الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الثاني: الحكومة والإسلام
الباب الثاني: الرسالة والحكم:
تكلم في صحائف 48 - 49 - 50 - 51 - 52 على أن النبي صلى الله عليه وسلم هل ثبت له وصفُ الملك مع الرسالة؟ وهل في هذا البحث حرج؟ وهل وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالملك أو عدم وصفه به يمس جوهر الإسلام أو يمس بالباحث في ذلك؟ وفرق بين مفهوم الرياسة ومفهوم الملك، وأثبت أن بعض الرسل لم يكونوا ملوكًا، إلخ.
وكل ذلك مُسَلَّمٌ لا نزاعَ فيه. وإننا إن نظرنا إلى المسميات فلا منافاةَ بين مُسمَّى الملك ومسمى الرسالة؛ إذ الملك عبارة عن تقلد أحد لأمر أمة يتولى شؤونها وسياستها وتنفيذ شريعتها بالرغبة والرهبة، وذلك مما ينفذ مقاصدَ الرسالة ويكمل خطتَها كما أشرنا إليه سابقًا من أن تعاضد الدين والدولة واجتماعهما في جهة واحدة أجلى مظاهر الدين وأنسبُ بشرفه الإلهي، فلا مانعَ من ثبوت مسمى الملكية لرسول أو نبي. وقد حكى القرآن عن سليمان عليه السلام قوله:{وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35].
غير أن لفظ الملك لما علق به منذ الأزمنة القديمة من عوارض الجبروت والترف واللهو عن الحقيقة والشغل بالسفاسف واستخدام القوة في الظلم والفساد في الأرض، صارت هاته الأوصافُ وتوابعها تسبق للأذهان عند سماع لفظ مُلْك ومَلِك، فلأجل ذلك تحاشى الناسُ عن وصفِ النبي صلى الله عليه وسلم بالملك أو بكونه ملكًا.
ويشهد لهذا ما وقع لأبي سفيان مع العباس بن عبد المطلب يوم أسلم قبيل يوم فتح مكة، ثم وقف مع العباس يشاهد كتائبَ جيش الفتح المبارك تمرّ بين يديه
وهو يسأل العباس عن كل كتيبة، والعباس يعرفه بقبائلها، فلما بهره ذلك المشهد قال للعباس:"قد أصبح ملك ابن أخيك عظيمًا"، فأنكر عليه العباس قوله "ملك"، وقال له:"إنما هي رسالة لا ملك". (1)
وقد كنتُ أسمع من رجل عظيم من أهل العلم والسياسة قدس الله روحه ينكر على ابن خلدون تحويمه في مواضع حول أن يعد عصر النبوة عصرًا ملكيًّا، ويعلل إنكارَه بأن وصف النبوة أعظمُ وأشمل من وصف رسخت له في نفوس الناس عوارضُ غيرُ محمودة صارت كاللوازم له.
ثم قال في صحائف 52 - 53 - 54: "إن دعوة الدين إلى الله بتحريك القلوب بوسائل الإقناع، فأما القوة والإكراه فلا يناسبان دعوةً غرضها هداية القلوب وما عرفنا في تاريخ الرسل رجلًا حمل الناس على الإيمان بحدّ السيف". ثم تلا آية الإكراه في الدين وغيرها، وقال:"وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وما نفهم منه إلا أنه كان في سبيل الملك، ولتكوين الحكومة الإسلامية، [ولا تقوم حكومة إلا على السيف وبحكم القهر والغلبة] ، فذلك هو سّر الجهاد"، ومثله الزكاة والجزية والغنائم، فذلك "خارجٌ عن وظيفة الرسالة من حيث هي، وبعيد عن عمل الرسل"، وكذلك توجيه الأمراء، إلخ.
وههنا قد ارتكب المؤلف ضروبًا من الخطأ: فأما زعمه أن الدعوة إلى الدين تنافي استعمالَ القوة والإكراه فمردود؛ لأن الدعوة للدين يُقصد منها حملُ الناس على صلاح أمرهم. فالابتداء بالدعوة ظاهر، ثم إنْ هم عاندوا وجحدوا ولم تقنعهم الدعوة والأدلة فلا جرم أن يكون استصلاحُهم هو القوة، كما يُحمل الصبي على
(1) ولفظ العباس كما ذكره ابن إسحاق: "يا أبا سفيان، إنها النبوة". ابن هشام: السيرة النبوية، ج 2/ 4، ص 37. وعند ابن سعد:"فقال [أبو سفيان]: يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمًا! فقال العباس: ويحك! أنه ليس بملك ولكنها نبوة! قال: نعم". كتاب الطبقات الكبير، ج 2، ص 126.
صلاحه بالتأديب، وكما يحمل أفراد الناس على الامتثال للشريعة بالرغبة والرهبة. وهذا لا يشك فيه عالم متشرع بل ولا عالم قانوني.
وإذا كان يدعي أن استعمال القوة ليس من توابع الرسالة وجعله تصرّفًا من النبي صلى الله عليه وسلم بصفة الملك، فهل يدعي أيضًا أن تعرض القرآن لذلك في نحو آية:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] هو أيضًا تصرف بالسياسة ولا يسعه إلا التزامُ ذلك، فإذًا يصير القرآن مع كونه كتابَ دين هو أيضًا دستورَ سياسة، وكفى بهذا خبطًا. فإن أصاب فأجاب بأن الشريعة والسياسة أخوان، وأنه لا يتم شرعٌ بدون امتزاج بالحكومة، فقد تالب إلى الحق، وعلم أن لا بدّ من الأمرين لصلاح الخلق.
لا جرم أن الله تعالى ذكر الجهاد في كتابه وسماه الجهاد في سبيل الله، فكيف يعده المؤلف من أمثلة الشؤون الملكية بعد أن أثبت الفرق بينها وبين أحوال الرسالة؟ ولقد تجاوز هذا الحد في صحيفة 54 فجعل أخذ الزكاة والجزية والغنائم من شؤون الحكومات خارجًا عن وظيفة الرسالة وبعيدًا عن أعمال الرسل باعتبار أنهم رسل فحسب.
وهذا كلام إن أراد به التفرقةَ بين مفهوم الرسالة المجردة والرسالة المقترنة بالسلطان فهو صحيح، لكنه لا فائدة فيه هنا. وإن أراد إثبات أنه غير الرسالة وأنه عمل حكومة وأنه قد اتفق في الوجود أن صار الملك رسولًا وصار الرسول ملكًا مع تنافي الصفتين، فسخافة ذلك لا تخفى لاقتضائها أن يكون الرسول قد يشتغل بالرسالة في أوقات ثمّ يتفرغ عنها إلى الاشتغال في أوقات أخرى بصناعة الملك. كيف والله تعالى يقول:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، ثم أنَّى يكون صحيحًا وهذا القرآن قد قرن الصلاة بالزكاة في كثير من آياته؟
ثم ذكر المؤلف في صحيفة 59 بحثًا في أن تأسيس النبي للمملكة الإسلامية هل يكون خارجًا عن حدود رسالته، وجوز أن يكون ذلك خارجًا عن حدود
الرسالة وأن القول به لا يكون كفرًا ولا إلحادًا، وتأوله بأنه مرادُ قول بعض الفرق بإنكار الخلافة في الإسلام، إلخ. ولقد أفصح هنا عن مقاربته اختيارَ قول غلاة الخوارج بعدم نصب الإمامة بين الناس؛ لأنه لا يلتئم مع ما قدمه من أن تأسيس الحكومة الإسلامية غيرُ داخل في مفهوم الدين الذي أُرسل لأجله النبي، حتى لا يلزم اقتفاءُ النبي فيما منع منه.
إلا أن الاستدلال ينقلب عليه بأن ما استدل به لنفسه وللخوارج هو عليهم لا لهم؛ لأنه إذا كان ذلك عملًا زائدًا على الرسالة فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم فإذا سلمنا أنه لكونه خارجًا عن حقيقة الرسالة لا يجب اتباعه شرعًا في كل زمان، فهل نمنع أن أحد الحالين هو الاقتفاء بالنبي فيما فعله؟ فإنه ما فعل إلا ما كان فيه الصلاح، فيكون تأسيسُ الحكومة من مقاصد الشارع. ثم إنه قال في صحيفة 55 إن هذا الرأي يراه بعيدًا.
ثم تعرض من صحيفة 56 إلى صحيفة 62 لكلام فرضه على وجه الاحتمال، فصرح بأن رأي الجمهور أن إقامة المملكة الإسلامية عملٌ متمم للرسالة وداخل فيها، غير أن العلماء أغفلوا اعتبارَ شرط التنفيذ في حقيقة الرسالة إلا ابن خلدون، وساق كلامه (1) بعد أن قدم في صحيفة 50 أن اعتبار النبي صلى الله عليه وسلم رسولًا وملكًا معًا هو رأي المسلم العامي، وهنا جعله رأيَ العلماء ولا سيما ابن خلدون.
(1) وكلام ابن خلدون الذي ذكر المصنف أن الشيخ علي عبد الرازق استشهد به هو قوله: "اعلم أن الملة لا بد لها من قائم عند غيبة النبي يحملهم على أحكامها وشرائعها، ويكون كالخليفة فيهم للنبي فيما جاء به من التكاليف. والنوع الإنساني أيضًا، بما تقدم من ضرورة السياسة فيهم للاجتماع البشري، لا بد لهم من شخص يحملهم على مصالحهم ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر، وهو المسمى بالملك. والملة الإسلامية لما كان الجهاد فيها مشروعًا لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الإسلام طوعًا أو كرهًا، اتُّخِذت فيها الخلافةُ والملكُ لتوجه الشوكة من القائمين بها إليهما معًا، وأما ما سوى الملة الإسلامية، فلم تكن دعوتُهم عامة، ولا الجهادُ عندهم مشروعًا إلا في المدافعة فقط، فصار القائمُ بأمر الدين فيها لا يغنيه شيءٌ من سياسة الملك، وإنما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرض =