الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قراطيس من نقد الشعر
(1)
القرطاس الأول:
قال أبو الطيب المتنبي في القصيدة التي مدح بها الحسين بن إسحاق التنوخي:
وَقَدْ صَارَتِ الأَجْفَانُ قَرْحَى مِنْ البُكَا
…
وَصَارَتْ بَهارًا فِي الخُدُودِ الشَّقَائقُ (2)
وقال أبو الحسين علي الواحدي في شرحه: "قرحى بغير تنوين: جمع قريح، مثل جرحى ومرضى، وروى ابن جني [أن المتنبي كان يقول: ] قرحًا بالتنوين على أنه جمع قَرحة، كما أن بهارًا جمع بهارة وهو الورد الأصفر. والمعنى أن الأجفان تقرحت من كثرة البكاء، وصارت حُمرةُ الخدود صُفرةً لأجل البين"(3).
وقد أشار إلى ما نُقل عن أبي الفتح ابن جني - وكان من أصحاب أبي الطيب والآخذين عنه - قال: "سألته (أي أبا الطيب) عن معنى هذا البيت، فقلتُ له: أتقول قَرْحَى أو قرحًا (منوّن)؟ فقال: قرحًا منونٌ، فقلتُ: ولم ذلك؟ قال: ألا ترى أن بعده بهارًا في الخدود الشقائق؟ فكذلك قرحًا جمع قرحة، وهو اسم لا وصف. فعلمت بهذا أنه متأنقٌ في صنعة الشعر متأمِّلٌ لأعطافه، غيرُ معتمد على طبعه مجردًا
(1) نشرت أربعة نجوم في مجلة الهداية الإسلامية: الجزء 5، المجلد 11، ذو القعدة 1357؛ الجزء 8، المجلد 11، صفر 1358؛ الجزء 9، المجلد 11، ربيع الأول 1358؛ الجزء 5، المجلد 13، ذو القعدة 1359.
(2)
البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 3، ص 82. والبيت هو الثالث من القصيدة.
(3)
ديوان المتنبي بشرح الواحدي، نشرة ديتريصي، ص 123.
من التنقيح والتهذيب. (قال ابن جني: ) ومعناه: إن الأجفان قد قَرِحت، وصار مكانَ حمرة الخدود صفرة". (1)
وحاصلُ كلامهم مع توجيهه أن قرحى يرجح أن يكون مُنَوَّنَ الآخر، اسم جمع قرحة بفتح القاف، وهي مؤنث القرح وهو الجرح، فهو جمع لاسم جامد ليوافق مقابله وهو "بهارًا"، الذي هو جمع بهارة. فتحصل المزاوجةُ في البيت بين الكلمتين المتقابلتين مزاوجةً في المعنى؛ إذ تكون كلتاهما اسم جمع لاسم جامد، ومزاوجةً في اللفظ؛ إذ تكون كلتاهما منوّنة. ولا يكون قرحى ممالًا؛ لأنه حينئذ يكون جمع قريح مثل جرحى، فيفوت التزاوج من الجهتين.
قال أبو العلاء المعري في شرحه لديوان المتنبي الذي سماه معجز أحمد: "وروي قُرحًا منونًا على الاسم، وقَرْحى غير منونة، صفةُ الأجفان، والمعنى واحد"(2). فصرح المعري بما لمح إليه كلام ابن جني والواحدي في كون المعنى واحدًا على وجهي التنوين والإمالة، فيكون اختيار المتنبي للتنوين لمجرد إيفاء حق الصناعة اللفظية.
والذي جرّأ المتنبي على هذا أن مزاوجة الألفاظ المتقاربة أو المتقابلة هي من أفانين الفصاحة العربية، ولذلك نرى العرب يعمدون إلى الكلمة فيغيرونها عن لفظها الأصلي إلى حالة أخرى لأجل وقوعها مع كلمة أخرى، كما جاء في القرآن:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)} [الإنسان: 4]، فنوَّن "سلاسلًا"
(1) ابن جني، أبو الفتح عثمان: الفَسْر: شرح ابن جني الكبير على ديوان المتنبي، تحقيق رضا رجب (دمشق: دار الينابيع، ط 1، 2004)، ج 3، ص 539. ذكر المصنف كلام ابن جني بتصرف واختصار يسير، وسقناه بتمام لفظه. وما بين قوسين زيادة من المصنف.
(2)
المعري: شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، ج 1، ص 270.
مع أن حقه عدم التنوين لوجود علة المنع من الصرف، وما تنوينه إلا لوقوعه مع "أغلالًا وسعيرًا"(1).
وقد جاء في حديث وفد عبد القيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: "مرحبًا بالوفد، غير خزايَا ولا ندامى"(2)، أراد ولا نادمين على قدومكم، والمشهور في جمع
(1) هذا وللمصنف تحقيق مهم في هذه المسألة يجدر جلبه هنا استكمالًا للفائدة، قال عند تفسير الآية المذكورة:"وكتب "سلاسلًا" في المصحف الإمام في جميع النسخ التي أرسلت إلى الأمصار بألف بعد اللام الثانية، ولكن القراء اختلفوا في قراءته: فنافع والكسائي وهشام عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر قرؤوا "سلاسلًا" منونًا في الوصل ووقفوا عليه، كما يوقف على المنون المنصوب. وإذ كان حقه أن يمنع من الصرف؛ لأنه على صيغة منتهى الجمع، تعين أن قراءته بالتنوين لمراعاة مزاوجته مع الاسمين اللذين بعده وهما "أغلالًا" و"سعيرا"، والمزاوجة طريقة في فصيح الكلام. ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم لنساء: "ارجعن مأزورات غير مأجورات"، فجعل "مأزورات" مهموزًا وحقه أن يكون بالواو، لكنه همز لمزاوجة مأجورات. وكذلك قوله في حديث سؤال الملكين الكافر، فيقال له: "لا دريت ولا تليت"، وكان الأصل أن يقال: ولا تلوت. ومنه قول ابن مقبل أو القلاع. . . وهذه القراءة متينة يعضدها رسمُ المصحف، وهي جارية على طريقة عربية فصيحة. وقرأه الباقون بدون تنوين في الوصل، واختلفوا في قراءته إذا وقفوا عليه: فأكثرهم قرأه في الوقف بدون ألف فيقول سلاسل في الوقف. وقرأه أبو عمرو ورويس عن يعقوب بالألف على اعتباره منونًا في الوصل. وقرأه البزي عن ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر وحفص عن عاصم في الوقف بجواز الوجهين بالألف وبتركها. فأما الذين لم ينونوا سلاسلا في الوصل ووقفوا عليه بألف بعد لامه الثانية - وهما أبو عمرو ورويس عن يعقوب - فمخالفةُ روايتهم لرسم المصحف محمولة على أن الرسم جرى على اعتبار حالة الوقف، وذلك كثير. فكتابة الألف بعد اللام لقصد التنبيه على إشباع الفتحة عند الوقف لمزاوجة الفواصل في الوقف؛ لأن الفواصل كثيرًا ما تعطى أحكام القوافي والأسجاع. وبعد فالقراءات روايات مسموعة ورسم المصحف سنة مخصوصة به. وذكر الطيبي أن بعض العلماء اعتذر عن اختلاف القراء في قوله سلاسلا بأنه من الاختلاف في كيفية الأداء، كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة، وأن الاختلاف في ذلك لا ينافي التواتر". ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، ج 14/ 29، ص 378.
(2)
جزء من حديث طويل عن أبي جمرة قال: "كنت أقعد مع ابن عباس، يجلسني على سريره، فقال: أقم عندي حتى أجعل لك سهمًا من مالي، فأقمت معه شهرين، ثم قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من القوم؟ " أو "من الوفد؟ " قالوا: ربيعة. قال: "مرحبًا بالقوم، أو بالوفد، غير خزايا ولا ندامى"، فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام، وبيننا =
نادم أن يكون جمع سلامة فغُير جمعه هنا ندامى، وهو جمع تكسير، وقد اشتهر جمعًا لندمان؛ وهو صاحب المنادمة، أي: المجالسة على الشراب، ولا موجب لهذا التغيير إلا قصد مزاوجته لخزايا، وكذلك قال ابن مقبل:
هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ، وَلَّاجُ أَبْوِبَةٍ
…
يُخَالِطُ البِرُّ مِنْهُ الجِدَّ وَاللِّينَا (1)
فجمع بابًا على أبوبة، والمعروف أن يُجمع على أبواب، وإنما جمعه على أبوبة لمزاوجته لقوله:"أخبية".
أما أنا فأقول: إن أبا الطيب ما اختار أن يكون قرحًا منونًا إلا لشيء زائد على ما ذكره شرّاح ديوانه الثلاثة (2)، وهو شيء راجعٌ إلى المعنى الشعري. وذلك أن إثبات مصير الأجفان أنفسها قروحًا أبلغ من وصفها بالتقرح الذي يدل عليه قرحى بدون تنوين؛ لأن في إثبات صيرورتها قروحًا تخيلًا لتبدل ذاتها بذات أخرى، فكان مناسبًا للتخيل الذي يستدعيه الشعر. فوافق إثبات مصير الشقائق بهارًا في تخيل تغير الذات بذات أخرى، فيكون وزانه وزان قول أبي تمام في مليح أصابته حمى:
لَمْ تَشِنْ وَجْهَهُ المَلِيحَ وَلَكِنْ
…
بَدَّلَتْ وَرْدَ وَجْنَتَيْهِ بَهَارَا (3)
أو قول ابن المعتزّ:
= وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل، نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة. وسألوه عن الأشربة: فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم: بالإيمان بالله وحده، قال:"أتدرون ما الإيمان بالله وحده". قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس". ونهاهم عن أربع: عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت. وربما قال: المقير. وقال: "احفظوهن، وأخبروا بهن مَنْ وراءكم"". صحيح البخاري، "كتاب الإيمان"، الحديث 53، ص 12.
(1)
سبق التعليق على مكان هذا البيت من شعر ابن مقبل.
(2)
يعني ابن جني والواحدي والمعري.
(3)
ديوان أبي تمام، ص 442. وفيه "جعلت" عوض "بدلت".
لَمْ تَشِنْ شَيْئًا وَلَكِنَّهَا
…
بَدَّلَتِ التُّفَّاحَ بِاليَاسَمِينِ (1)
بخلاف الإخبار عن الأجفان بأنها صارت متقرحة، فذلك أمرٌ شائع في الكلام غير الشعر، يقولون: بكى فلان حتى تقرحت جفونه. فكأنه أخبر عن الخدود بمصيرها صفراء بعد الاحمرار، وذلك يوازن قولَ عبد الصمد بن المعذَّل (2) في مليح أصابته الحمى:
لَمْ تَشِنْهُ لمَّا أَلَحَّتْ وَلَكِنْ
…
بَدَّلَتْهُ بِالاحْمِرَارِ اصْفِرَارَا (3)
فإذا جمعتَ هذا الوجهَ إلى الوجهين اللذين أخذناهما من كلام شرّاحه، صارت رواية قَرحًا بفتح القاف وبالتنوين متعينة وليست راجحة فقط، لما اشتملت عليه من اللطائف. ولذلك لم يسمح المتنبي برواية لفظ قرحى من بيته بلا تنوين، ولا جعله قُرحًا بضم القاف مع التنوين؛ لأن في كلام هذين الأخيرين فواتَ نكتة لا يرضى المتنبي بفواتها.
وفي بيت المتنبي من حسن التشبيه معنى رقيق؛ إذ قد أنبأ بأن محاسنَ الخدود لم تتغير بتغير لونها، ولكنها كانت زهرة حمراء فصارت زهرة صفراء فلم يفارقها حسن الزهور. واعلم أن المناسب لمعاني الغرام أن يكون عنَى بالأجفان أجفانه، وبالخدود الحبيب، بشهادة قوله قبله:
(1) البيت ذكره أبو العلاء، ولم أعثر عليه في ديوان ابن المعتز بطبعتيه. المعري: شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، ج 1، ص 271.
(2)
عبد الصمد بن المعذَّل (بفتح الذال المعجمة المشددة) بن غيلان البصري، شاعر من شعراء الدولة العباسية. أبوه شاعر وأخوه شاعر، وكان هجّاء وكان معاصرًا لأبي تمام، ولد بالبصرة ونشأ بها، وتوفي بها.- المصنف.
(3)
الجرجاني: الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق، ص 246.