الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الانتقاد من جهة لفظ البيت، فهو أنه قدم المفضَّلَ عليه على اسم التفضيل، وذلك لا يقع في كلام العرب إلا إذا كان المفضَّلُ عليه مستفهمًا عنه: نحو من أيهم أنت أكرم؟
وقد يوجّه البيت بتوجيه يدفع عنه كلا الانتقادين، وهو أن نجعل قولَه "ألست من الولدان" جملة مستقلة، ويكون الاستفهام إنكاريًّا داخلًا على نفي، وتكون "من" تبعيضية غير تفضيلية، أي: ما أنت إلا من الولدان. ونجعل قوله: "أحلى شمائلًا" جملة مستأنَفة مسوقةً مساقَ تغليط نفس القائل على سبيل الترقي، فكأنه يقول: بل أنت أحلى من الولدان شمائل. فتكون هذه الجملة في موقع بدل الغلط من الجملة التي قبلها التي اقتضت كونَه من الولدان بدون تفرق عليهم، فيندفع الانتقادان المعنوي واللفظي، ويكون التخيل في البيت من جهتين: جهة التغليط في التسوية، وجهة التعجب من سكنى القلب الذي هو الجحيم نفسه.
القرطاس الثالث:
قال أبو الطيب المتنبي من القصيدة البائية في مدح كافور الإخشيدي:
أَزُورُهُمْ وَسَوَادُ اللَّيْلِ يَشْفَعُ لِي
…
وَأَنْثَنِي وَبَيَاضُ الصُّبْحِ يُغْرِي بِي (1)
فعُدّ هذا البيت أميرَ شعر المتنبي، لما احتوى عليه من المعنى الرشيق المبتكر، ولحسن المقابلة بين جميع معاني ألفاظ المصراع الأول ومعاني ألفاظ المصراع الثاني، وهو ما يسمى في البديع بالمطابقة. فجمع في هذا البيت خمس مطابقات، وهو أعجب ما جمع من المطابقة: فالزيارة يقابلها الانثناء، والسواد يقابله البياض، والليل يقابله الصبح، والشفاعة يقابلها الإغراء، ومعنى اللام يقابله معنى الباء.
(1) البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 1، ص 290.
وقد حصلت المضادةُ بين معنى الحرفين تبعًا للمضادة الحاصلة بين متعلَّقيهما؛ لأن معنى الباء لا يضاد معنى اللام في نفسه، فالمضادة بين الحرفين هنا أضعف من المضادة التي في قوله تعالى:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].
فذُكر هذا البيت في مجلس المعتمد محمد بن عبّاد ملك إشبيلية وقرطبة من ملوك طوائف الأندلس، فقال: إن فيه نقدًا خفيًّا، ففكر أصحابُ المجلس في نقده، فلم يهتدوا إليه، فقال المعتمد: الليل لا يقابل إلا بالنهار ولا يقابل بالصبح؛ لأن الليل كلّي والصبح جزئي، فتعجب الحاضرون وأثنوا على تدقيق انتقاده. قال الصفدي:"ليس هذا بنقد صحيح، والصواب مع أبي الطيب؛ لأنه قال: أزورهم وسواد الليل يشفع لي، فهذا محبّ يزور أحبابه في سواد الليل خوفًا ممن يشي به، فإذا لاح الصبح أغرى به الوشاة ودلّ عليه أهل النميمة، والصبح أول ما يُغرَى به قبل النهار، وعادةُ الزائر المريب، أن يزور ليلًا وينصرف عند انفجار الصبح خوفًا من الرقباء، ولم تجر العادة أن الخائف يلبث إلى أن يتوضح النهار ويمتلئ الأفق نورًا، فذكر الصبح هنا أولى من ذكر النهار". (1) وكتب البدر (2) البشتكي الدمشقي: هو (أي ابن عباد) ما انتقد عليه المعنى، إنما انتقد عليه مطابقة الليل بالصبح، فإن ذلك فاسد" (3).
وأقول: نظر المعتمد إلى نقد صحة المضادة بين الليل والنهار بأنها غير مستقيمة في مقابلة الليل بالصبح؛ إذ الليل إنما يقابله النهار، وليس يريد انتقاده إذ لم يعبر بالنهار عوض الصبح؛ لأن المتنبي لو جاء بلفظ النهار لما استقام له إضافة البياض إليه؛ لأن ضوء النهار لا يسمى بياضًا، ولكن يسمى نورًا، بخلاف الصبح،
(1) المقري التلمساني، أحمد بن محمد: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس (بيروت: دار صادر، 1408/ 1988)، ج 4، ص 262.
(2)
هو بدر الدين محمد بن إبراهيم بن محمد البشتكي (بفتح الباء الموحدة وسكون الشين المعجمية)، الدمشقي، ثم المصري، المتوفَّى سنة 830 هـ. كان أديبًا عالِمًا، أخذ عن ابن نباتة وغيره. - المصنف.
(3)
المقري التلمساني: نفح الطيب، ج 4، ص 262.