الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحقيق ترجمة عالم كبير وإصلاح وهْم في تسميته
(1)
يقع في كتب التفسير وأصول الفقه - عندما يتكلمون على النسخ في أحكام الشريعة - أن أئمةَ المسلمين اتفقوا على أن النسخ واقع، إلا أبا مسلم الأصفهاني؛ فإنه أنكر أن يكون ما ادعوه نسخًا، وقال هو من قبيل التخصيص. قال تاج الدين السبكي في جمع الجوامع:"مسألة: النسخ واقعٌ عند كل المسلمين، وسمّاه أبو مسلم تخصيصًا، فقيل خالف، فالخلف لفظي"(2).
هكذا نجد اسم هذا العالم في معظم التآليف: "أبو مسلم الأصفهاني". وكذلك يمر به المدرسون والطلبة غير سائلين عن تعيينه، وربما زاد بعضُهم فوصفه بأنه من أئمة المعتزلة. والفخر في التفسير عند قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106]، سماه بأبي مسلم بن بحر (3). ووقع في بعض الكتب في الأصول تعيينُه بأنه المعروف بالجاحظ. وكذلك قال بعضُ شراح المنهاج، وابن عبد الهادي الحنبلي في شرح المختصر الحاجبي.
(1) مجلة الهداية الإسلامية، المجلد الثامن، العدد الرابع، شوال 1354.
(2)
السبكي، تاج الدين عبد الوهاب بن علي: جمع الجوامع الفقهي أصول، تحقيق عبد المنعم خليل إبراهيم (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1424/ 2003)، ص 59.
(3)
الرازي، فخر الدين محمد ابن العلامة ضياء الدين عمر: تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتح الغيب (بيروت: دار الفكر، ط 1، 1401/ 1981)، ج 3، ص 248.
واهتم بذلك الشهابُ القرافي المالكي في شرحه على تنقيح الفصول، فقال:"فائدة: أبو مسلم كنيته، واسمه عمرو بن يحيى، قاله أبو إسحاق في اللمع". (1) وقال أبو العباس المالكي في شرح تنقيح القرافي: "تنبيه: أبو مسلم هذا من المعتزلة، واسمه عمرو. وفي اللمع لأبي إسحاق أنه ابن يحيى، وفي بعض نسخ المحصول أنه ابن بحر، قال المصنف - يعني القرافي في شرح المحصول - فيحتمل أن يكون له اسمان وهو بعيد، أو يكون أشخاص كلهم يسمّى أبا مسلم". (2)
وأنا حين كنتُ أقرأتُ كتاب تنقيح القرافي وشرحته، جزمتُ بأنه عمرو بن بحر، إذ ليس عمرو بن يحيى بمعروف. واستخلصتُ مما رأيته من كلامهم أنه الجاحظ؛ لأن اسم الجاحظ عمرو بن بحر، وهو من المعتزلة. إلا أني أشرتُ إلى مثار إشكال في كون الجاحظ يكنّى أبا مسلم، فقلت:"وأشهر كنيته أبو عثمان"، وإشكال في كونه أصفهانيًّا، فقلت "البصري". (3)
فلذلك لم أزل غيرَ ثلِجِ الصدر لما قالوه وقلت. ومما زادني حيرةً أن الفخر يذكر في تفسيره: عن أبي مسلم في تفسيره، ولم نعرف أن للجاحظ تفسيرًا، فلم أزل أرصد ما يكشف عني هذا الإشكالَ حتى رأيتُ في طبقات المفسرين ما نصُّه: "محمد
(1) القرافي: شرح تنقيح الفصول، ص 294. وانظر الشيرازي، أبو إسحاق إبراهيم: شرح اللمع، تحقيق عبد المجيد تركي (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1408/ 1988)، ج 1، ص 482.
(2)
لم أتمكن من الاطلاع على شرح أبي العباس المالكي - أحمد بن عبد الرحمن الزليطني المعروف بحلولو - على تنقيح الفصول للقرافي، لا مطبوعًا ولا مخطوطًا، وقد عملت أن بعض أجزائه حققت من قبل بعض طلبة الدراسات بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. أما كلام القرافي في شرحه على المحصول فقد قال بعد ذكر الاختلاف في اسم أبي مسلم:"فهذا اختلاف متباعد في اسمه، اللهم إلا أن يكون له اسمان وهو بعيد، أو يكونوا عدة أشخاص كل منهم يسمّى أبا مسلم". القرافي، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس: نفائس الأصول في شرح المحصول، تحقيق محمد عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1421/ 2000)، ج 3، ص 246.
(3)
ابن عاشور، محمد الطاهر: حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح (تونس: مطبعة النهضة، 1341 هـ)، ج 2، ص 76.
ابن بحر الأصفهاني أبو مسلم، صاحب التفسير، وذكره ابن مانويه في تاريخ الري، وقال: كان على مذهب المعتزلة ووجيهًا عندهم، وصنف لهم التفسير على مذهبهم، ومات سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وهو ابن سبعين سنة". (1)
ووجدتُ في "معجم الأدباء" لياقوت ترجمته مستوفاة. قال ياقوت ص 420 جزء 6: "محمد بن بحر الأصفهاني الكاتب، يكنى أبا مسلم، كان كاتبًا مترسلًا بليغًا متكلمًا جدِلًا، مات - فيما ذكره حمزة في تاريخه - في آخر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، ومولده سنة أربع وخمسين ومائتين. وكان الوزير أبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجراح يشتاقه ويصفه. وقال أبو علي التنوخي: وقد ذكر محمد بن زيد الداعي قال: وهو الذي كان أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني الكاتب المعتزلي العالم بالتفسير وبغيره من صنوف العلم، مذ صار عامل أصبهان وعامل فارس للمقتدر، يكتب له ويتولَّى أمره. وذكره محمد بن إسحاق (يعني ابن النديم)، وقال: له من الكتب جامع التأويل لمحكم التنزيل على مذهب المعتزلة أربعة عشر مجلدًا، كتاب جامع رسائله (2)، كتاب الناسخ والمنسوخ، كتاب في النحو. وسمّى حمزة كتابه في القرآن شرح التأويل. وكان ابن أبي البغل ولي في سنة ثلاثمائة ديوان الخراج والضياع بأصبهان وهو ببغداد، فورد كتابُه على أبي مسلم ابن بحر بأن يخلفه على ديوان الضياع بها، ثم ورد ابن أبي البغل إلى أصبهان فأقره على خلافته. ثم مات أبو علي محمد بن أحمد بن رستم سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، فرتب مكانه أبو مسلم
(1) الداوُودي، شمس الدين محمد بن علي بن أحمد: طبقات المفسرين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1403/ 1983)، ج 2، ص 109 - 110. وفيه: أبو الحسين بن بابويه، لا ابن بانويه، ووجهًا عوض وجيهًا. أما ما ذكره المصنف فموجود بلفظه عند ابن حجر في اللسان. ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي: لسان الميزان، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبي غدة (بيروت: دار البشائر الإسلامية، ط 1، 1423/ 2002)، ج 7، ص 6. وابن بابويه هو علي بن عبيد الله، توفي بعد 585 هـ. أما كتابه "تاريخ الري" فمفقود.
(2)
هذا ما قاله ابن النديم بشأن مصنفات أبي مسلم الأصفهاني، ولم يزد عليه. الفهرست، ص 169.
ابن بحر وذلك في شوال، ثم ورد علي ابن بويه في خمسمائة فارس فهزم المظفر بن ياقوت [في خمسة آلاف فارس]، ودخل ابن بويه أصبهان فعُزل أبو مسلم". وذكر له ياقوت شعرًا، وذكر أن له أخًا اسمه أحمد. قال: "ولما مات أبو مسلم، رثاه علي بن حمزة بن عمارة الأصفهاني بأبيات". (1)
هذا خلاصةُ ما ذكره ياقوت، فتبين أن الوهمَ دخل على بعض نقلة اسمه قديمًا، فلما وجدوا أباه يسمّى بحرًا توهموا أنه الجاحظ، فأصلحوا اسمه محمدًا بعمرو. والتحريفُ في محمد وعمرو متقارب. وبعضُهم لما اعتمد أن اسمه محمد حرف اسم أبيه بحر بيحيى، ظنًّا أن بَحْرًا ليس إلا أبا الجاحظ. ولفخر الدين الرازي في تفسيره الكبير عنايةٌ بنقل شيء من كلام أبي مسلم الأصفهاني في تفسيره. وإن ما ينقله عنه لدليلٌ على ضلاعة أبي مسلم هذا في التفسير علمًا وذوقًا وغوصًا، ولكن تفسيره لا نعرفه، ولعله مما فقد من تليد تراث الإسلام (2).
هذا وفي المفسرين عالم آخر بأبي مسلم الأصفهاني المعتزلي، رأيتُ أن أذكره هنا، إكمالًا للفائدة، ودفعًا لما عسى أن يعرض من غلط. وهو محمد بن علي بن محمد بن الحسين بن مهرابزاد الأصفهاني النحوي الأديب، ولد سنة 366 هـ وتوفي سنة 459 هـ، وصنف تفسيرًا كبيرًا في عشرين مجلدا. وكان الغالب عليه الاعتزال، ذكره السيوطي في بغية الوعاة (3). وهو غير الذي ينقل عنه الفخر في تفسيره، لتصريحه في
(1) الحموي: معجم الأدباء، ج 6، ص 2437 - 2440 (الترجمة 1008). وقد أوردنا كلام مرتبًا حسب سياقه في كتابه، لا كما ذكره المصنف بتصرف في ترتيب بعض أجزائه. وانظر كذلك: الصفدي: الوافي بالوفيات، ج 2، ص 175.
(2)
وقد جمع بعضهم ما نسب لأبي مسلم في التفسير من مظانه، وخاصة التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي، ومن ذلك ما جمعه سعيد الأنصاري - أحد علماء - ونشره باسم "ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل" وصدر في مدينة كلكتا سنة 1320/ 1903، وما جمعه خضر محمد نبها بعنوان "تفسير أبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني" وطبع في بيروت سنة 2009 بواسطة دار الكتب العلمية.
(3)
السيوطي: بغية الوعاة، ج 1، ص 188.
بعض مواضع النقل عنه بأنه أبو مسلم بن بحر. وهو أيضًا غير صاحب القول بإنكار النسخ؛ لأن الذي أنكر النسخ هو ابن بحر لا محالة.
فقد حصل لنا بهذا ثلاثةُ أسماء من قبيل المؤتلف والمختلف، وهي: عمرو بن بحر المحبوبي البصري الملقب بالجاحظ المعتزلي، كنيته أبو عثمان، ومحمد بن بحر الأصفهاني المعتزلي أبو مسلم صاحب التفسير، والكاتب الأديب، وصاحب القول بإنكار النسخ. ومحمد بن علي الأصفهاني المعتزلي، أبو مسلم صاحب التفسير النحوي.
وقد دعاني إلى تحقيق صاحب هذه الكنية وضبط ترجمته، إزالة اللبس الذي عرض، وتغيير ما وقع في كتابي "التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح" في صفحة 76 من الجزء الثاني منه. وقد أذِنْتُ لكل مَنْ يقف عليه أن ينقل عني هذا الإصلاحَ في طرّة نسخته، وفوق كلِّ ذي علم عليم.