الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما مذهبُه في الفروع، فقد تردد الشيخُ النجار في كونه من أتباع المذهب الحنفي أو من أتباع المذهب الشافعي، وقد كان كلا المذهبين فاشيًا في جهات خوارزم. وإن أمثالَ السكاكي من العلماء الذين ليس لهم حظٌّ معتبرٌ في إتقان علوم الفقه ولا تأليف. ولقد يكثرُ أن يتجاذَبَهم أتباعُ المذاهب الفقهية إلى حظائر مذاهبهم: يكون ذلك لمجرد التردُّدِ في تقليدهم، ويكون لأخذِهم العلمَ عن علماء من المذهبين.
على أنَّ من أساطينِ العربية مَنْ لا يُعرف مذهبُه، فهذا سيبويه إمام النحاة لا يُدرى أكان مالكيًّا أم شافعيًّا أم حنفيًّا؛ لأن المذاهب الثلاثة في زمانه كانت فاشية في العراق. وهذا الإمام الأشعري قد تجاذبه المالكيةُ والشافعية، وترجم له في طبقات المذهبين، والتحقيق أنه كان مالكيا. ومثلُه الإمام أبو بكر الباقلاني، فقد ذُكر في طبقات علماء المالكية، وفي طبقات علماء الشافعية، والتحقيقُ أنه كان مالكيا.
وقد كان السكاكيُّ معدودًا من فطاحل علماء الكلام، ومواضعُ من كتابه شاهدةٌ بذلك، وطريقتُه في العربية هي الطريقةُ البصرية، أعني طريقةَ سيبويه وأتباعه، وهم الذين يعنيهم في كتاب "المفتاح" بقوله أصحابنا.
العصر الذي ألف فيه "المفتاح
"
كان ذلك في خلافة الخليفة الناصر لدين الله، وقد قال في أمثلة الحالة المقتضية ذكر المسند إليه:"والناصر لدين الله خليفتنا، والدعاء والثناء عليه وظيفتنا"(1) وقد دام الناصر لدين الله في الخلافة سبعًا وأربعين سنة من سنة 575 هـ إلى سنة 623 هـ.
(1) السكاكي: مفتاح العلوم، ص 308 (نشرة هنداوي).
على أن السكاكيَّ قد عزم على إملاء حواشٍ على كتابه لبسط ما أجمله في مواضع قصدًا للاختصار، ولذلك قال في أوله:"وها أنا مملٍ حواشيَ جاريةً مجرى الشرح للمواضع المشكلة، مستكشفةً عن لطائف المباحث المهملة، مطلعة على مزيد تفاصيل في أماكن تمس الحاجة إليها". (1) وقال في آخر الكتاب: "فلنؤثر ختْمَ الكلام حامدين الله تعالى ومصلين على الأخيار، ونشمِّر الذيلَ لإملاء حواشٍ عَرِيَ عن بعض فوائدها المتنُ لقصد الاختصار". (2) وأحال في أثناء الكتاب غيرَ مرة على هذه الحواشي، إلا أنه لا يوجد في كلامِ شُرَّاحِ كتابه ما هو مأخوذٌ من حواشيه، فالظاهرُ أن هذه الحواشيَ لم يقع الشُّروعُ فيها، وذلك يدلنا على أنه أتمَّ كتاب "المفتاح" في أواخر عمره، وأواخر خلافة الناصر.
(1) المصدر نفسه، ص 38.
(2)
من قوله "ونشمر" إلخ سقط من النسخة المطبوعة بمطبعة التقدم بمصر، وهي ثابتة في النسخ المخطوطة كلها. - المصنف. السكاكي: مفتاح العلوم، ص 908 (نشرة يوسف)، وص 726. (نشرة هنداوي). وللأسف فإن نعيم زرزور وعبد الحميد هنداوي قد وقعا جميعًا في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه نشرةُ مطبعة التقدم؛ إذ غفلَا عن تدارك هذا السقط الذي أشار إليه ابن عاشور هنا، الأمر الذي يثير الشك حول مصداقية تحقيقهما، ويدفع إلى استنتاج أنهما إنما قاما بمجرد استنساخٍ لنشرة مطبعة التقدم، وهذا - للأسف - صنيعُ الكثيرين ممن يتقحمون تحقيق كتب التراث في مجالاته العلمية المتنوعة. ألا رحم الله أمثال إبراهيم الأبياري، ومحمد أبي الفضل إبراهيم، وأحمد ومحمود شاكر، وعبد السلام هارون، ومحمد محيي الدين عبد الحميد، وأمين الخولي، ومحمد بن تاويت الطنجي، وإحسان عباس، ومحمد أبي الأجفان، وعبد الرحمن بدوي، وطاهر الزاوي، والسيد أحمد صقر، ومحمود الطناحي، وعبد العظيم الديب، وكل من سما إلى مثل قاماتهم، فقد كان التحقيق عندهم يعني علمًا بالتراث روحًا ومضمونًا ومنهجًا، وإدراكًا لما فيه من وشائج ومسالك، وما يحتفه من أحوال وسياقات، واستقصاءً وفهمًا لنصوص ما ينتهضون لتحقيقه لغةً وأسلوبًا وتاريخًا، لا مجرد تقحم عليها.