه بآخر الزمان من أصول اعتقادهم وتأييد الدين به، ووضعوا في ذلك آثارًا رَوَوْها. يدلنا على ذلك أن بعض السلف كان يُنكر هذا اللقب، فقد ذكر الغزالي في كتاب الأمر بالمعروف من "إحياء علوم الدين" أن ابن أبي ذئبٍ وسفيان الثوري حضرَا مجلسًا وَعَظَ فيه ابنُ أبي ذئب أبا جعفر المنصور، وقال له في آخر الوعظة: والله إني لأنصحُ لك من ابنك المهدي، فلما انصرف ابن أبي ذئب قال له سفيان: لقد سرَّني ما خاطبت به هذا الجبَّار، ولكن ساءني قولك له:"ابنك المهدي"، فقال ابن أبي ذئب:"يغفر الله لك يا أبا عبد الله، كلنا مهديٌّ، كلنا كان في المَهْد"(1).
فأراد المهدي أن يَظْهرَ في مظهر المؤيِّد للدين، المحيي لعقيدة الإسلام وسيرة السلف، فأظهرَ من ذلك ثلاث خلال شهد بها التاريخ، وهي:[الأولى] الشدة في تقصّي الزندقة، و [الثانية] الإعراض عن الشعر الغزلي، حتى نهى بشارًا عن الغزل (2)، وحتى أعرض شاعرُه أبو العتاهية عن ذلك الشعر وقَصَر شعرَه على الزهد والحكمة (3). والثالثة إفراطه في الغيرة على النساء وإغلاظ الحجاب، ليحقق بذلك أنه المهدي المنتظر. ولذلك ظهر في زمانه الحديث الموضوع:"المهدي منا، واسمه يواطئ اسمي، واسم أبيه يواطئ اسم أبي"(4)، والخليفة المهدي اسمه محمد بن عبد الله، وهو ابن عم الرسول، فهو منه. وقد مدحه ابنُ المَوْلَى محمد بن مولَى الأنصار بقوله:
(1) الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد: إحياء علوم الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1423/ 2002) ، ج 2، ص 464 - 465.
(2)
الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 182 - 183 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 672 (نشرة الحسين).
(3)
لم أتمكن من توثيق هذا الذي قرره المصنف هنا.
(4)
انظر مناقشة المصنف لهذا الحديث وأمثاله في مقال "المهدي المنتظر" من المحور الثاني.
إِلَى القَائِمِ المَهْدِيِّ أَعْمَلْتُ نَاقَتِي
…
بِكُلِّ فَلَاةٍ آلُها يَتَرَقْرَقُ (1)
ومعلومٌ أنهم يرمون بذلك إلى إيهام أن الناس قد فسدوا، والباطل قد عمّ في زمن بني أمية، فلا جَرَمَ أن يكون المهديُّ العباسيّ مجدِّدَ الدين ومالئَ الأرضِ عدلًا بعد أن مُلئَتْ جورًا، كما جاء في الأثر الموضوع (2). والعامّةُ لا يُدركون من معنى العدل إلا مثلَ هذه الظواهر؛ لأنهم في غفلةٍ عن جزئياتِ الحوادث ودقائق الجور والعسف. وقد أشار بشارٌ إلى شيءٍ من ذلك في مديحه للمهدي (3). وقد قال بشار يمدحه (في الورقة 267):
وَعنْدَكَ عَهْدٌ منْ وَصَاةِ مُحَمَّد
…
فَرَعْتَ بهَا الأَمْلَاكَ منْ وَلَدِ النَّضْرِ (4)
(1) الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 286 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 751 (نشرة الحسين). وابن المولى هو محمد بن عبد الله بن مسلم بن المولى، مولى الأنصار. شاعر مجيد من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية.
(2)
يشير المصنف بذلك إلى الأثر التالي من الآثار الواردة في المهدي: "لو لم يبق من الدهر إلا يوم، لبعث الله رجلًا من أهل بيتي يملؤها عدلًا كما مُلِئتْ جورا"، وقد سبق كلامه عليه في المحور الأول من هذا المجموع.
(3)
انظر البيت التاسع من ورقة 78 والتعليق عليه. - المصنف. جاءت هذه الإحالة في المتن ورأينا وضعها في الحاشية أولَى. والبيت هو:
يَحْثِي لِهَذَا وَذَا وَذَاكَ وَلَا
…
يَحْسبُ مَعْرُوْفَهُ كَمَنْ حَسَبَا
قال المصنف في تعليقه على هذا البيت: "أشار بقوله: يَحْثِي لِهَذَا وَذَا وَذَاكَ، إلى ما رُوي في بعض الأخبار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في أمتي المهدي فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني، فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله والمال يومئذ كُدُوس"، وفي رواية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي المهدي والمال كدوس، يقوم الرجل فيقول: يا مهدي أعطني، فيقول: خذ"، وهي أحاديث ضعيفة. وقد أعلمناك في المقدمة أن المهديَّ كان يُلمِّح إلى أنه المهديُّ المنتظر، وكان ذلك شائعًا بين أنصاره ومداحيه". ديوان بشار بن برد، ج 1/ 1، ص 346. والبيت هو الخمسون من قصيدة من واحد وسبعين بيتًا من بحر المنسرح، قالها بشار في مدح المهدي في السنة الثانية من خلافته. (انظر القصيدة في المصدر نفسه، ص 340 - 348). وانظر مناقشة شاملة لأحاديث المهدي في الفرع الأول من المحور الأول من هذا المجموع.
(4)
قال المصنف في التعليق على هذا البيت: "يعني أن المهدي الذي جاء في الآثار التي كانت رائجةً يومئذ مثل ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: المهدي منا - أو من ولد العباس - اسمه كاسمي، واسم أبيه =
كان بشار من شيعة الأموية؛ نبغ في زمانها، وامتدح خلفاءها وأمراءها، ثم كان من شيعة إبراهيم بن الحسن بن علي، وكان من المتساهلين في دينهم المتظاهرين بالفواحش. فحقيقٌ بمن وُسِم بهاتين الوصمتين أن تتطرّقَ إليه الظنونُ، وأن تُنْسَب إليه الزندقَة في مظهر ذلك المجون.
نَسبَ بشارًا الذين كفَّروه (1) إلى دين الثنوية والمجوسية والبَرْهَمِيَّة والسُّمَنية، ونُسب في إسلامه إلى الرفض وإلى الشعوبية وإلى مذهب الرجعية (2) القائلين بأن علي بن أبي طالب سينزل مرة ثانية كما ينزل عيسى، وأن جميع الأمة كفروا حين عَدَلوا عن بيعة علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونُسب إلى الإلحاد المحض والتعطيل، وسنفصل ذلك.
والذي أذهب إليه أنه كان مستهتِرًا غير محترز في أقواله في مجالسه من لوازم مفضية إلى الإلحاد، يجري ذلك منه مَجْرى المزح والهزل، كما يجري لأبي نواس الحسن بن هانئ ومحمد بن هانئ الأندلسي وأضرابهما. ولكن ضَرَاوة لسانه على الأمراء والكبراء والعلماء والشعراء أَغْرَتْ به الجميع، وجعلت التهمةَ إلى صوت المُهيب به تَرِيع.
وقد اتفق الرواة على أن بشارًا كان متضلِّعًا في علم الكلام، معدودًا من متقنيه. قال صاحب الأغاني: "كان بالبصرة ستةٌ من أصحاب الكلام: عَمرو بن عُبيد، وواصل بن عطاء، وبشار الأعمى، وصالح بن عبد القُدّوس، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، ورجلٌ من الأزد - قال أبو أحمد: يعني جرير بن حازم - فكانوا
= كاسم أبي، أو أراد ما يتقوله بنو العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى للعباس أن الخلافة في بنيه، وأن العباس كان قد عدهم، وتوارثوا رواية عدتهم بينهم. وكل ذلك من الموضوعات التي روجت لإقامة دولتهم". ديوان بشار بن برد، ج 2/ 3، ص 255 (الحاشية رقم 3). وانظر تعليقًا مماثلًا في ص 179 (الحاشية 3).
(1)
في الطبعة المصرية: "نُسِبَ بشار في تكفيره"، ووجدنا ما جاء في الطبعة التونسية أرشق فأثبتناه.
(2)
ديوان بشار بن برد، ج 2/ 3، ص 255.
يجتمعون في منزل الأزدي ويختصمون عنده. فأما عمرو وواصل فصارا إلى الاعتزال، وأما عبد الكريم وصالح فصحَّحا التوبة، وأما بشار فبقي متحيِّرًا مُخلِّطًا، وأما الأزدي فمال إلى قول السُّمَنِيَّة". (1)
واتفق الرواةُ على أن بشارًا كان يختلط بمن اشتهر بالخوض في العقائد، فقد حكى الشريف المرتضى في أماليه قال:"قال [عمرو بن بحر] الجاحظ: كان مُنقذ بن [عبد الرحمن بن] زياد الهلالي، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد (الحارثي)، وحفص بن أبي وَدّة، وقاسم بن زُنْقُطة، وابن المقفّع، ويونس بن أبي فروة، وحماد عَجْرَد، وعلي بن الخليل (الشاعر)، وحماد [بن أبي ليلَى] الراوية، وحماد بن الزِّبْرِقَان (2)، ووالبَةُ بن الحباب، وعمارة بن حمزة بن ميمون (الهاشمي)، ويزيد بن الفيض، وجميل بن محفوظ [المهلبي]، وبشار بن برد [المرعَّث]، وأبانُ (بنُ عبد الحميد) اللَّاحِقي، يجتمعون على الشراب وقول الشعر، ويهجو بعضهم بعضًا، وكلٌّ منهم متَّهَم في دينه". (3)
وفي كتاب "الحيوان" للجاحظ عدّ بعض هؤلاء، وزاد آخرين، ومنهم: يونس بن هارون وعُبادة، وعمارة بن حربية، وذكر أن يونس بن هارون كتب كتابًا في مثالب العرب وعيوب نسبها إلى الإسلام، كتبه لملك الروم، وأن بشارًا كان ينكر
(1) الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 146 - 147 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 648 - 649 (نشرة الحسين).
(2)
قال أبو الفرج الأصفهاني في ترجمة حماد عجرد: "كان بالكوفة - ثلاثة نفر يقال لهم الحمادين: حماد عجرد، وحماد الراوية، وحماد ابن الزِّبْرِقان، يتنادمون على الشراب، ويتناشدون الأشعار، يُرمَوْن بالزندقة جميعًا، وأشهرُهم بها حماد عجرد". كتاب الأغاني، ج 14، ص 322 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 5/ 14، ص 435 (نشرة الحسين).
(3)
الشريف المرتضى: أمالي المرتضى: غرر الفوائد ودرر القلائد، ج 1، ص 148، وانظر كذلك ص 145 حيث قال:"والمشهورون من هؤلاء [الزنادقة] الوليد بن يزيد بن عبد الملك، والحمادون: حماد الراوية، وحماد بن الزبرقان، وحماد عجرد، وعبد الله بن المقفع، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، وبشار بن برد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثي، وصالح بن عبد القدوس الأزدي، وعلي بن خليل الشيباني".
على هؤلاء (1). وزاد في "الأغاني" أن مطيعًا ويحيى (بن زياد الحارثي) وابن المقفع ووالبة (بن الحباب) وعمارة كانوا "يتنادمون ولا يفترقون، ولا يستأثر أحدُهم على صاحبه بمالٍ ولا مِلك، [وكانوا جميعًا يرمون بالزندقة] " وكانوا في أيام الوليد بن يزيد (2). وأقول: ذكر صاحبُ الأغاني في ترجمة إبراهيم بن سَيَابة أنه كان يتحكك ببشار، وأنه كان زنديقًا (3).
نأخذ من متفرق أخبار بشار ما يدل مجموعُه على أنه قد عرَّض نفسه لبَغْضاء كثير من أهل الدولَة والرأي والعلم واللسان، فكان قد تعرّض إلى يعقوبَ بن داود بما سنذكره في سبب قتله، وتعرض إلى أبي جعفر المنصور قبل ذلك بما قلَبه في أبي مسلم الخراساني، وتعرض إلى واصل بن عطاء الغزَّال رئيس المعتزلة وهو إمام جماهير من العلماء والعامة، وتعرض إلى سيبويه (4). وكان هو مِمَّنْ رَمَى أعداءه
(1) الجاحظ: كتاب الحيوان، ج 4، ص 447 - 448. وقد جاء في غرر الفوائد ودرر القلائد للشريف المرتضى (ج 1، ص 148) أن الكتاب ليونس بن أبي فروة.
(2)
الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 13، ص 279 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 5/ 13، ص 184 (نشرة الحسين). وقد ساق المصنف كلام الأصفهاني بتصرف يسير تقديمًا وتأخيرًا، وما بين قوسين إضافة من المحقق، أما ما بين المعقوفتين فمن كلام أبي الفرج الذي لم يذكره المصنف.
(3)
الأصفهاني: كتاب الأغاني، صفحة 18 جزء 12 طبع بولاق. - المصنف. قال في ترجمته:"إبراهيم بن سَيَابة مولَى بني هاشم، وكان يقال: إن جده حجام أعتقه بعضُ الهاشميين. وهو من مقاربي شعراء وقته، ليست له نباهة ولا شعر شريف، وإنما كان يميل بمودته ومدحه إلى إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، فغنيا في شعره ورفعا منه، وكانا يذْكُرانه للخلفاء والوزراء ويذكِّرانهم به إذا غنيا في شعره، فينفعانه بذلك. وكان خليعًا ماجنًا، طيب النادرة، وكان يُرمَى بالأُبنة". كتاب الأغاني، ج 12، ص 88 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 705 (نشرة الحسين). وانظر ما أشار إليه المصنف من زندقته وتحككه ببشار ص 90 - 91.
(4)
ذكر أبو الفرج الأصفهاني أن بشارًا بلغه أن سيبويه عاب عليه بعض الأشياء في شعره فهجاه بقوله:
أَسِبْوَيْهِ يَابْنَ الفَارِسِيَّةِ مَا الَّذِي
…
تحَدَّثْتَ عَنْ شَتْمِي وَمَا كُنْتَ تَنْبِذُ
أَظَلْتَ تُغَنِّي سَادِرًا فِي مَسَاءَتِي
…
وَأُمُّك بِالمِصْرَيْنِ تُعْطِي وَتَأْخُذُ =
بسهام الإلحاد، مثل فِعله مع حماد عجرد وعبد الكريم بن أبي العَوْجاء (1)، فما كان بالذي يخرج من هذه المعمعة سالمًا من سهام أعدائه، وقد قيل في المثل: ضعيفان يَغلبان قويا.
وقد أصاب أعداؤه شاكلته بما رَموه؛ لأنهم أقدرُ على تزويق تهمتهم منه وترويجها بين العامة، إذ كان في شغل شاغل بالإكباب على السكر ولهو النساء. ولقد وجدوا له أكبرَ من ذلك مما يثير غضب العامة، وهو ثرثرته في أعراض الناس من جهة نسائهم، فأصبح مركوزًا في يقين العامة أن بشارًا زنديقٌ ملحد مخلِّق أزواج الناس عليهم (2). ومثل هذه الظَّنَّة لا يستخفّ بها الخلفاء وولاة الأمور، إذ كانوا يومئذ في طالعة دولة لهم جديدة، وكانوا متصنِّعين في التحبب إلى العامة، ليُنْسوهم عَهْدَهم من حب بني أمية، وكانوا مُظْهِرين أنَّهم أنصارُ الدين وهداةُ الأمة وورثةُ النبوة.
ولهذا نرى في ترجمة بشار وفي شعره أن المهديَّ كان ينهاه المرةَ بعدَ المرّة عن التعرض إلى النساء في شعره (3). وهل تظن من ذلك أن غيره من الشعراء لم يكن
= ثم قال: "فتوقاه سيبويه بعد ذلك، وكان إذا سئل عن شيء فأجاب عنه ووجد له شاهدًا من شعر بشار احتج به استكفافًا لشره". كتاب الأغاني، ج 3، ص 210 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 692 (نشرة الحسين). وقد رد المرزباني ذلك بعد أن ذكر القصة وسياق البيتين، حيث قال:"قال ابن مهدي: وحدثني أبو هِفَّان، قال: حدثني أبو مُلحم، قال: كان بالبصرة امرأةٌ يقال لها الفارسية مشهورة بالزنا، فكان أهلُ البصرة إذا أرادوا أن يزنُّوا [أي يتهموا] قالوا له: يابن الفارسية. فإلى هذا ذهب بشار، وكان أشدَّ عصبية للفرس مِنْ أن يقول هذا". الموضح، ص 287.
(1)
انظر نماذجَ من هجاء بشار لحماد عجرد وعبد الكريم بن أبي العوجاء في: ديوان بشار بن برد، ج 2/ 3، 237 - 238، 264 - 270؛ ج 2/ 4، ص 31، 49، 130 - 131، 138 - 139.
(2)
أي أنه يفسد النساء على أزواجهن.
(3)
وفي ذلك يقول بشار:
تَجالَلْتُ عَنْ فَهْرٍ وعن جارَتَيْ فهر
…
وَوَدَّعْتُ نُعْمَى بالسَّلَامِ وَبِالهَجْر
وعارضةٍ سِرًّا وَعِندِي منادح
…
فَقُلْتُ لَهَا: لَا أَشْرَبُ المَاءَ بِالخَمْرِ
تَرَكْتُ لمِهْديِّ الصَّلاةِ رُضَابَها
…
ورَاعَيتُ عَهْدًا بَيْنَنَا لَيْسَ بِالخَتْرِ =
يأتِي الغزلَ في شعره حتى يخصه المهدي بالغلظة في النهي؟ ولكنك تستطلع من ذلك سرَّ إلحاح المهدي عليه في ذلك، ليسُدَّ ذريعةَ تحكك الناس ببشار وطلب عقوبته عقاب الملحدين. وقد كان أقوى الناس تهيُّؤًا لالتصاق هذه التهم بهم مَنْ كانوا من أبناء الفرس لأسباب:
أولها أنهم كانوا عريقين في المانوية؛ قال علي بن منصور بن القارح في الرسالة التي كتب بها إلى المعَرّي: "وإنما نسبوا بشارًا إلى دين المانوية؛ لأنه في الأصل فارسيٌّ يتعصَّب للفرس وأحوالهم"(1).
وثانيها أن معظم شيعة الأموية من العرب كانوا يغارون منهم أن جاؤوهم فاتحين مع بني العباس.
وثالثها أن الخلافة العباسية أخذت تتحفز إلى قطع شوكة الفرس، تخلصًا من إدلالهم على الخلافة، وطمعهم في وضع الخليفة تحت نير تصرفهم. وقد أبرقت بارقةُ خضْدِ شوكتهم بنكبة صاحب الدعوة أبي مسلم الخراساني. ولذلك نجد التهمةَ
= وَلَوْلَا أَمِيرُ المُؤْمِنينَ مُحَمَّدٍ
…
لَقَبَّلْتُ فَاهَا أَوْ جَعَلْتُ بها فِطْرِي
الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 219 - 220 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 698 - 699 (نشرة الحسين)؛ الخطيب البغدادي: تاريخ مدينة السلام، ج 7، ص 616. وانظر القصيدة كاملة في: ديوان بشار بن برد، ج 2/ 3، ص 245 - 259.
(1)
لَم أجد هذا الكلام في رسالة ابن القارح أثناء كلامه على بشار، فقد قال عنه: "وقتل المهدي بشارًا على الزندقة. ولمَّا شهر بها وخاف، دافع عن نفسه بقوله:
يَا ابْنَ نِهْيَا رَأْسِي عَلَيَّ ثَقِيلُ
…
وَاحْتِمَالُ الرَّأْدسَيْنِ عِبْءٌ ثَقِيلُ
فَادْعُ غَيْرِي إِلَى عِبَادَةِ رَبَّيْـ
…
ـنِ فَإِنَّي بِوَاحِدٍ مَشْغُولُ
المعري، أبو العلاء: رسالة الغفران ومعها رسالة ابن القارح، تحقيق عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" (القاهرة: دار المعارف، ط 9، 1993)، ص 30. ويبدو أن المصنف أخذه من كلام المعري خلال دفاعه عن المتنبي من تهمة الزندقة حيث قال:"وقد كانت ملوك فارس تقتل على الزندقة، والزنادقة هم الذين يسمون الدهرية لا يقولون بنبوة ولا كتاب. وبشارٌ إنما أخذ ذلك من غيره". المرجع نفسه، ص 429.
التي تُلصق بالمتهمين أيامئذ غالبُها تهمةَ الزندقة واللمز باعتقاد الإلهين: إله الظلمة وإله النور.
وقد أُلصق ببشار القولُ بتفضيل النار على الطين؛ لأنها نورٌ والطين ظلمة، ثم القول بتفضيل إبليس على آدم؛ إذ إبليس مخلوق من نار وآدم من طين. وإليك شواهد ذلك: ذكر الشريف المرتضى في أماليه عن الصباح الكوفي، قال: "دخلت على بشار بالبصرة، فقال لي: يا أبا علي، أما إني قد أوجعتُ صاحبكم وبلغتُ منه - يعني حمّادًا - فقلت: بماذا يا أبا معاذ؟ فقال: بقولِي فيه:
يابْنَ نِهْيَا رَأْسٌ عَلَيّ ثقيلٌ
…
واحْتِمَالُ الرَّأْسَيْنِ خَطْبٌ جَلِيلُ
فادْعُ غَيْرِي إلَى عِبَادَة رَبَّيْـ
…
ـنِ فَإِنِّي بِوَاحِدٍ مَشْغُولُ
فقلت: لمِ أَدَعُهُ في عماه؟ ثم قلت له: قد بلغ حمادًا هذا الشعرُ، وهو يَرويه على خلاف هذا، قال: فما يقول؟ قلت: يقول:
فَادْعُ غَيْرِي إلَى عِبَادَة ربَّيْـ
…
ـنِ فَإنِّي عن وَاحِدٍ مَشْغُولُ
قال: فلما سمعه أطْرَقَ، وقال: أحسنَ والله ابنُ الفاعلة! " (1)
(1) الشريف المرتضي: غرر الفوائد ودرر القلائد، ج 1، ص 149 - 150. هذا وقد روى أبو الفرج الأصفهاني أن أبا نواس قال: "كنت أتوهم أن حماد عجرد إنما رُمي بالزندقة لمجونه في شعره، حتى حُبِستُ في حبس الزنادقة، فإذا حماد إمامٌ من أئمتهم، وإذا له شعر مزاوج بيتين بيتين يقرؤون به في صلاتهم. قال: وكان له صاحبٌ يقال له حُريث على مذهبه، وله يقول بشار حين مات حماد عجرد على سبيل التعزية له:
بَكَى حُرَيْثٌ فَوَقِّرْهُ بِتَعْزِيَةٍ
…
مَاتَ ابْنُ نِهْيَا وَقَدْ كَانَا شَرِيكَيْنِ
تَفَاوَضَا حِينَ شَابَا فِي نِسَائِهِمَا
…
وَحَلَّلَا كُلَّ شَيْءٍ بَيْنَ رِجْلَيْنِ
أَمْسَى حُرَيْثٌ بِمَا سَدَّى لَهُ غَيْرًا
…
تَرَاكُبَ اثْنَيْنِ يَرْجُو قُوَّةَ اثْنَيْنِ
حَتَّى إِذَا أَخَذَا فِي غَيْرِ وَجْهِهِمَا
…
تَفَرَّقَا وَهَوَى بَيْنَ الطَّرفَيْنِ =
وعن أبي عبيدة قال: "هجا حماد عجرد بشارًا بأبيات، منها:
وَالله مَا الخِنْزِيرُ فِي نَتْنِهِ
…
بِرُبْعِهِ فِي النَّتْنِ أَوْ خُمْسِه
[بَلْ رِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِهِ
…
وَمَسُّهُ أَلْيَنُ مِنْ مَسِّهِ
وَوَجْهُهُ أَحْسَنُ مِنْ وَجْهِهِ
…
وَنَفْسُهُ أَفْضَلُ مِنْ نَفْسِهِ]
وَعُودُهُ أَكْرَمُ مِنْ عُودِهِ
…
وَجِنْسُهُ أَكْرَمُ مِنْ جِنْسِهِ
فقال بشار: ويلي على الزنديق! لقد نفث بما في صدره، قيل: وكيف ذاك؟ قال: ما أراد إلّا قول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [البلد: 4]، فأخرج الجحود بها مخرج هجائي (يعني لقوله: وعوده أكرم من عوده. . . البيت) ". (1) وعن الجاحظ قال: "كان بشارٌ في أول أمره صديقًا لواصل بن عطاء
= يعني أنه كان يقول بقول الثنوية في عبادة اثنين، فتفرقا وبقي بينهما حائرًا. قال: وفي حماد يقول بشار أيضًا ونسبه إلى ابن نهيا:
يَابْنَ نِهْيَا رَأْسٌ عَلَيَّ ثَقِيلُ
…
وَاحْتِمَالُ الرَّؤُوسِ خَطْبٌ ثقيلُ
ادْعُ غَيْرِي إِلَى عِبَادَة الإثْنَيْنِ
…
فَإنِّي بِوَاحِدٍ مَشْغُولُ
يَابْنَ نِهْيَا بَرِئْتُ مِنْكَ إِلَى اللَّـ
…
ـهِ جِهَارًا وَذَاكَ مِنّي قَلِيلُ
قال: فأشاع حماد هذه الأبيات لبشار في الناس، وجعل فيها مكان "فإني بواحد مشغول"، "فإني عن واحد مشغول"، ليصحح عليه الزندقةَ والكفر بالله تعالى. فما زالت تلك الأبيات تدور في أيدي الناس حتى انتهت إلى بشار، فاضطرب منه وتغير وجزع، وقال: أشاط ابن الزانية بدمي، والله ما قلت إلا "فإني بواحد مشغول"، فغيرها حتى شهرني في الناس بما يهلكني". الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 14، ص 324 - 325 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 5/ 14، ص 436 - 437 (نشرة الحسين). وانظر الأبيات الثلاثة في: ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4، ص 157 - 158. وانظر ما قاله المصنف في الفروق بين الروايات المختلفة لهذه الأبيات والوجه فيها في: ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4، ص 157 (الحاشيتان 2 و 3).
(1)
الشريف المرتضى: غرر الفوائد ودرر القلائد، ج 1، ص 150؛ وانظر كذلك: الثعالبي: ثمار القلوب، ص 403 - 404. وأول كلام أبي عبيدة كما أورده الشريف المرتضى: "كان حماد عجرد يُعيِّرُ بشارًا بالقُبح؛ لأنه كان عظيم الجسم، مجدورًا، طويلًا، جاحظ العينين، قد تغشاهما لحم =
الغزّال، وكان مدح واصلًا (1)، فلما أظهر بشارٌ مذهبه هتف به واصل فقام بتكفيره وقَعَد، وقال بشار فيه:
مَالي أُشَايِعُ غَزَّالًا له عُنُق
…
كَنِقْنِقِ الدَّوِّ إنْ وَلَّى وَإِنْ مثَلَا
عُنْقَ الزَّرَافَةِ مَا بَالي وَبَالُكُمُ
…
أَتُكفِّرُونَ رِجَالًا أكْفَروا رَجُلَا!
يريد الإنكارَ على المعتزلة حيث كفَّروا الخوارج. وبشار يتوهّم أو يُوهم أن المعتزلة ما حَمَلهم على ذلك إلا أن الخوارج كفَّروا عليًّا رضي الله عنه، فقال واصل:"أما لِهذا الأعمى المُلحِد، أما لهذا المشَنَّفِ المكَنَّى بأبي معاذ من يقتله؟ "(2) فكان غضبُ واصلٍ عليه سببًا في نفيه عن البصرة، فسكن حرَّان إلى أن توُفِّيَ واصل، فرجع بشار إلى البصرة سنة 131 هـ، فقال فيه صَفْوان:
= أحمر، فلما قال حماد فيه"، ثم ذكر الأبيات. والبيتان اللذان بين معقوفتين لم يذكرهما المصنف. وانظر القصيدةَ كاملة عند الجاحظ: كتاب الحيوان، ج 1، ص 240 - 241.
(1)
ومما مدح به بشار واصلًا قوله:
تَكَلَّفُوا القَوْلَ والأَقْوامُ قد حَفَلُوا
…
وحّبَّرُوا خُطبًا نَاهِيكَ مِنْ خُطَبِ
فَقَامَ مُرْتَجِلًا تَغْلِي بَدَاهَتُهُ
…
كَمِرْجَلِ القَينِ لمَّا حُفَّ باللهبِ
وَجَانَبَ الرَّاءَ لَمْ يشْعُرْ بها أحدٌ
…
قبل التصفُّحِ والإغراقِ فِي الطَّلبِ
الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 24 - 25؛ الشريف المرتضى: غرر الفوائد ودرر القلائد، ج 1، ص 155؛ ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4، ص 18 - 20.
(2)
ساق المصنف كلام الجاحظ والبيتين اللذين هجا بهما بشارٌ واصلَ بن عطاء بتصرف مع تقديم وتأخير. انظر البيتين في البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 18 وبقية الكلام في ص 24. وعبارة "كان بشارٌ في أول أمره صديقًا لواصل بن عطاء" ليست من كلام الجاحظ وإنما هي للأصفهاني أدمجها المصنف في كلام الجاحظ تصرفًا منه في عبارة هذا الأخير:"وكان بشار كثيرَا المديح لواصل بن عطاء قبل أن يدين بشار بالرجعة". وقد ساق المصنف عبارة الأصفهاني بتصرف يسير. كتاب الأغاني، ج 3، ص 145 و 224 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 648 و 701 (نشرة الحسين). وأورد الشريف المرتضى كلام واصل على النحو الآتي:"أما لِهذا الأعمى المُلحِد! أما لهذا المشَنَّفِ المكْتَنَى بأبي معاذ من يقتله! " الشريف المرتضى: غرر الفوائد ودرر القلائد، ج 1، ص 155.
رَجَعْتَ إِلَى الأَنْصَارِ مِنْ بَعْدِ وَاصِلٍ
…
وَكُنْتَ شَريدًا فِي التَّهَائِمِ والنُّجْدِ (1)
ثم لم يلبث أنْ غضِب عليه عمرو بن عبيد إمام المعتزلة، فنُفيَ أيضًا عن البصرة ودخل بلدانًا، ثم رجع إلى البصرة عقب وفاة عَمرو بن عبيد سنة 143 هـ (2). وسيأتي في سبب قتله أنه تحكك بيعقوب بن داود ليُحرج عليه المهدي.
أضف إلى ذلك ما يتقوّله عليه أعداؤه من أقوال تُختلق، وتُشاع في الناس، وتُنسب إليه. من ذلك ما زعموا أن جارية غَنَّتْه شيئًا من شعره، فطرب وقال:"هذا والله [يا أبا عبد الله] أحسن من سورة الحَشْر". (3) وقال في بيتين غَنّتهما مرة جارية: "هذا والله أحسنُ من فُلْجِ يوم القيامة". (4) ونسبوا إليه بيتًا ذكره المبرّد في "الكامل" والجاحظ في "البيان":
الأَرْضُ مُظْلِمَةٌ وَالنَّارُ مُشْرِقَةٌ
…
وَالنَّارُ مَعْبُودَةٌ مُذْ كَانَتِ النَّارُ (5)
(1) الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 18 و 28.
(2)
الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 24 - 25. هذا ولم يذكر الجاحظ قصة عودة بشار إلى البصرة بعد وفاة واصل بن عطاء، وإنما قال: "فلما انقلب عليهم [أي المعتزلة] ومقاتله لهم بادية، هجوْه ونفوه، فما زال غائبًا حتى مات عمرو بن عبيد"، وكانت وفاة عمرو سنة 143 أو 144 هـ.
(3)
وفي رواية أخرى: "هي والله أحسن من سورة الحشر". الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 211 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 693 (نشرة الحسين).
(4)
المصدر نفسه، ص 215 (نشرة القاهرة)؛ ج 1/ 3، ص 705 (نشرة الحسين).
(5)
قال المبرد: "ويُروَى، لا بل كانه لا يشكُّ فيه [قال محقق الكتاب: كذا، وأغلب الظن أن عبارة "كأنه لا يشك فيه" ليست من كلام المبرد] أن بشارًا كان يتعصب للنار على الأرض، ويصوِّبُ رأيَ إبليس - لعنه الله - في امتناعه من السجود لآدم عليه السلام، ويروى له"، ثم ذكر البيت. الكامل في اللغة والأدب، ج 2، ص 142؛ الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 18؛ الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 145 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 648 (نشرة الحسين). والبيت من بحر البسيط.
وقد ذكر الأستاذ أبو منصور عبد القاهر البغدادي (1) في كتاب "الفَرْق بين الفِرَق" قصيدةً لصفوان الأنصاري ردًّا على بشار في قوله بتفضيل النار (2). وجاء في "رسالة الغفران" للمعري مما نسب إلى بشار:
إِبْلِيسُ أَفْضَلُ مِنْ أَبِيكُمْ آدَم
…
فَتَنَبَّهُوا يَا مَعْشَرَ الفُجَّارِ
النَّارُ عُنْصُرُهُ وآدَمُ طِيَنَةٌ
…
وَالطِّينُ لَا يَسْمُو سُمُوَّ النَّارِ (3)
ولا يكاد الذكيُّ الفطنة السليم الذوق يقرّ ذلك، وتروج عنده صحةُ نسبة مثل هذا الشعر إلى بشار لا معنًى ولا لفظًا، ولا في مجاري أرباب العقول، فإنا لو تنزّلنا إلى تصحيح احتمال أنه كان يعتقد مثل هذه السخافات - بعد نشأته في الإسلام وتضلعه في علم الكلام - أليس ينهاه نُهاه عن التصريح بما يراه؟
فأما اتهامُه في المذاهب والنحل الإسلامية، فقد قيل إنه كان رافضيًّا يدين بالرَّجعة (والرَّجعةُ بفتح الراء عند جمهور أهل اللغة، وحكى عياض في شرح صحيح مسلم في المقدمة جوازَ كسرِ الراء)(4). وفسّروها بأنها قولُ الرافضة بأن عليًّا رضي الله عنه في السحاب، وأنه لا يجوز الخروجُ مع أحد من أبنائه وولده حتى ينادي من السماء أن اخرجوا مع فلان، ويتأولون قوله تعالى:{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي}
(1) هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي الأشعري المتوفى سنة 429، وكتابه هذا طبع بمطبعة المعارف بمصر سنة 1328 على تحريف كثير. - المصنف.
(2)
الإسفرائيني، أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي: الفرق بين الفرق، تحقيق مجدي فتحي السيد (القاهرة: المكتبة التوفيقية، بدون تاريخ)، ص 43 - 44. وقد أورد الجاحظ كذلك القصيدة المذكورة، وهي تحتوي على 32 بيتًا من بحر الطويل. البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 26 - 28.
(3)
المعري: رسالة الغفران، ص 310 (وفيها:"الأشرار" بدل "الفجار")؛ ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4، ص 92 (الملحقات).
(4)
اليحصبي، أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض: إكمال المعلم بفوائد مسلم، تحقيق يحيى إسماعيل (المنصورة/ مصر: دار الوفاء، ط 1، 1419/ 1998)، ج 1، ص 142 - 143.
[يوسف: 80] على هذا المعنى. وفسّرها أبو منصور البغدادي بأنها رجعة عليّ برجعة الأموات، وذلك في الدنيا قبل يوم القيامة، وهو رأي الكاملية من الرافضة (1).
ونُسب إلى الشعوبية، ولعلها كانت تبدو منه في محادثاته ومجالساته. ونسب إلى التشيع، وشعره شهيدٌ بذلك، وقد كان التشيع شائعًا بعد سقوط الدولة الأموية. ولا أشك في أن بشارًا كان من المتعصِّبين إلى بني أمية، وأن إظهارَه التشيعَ مصانَعةٌ وتقيّة. وقد نُسب إلى الإلحاد والتعطيل والدهرية.
ونُسب إلى الرفض، فقد ذكر الأستاذ أبو منصور في كتاب "الفرق بين الفرق" أن بشارًا كان من الكامليّة، وهم أصحابُ أبي كامل الذي كان يدين بتكفير الصحابة لتركهم بيعةَ عليّ وبتكفير علي لتركه قتالَهم (وهم الذين لم يقولوا بجواز التقيّة مثل بقية الشيعة) قال:" [وحكى أصحابُ المقالات عن بشار أنه] ضم إلى ضلالته هذه ضلالتين أخريين: إحداهما قولُه برجعته (يعني علي بن أبي طالب) إلى الدنيا قبل يوم القيامة، كما ذهب إليه أصحابُ الرجعة من الرافضة، الثانية قوله بتصويب إبليس في تفضيل النار على الأرض". (2)
وأما ما نسبوه إليه من الشعوبية - وهي كراهيةُ العرب وتحقيرُهم - فالظاهر أن بشارًا كان ينزع إلى ذلك بعد أن أعتَد له أعداؤه ومنافسوه التحقيرَ بالولاء، فألجأه ذلك إلى الابتداء بالافتخار بنسبه الفارسي، ثم بالتبرم من الولاء. فلذلك كان يقابل محقِّري نسَبه العجميّ بالافتخار بالعَجَم، ويقابل محقِّريه من القحطانيين بالفخر والانتماء إلى ولاء مُضَر، ولا سيما عند شبُوب حميّة اليمنيين والمضريين في عهد انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين؛ إذ كانت شيعةُ بني أمية من مضر وشيعة بني العباس من
(1) الإسفرائيني عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق، ص 42.
(2)
المرجع نفسه، ص 42 - 43. وما بين معقوفتين لم يورده المصنف.
حمير واليمن. ولكنه لم يكن مع ذلك يتنقّص العرب، كيف وإنما قيمته من العربية؟ ويُشْبه بشارٌ في الشعوبية إسماعيلَ بن يسار من شعراء عصر الدولة الأموية.
وقد كان أشدَّ الناس عليه في التشويه عليه بسوء اعتقاده واصلُ بن عطاء الغزال رئيس المعتزلة؛ فإن بشارًا بعد أن كان من أشياعه ومدّاحيه انقلب عليه وهجاه وهجا نحلته، وانتصر للخوارج الذين كان واصلٌ أبغضَ الناس لنحلتهم وأشدَّهم عليهم. فلذلك أضمر له واصلٌ غيظًا شديدًا، وهدده بالإغراء بقتله، وما منعه من ذلك إلا تقواه وخشية سوء السمعة لمذهب الاعتزال. على أنه لم يفتأ واصلٌ يكيد له مع أمراء البصرة، وكان واصل مسموعَ الكلمة، حتى نفي بشار عن البصرة. وقد ذكر الجاحظ (في كتاب البيان في جزئه الأول) وأبو الفرج الأصفهاني (في الأغاني) وغيرُهُما أخبارًا كثيرةً في شأنه مع واصل بن عطاء في حالتَيْ الرضا والغضب (1).
والمتأمل في سياق ما يُلْمَز به بشار من الزندقة أو النِّحل الفاسدة والشاذة يرى الذين يلمزونه بذلك مختلِفِي صفة النسبة: فمنهم من يَنْسُب إليه التظاهر بما نسبه هو إليه، ومنهم من ينسُب إليه الإسرار بذلك في باطنه. ولا بد أن نَجهَر بإسقاط إحدى النسبتين، وهي نسبة التظاهر باتباع النحل الباطلة، فإن مَنْ يقرأ أخبارَه وشعرَه يراه ملتزمًا عقد الإيمان الصحيح، مخبِرًا عن نفسه بأداء الصلاة والصوم وشرائع الإسلام، ألا ترى إلى قوله في ترك وصال خلّته في شهر رمضان:
فِي لَيْلَة خَلْفَ شَهْر الصَّوْم نَاقصَة
…
تسْعًا وَعشْرينَ قَدْ أَحْصَيْتُهَا عَدَدَا
حَتَّى ارْتَقَيْتُ إلَيْهَا فِي مُشَيَّدَةٍ
…
دُونَ السَّمَاء تُنَاغِي ظلَّها صَعَدَا (2)
وقوله:
(1) انظر الجاحظ: البيان والتبيين، ج 1/ 1، ص 17 - 18 و 24 - 26؛ الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 145 - 146، 182، 224 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 648، 672، 701 (نشرة الحسين). وانظر كذلك الشريف المرتضى: غرر الفوائد ودرر القلائد، ج 1، ص 155.
(2)
ديوان بشار بن برد، ج 1/ 1، ص 141.
إنّي حَلَفْتُ يَمينًا غَيْرَ كَاذبَةٍ
…
عِنْدَ المَقَام وَلَمْ أَقْرَبْ لَهُ فَنَدَا (1)
وقد أظهر الحفاظَ على دينه في قوله (في الورقة 73 من الديوان):
وَمُلُوكٍ إنْ تَعَرَّضْتُ لَهُمْ
…
عَرَّضُوا ديني وَشيكًا للعَطَبْ (2)
وسيجيء ذكرُ الورقة التي أُلفِيَتْ بعد موته، وفيها تعظيمُه الجانبَ النبويَّ الشريف. وكذلك قوله (في الورقة 4):
وعجيبٌ نَكْثُ الكَرِيم وللنَّفْـ
…
ـسِ معادٌ ولِلْحَيَاةِ انْقِضَاءُ (3)
فاعترف بالمعاد، وقال في بعض قصائده يريد نفسه (في الورقة 31):
يَصْدُقُ فِي دينه وَمَوْعده نَعَمْ
…
وَيُعْطَى النَّدَى عَلَى كَذِبِهْ (4)
وقال فِي رثاء ابن له:
وَلِي كُلَّ يَوْمٍ عَبْرةٌ لَا أُفِيضُهَا
…
لأُحْظَى بِصَبْرٍ أَوْ بِحَطِّ ذُنُوبِ (5)
إلا أنه كان خليعًا في أفعاله وأقواله، فبقيت نسبةُ الإسرار والانطواء على العقائد الباطلة إليه، وهذه نسبة لا تخرج عن الرجم بالغيب، والوصم بالعيب.
(1) المصدر نفسه، ج 1/ 2، ص 139.
(2)
المصدر نفسه، ج 1/ 1، ص 323.
(3)
المصدر نفسه، ج 1/ 1، ص 140. ومما يتصل بذلك أبيات من بحر الكامل قالها في الموت وكونه قدرًا إلهيًّا لا راد له:
إِنَّ الطَّبِيبَ بِطِبِّهِ وَدَوَائِهِ
…
لَا يَسْتَطِيعُ دَفَاعَ مَقْدُورٍ أَتَى
مَا لِلطَّبِيبِ يَمُوتُ بِالدَّاءِ الَّذِي
…
قَدْ كَانَ يُبْرِي مِثْلَهُ فِيمَا مَضَى
إِلَّا لأَنَّ الخَلْقَ يَحْكُمُ فِيهِمُ
…
مَنْ لَا يُرَدُّ وَلَا يُجَاوَزُ مَا قَضَى
المختار من شعر بشار، ص 285؛ ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4، ص 255.
(4)
ديوان بشار بن برد، ج 1/ 1، ص 184.
(5)
المصدر نفسه، ص 279.