الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة الثانية
المرسى في 3 رجب 1323 [سبتمبر 1905] إلى القيروان
إلى أستاذي النقاد العلامة النصوح الشيخ سيدي محمد النخلي المدرس الأعلى بالجامع الأعظم حفظه الله تعالى.
جاءني كتابك سيدي على انتظار، فكان من شوقي مكان جرعة الماء من الأُوار. جاءني يقدم إلي كتاب الأستاذ الإمام قدس الله روحه الذي كنتُ نقلتُ عنكم خلاصتَه منذ سنين في بعض دروسِكم، وأنا جاهل بمنشئه، فها أنا ذا الآن أقرؤه وعبرات أسفي تتقاطر عليه.
الفكر العام كما قلت لكم في ذهول عن هاته الحوادث، ولقد رأيت من بعض العامة الترحم على الأستاذ والاستغفار ليس إلا، لأنهم سمعوا أنه كان يحب تقدم الإسلام ويسعى إليه، فأين هم من الغوغاء المنتسبين للإسلام ونصرته الذين آذوه حيًّا وميِّتًا، ترجيحًا لمصالحهم الشخصية على نصح الدين والأمة؟
ذهبت المذاهبُ في مراثي الإمام كل مذهب، وعُرِف منها ما كان مكتومًا، ففاز صريحُ التوقيع بمزية الشجاعة. ومهما يكن من سخط الجامدين، فإنهم كما قال تعالى:{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران: 111]{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 76].
كنتُ أسمع عن كثير من المعترضين، فأود أن أواجههم فيصرحوا باعتراضهم، لأريهم الحق أبلج ساطعًا، ولكني كنت أراهم عند اللقاء أقذر من الحرباء تلونًا، وأشد من الثعلب رواغًا، وسيعلمون جهلهم بعد حين.
قرأت حديث إلمامكم بأطلال مكتبة الجامع الأعظم بالقيروان وما رأيتم من كتب نخرة وأوراق بالية ترفرف عليها أغربة الفناء التي رفرفت على أمة أضاعتها بالتماس البركات، ولهت عنها بنسخ الأوراد ودلائل الخيرات. وإنا لا ننسى شكرَ
العناية التي أظهرها رجلٌ من بنيها، علم مقدارَها فحفظها للعلم الذي لا وطنَ له، على حين يضطهد علماؤنا الجامدون ويحقرون نابغي أمتهم إذا رأوهم يسافرون إلى أوروبا أو يعتنون بعلومها أو يطالبون بإصلاح مختلات أمورهم. فهذان مثالان يكفيان لحياتهم وموتنا، وتنورهم وظلمتنا.
تصلكم بطاقةُ عضوية الخلدونية لتمضوها باسمكم وترسلوها إلي (1). ورجائي أن يوجه لي جنابُكم رحلةَ إدوار بك إلياس (2)"مشاهد أوروبا وأمريكا" وجزء "فوات الوفيات".
وهذا شهر سبتمبر يزيدنا رجاء لقرب قدومكم سالمين إن شاء الله، وإليكم أطيب التحيات الزاكيات.
والسلام من ابنكم الطاهر بن عاشور
(1) أصبح الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور منذ سنة 1904 عضوًا في مجلس إدارة الجمعية الخلدونية التي أنشئت سنة 1896، وانتُخب نائبًا للرئيس سنة 1910.
(2)
إدوار (باشا) إلياس رحالة سوري الأصل، أرثوذكسي المذهب. استوطن مصرًا، وتقدم بها في الوظائف فصار مفتشًا في وزارة الداخلية. قام بعدة رحلات في العالم، ومما صنف في ذلك "مشاهد أوربا وأمريكا"، و"مشاهدات الممالك". توفي سنة 1341/ 1923.