الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَتَغَنَّى إِذَا خَلَا بِاسْمِكِ الحَقِّ
…
وَيَكْنِيكِ فِي العِدَى "أمَّ وَهْبِ"(1)
وهذه سنةٌ غرامية سلكها كثيرٌ من الشعراء المحبين.
ديوان بشار:
إن طرائقَ الرواة في جمع الدواوين مختلفة: فمنهم من يبعثه ولعُه بالشاعر أو بانتقاده إلى مصاحبته في حياته ورواية شعره عنه، فيجمع كلَّ ما يصدرُ عنه من الشعر. وهذه الطريقة أَدْعَى وأثبتُ للصحة، وهي التي نشاهدها كثيرًا في دواوين الشعر المكللة طوالعها بسلسلة رواتها. وبمثل هذه الطريقة جُمع شعر كثير من الشعراء الذين لا يكتبون، مثل العجّاج وجرير وذي الرمة، وبها أيضًا جمع ديوان أبي الطيب المتنبي بما رواه ابن جني والصاحب بن عباد والحاتمي والثعالبي وخلق كثير.
ومنهم من يجمع الديوان من أوراق الشاعر وتقييداته، وهذه طريقة يختلف حالها في استقصاء الجمع على حسب اختلاف أحوال شعرائها في الاهتمام بتقييد آثارهم الشعرية بالانتخاب في التقييد أو بالتعميم، وتفاوتهم في حسن الضبط وانتظامه ووجود أعوان لهم على الكتابة. وبمثل هذه الطريقة جُمعتْ دواوين المتأخرين، وبمثلها جُمع ديوان المعرِّي المسمى بسِقْط الزَّنْد ولزومياته. وقد كان شعر المتنبي مجموعًا عنده، فلما قتلتْه الأعراب تلاشت أوراقه في جملة ما في رحاله، وقد رام ابنُه التقاطها من مصرعه بعد أيام من قتله، فكانت محاولته هذه سببًا في اعتداء أعداء أبيه عليه في موضع مصرع أبيه، على أن الواحدي في آخر شرحه لشعر المتنبي قال:"هذا آخر ما اشتمل عليه ديوانه الذي جمعه بنفسه". (2)
(1) ديوان بشار بن برد، ج 1/ 1، ص 291. والبيت من قصيدة من بحر الخفيف قالها بشار في إحدى محبوباته كناها بأم وهب.
(2)
سيأتي التعليق على هذا الكلام بعد قليل.
ومنهم مَنْ تخطر له العناية بجمع شعر أحد الشعراء بعد انقراض عصر ذلك الشاعر، فيذهب يستخلص ما يجده من شعره من أفواه الرواة وأوراق التقاييد والمختارات، ومن كتب اللغة وشواهد النحو والبلاغة. وبمثلها جُمعت دواوينُ شعراء الجاهلية وما قاربها من صدر الإسلام، مثل امرئ القيس وزهير والأعشى وحسّان والشَّمَّاخ. وبمثلها جمع أبو تمام ديوان الحماسة، وأبو الفرج الأصفهاني فيما تضمنه كتاب الأغاني. وهذه الطريقةُ أبعدُ الطرق عن الاستيعاب، وعن المحافظة على ترتيب أبيات القصائد، وعن (1) تحقيق اتحاد الأبيات الكائنة من بحر واحد وقافية واحدة في أنها من قصيدة واحدة.
وطريقةُ جمع شعر بشار كانت مزيجًا من الطريقتين الأولى والثانية؛ فإن عناية الناس بشعر بشار في حياته كانت تغريهم على الاستكثار من حفظه وتقييده. وقد كان له رواةٌ يروون شعره كما أسلفته في المقدمة، وكان مع ذلك فقْدُ بصره مانعًا له من التقييد، فكان يعتمد على حافظته أو على مَنْ يكتب له، كما أن ما في طبعه من الانغماس في اللهو والاستهتار بمحاسن النساء والشراب يصرفه عن شدة اليقظة لحفظِ أوراقه وقماطيره. فلا ريب في أن ذلك كان سببًا قويًّا لتلاشي معظمها، ولكن المحقق أن كثيرًا منها كان محفوظًا في أوراق الناس ومحفوظاتهم. وقد حدثنا الرواةُ لأخباره أنه لمَّا قُتل فُتِّشتْ أوراقُه وتقاييده، ووُجد بها شعرٌ له، ووجد منها بيتان في هجو آل سليمان لم يعرفهما الناسُ في حياته (2).
(1) في الأصل: على، والصحيح ما أثبتناه.
(2)
والبيتان هما:
دِينَارُ آلِ سُلَيْمَانٍ وَدِرْهَمُهُمْ
…
كَالبَابِلَيَّيْنِ حُفَّا بِالعَفَارِيتِ
لَا يُبْصَرَانِ وَلَا يُرْجَى لِقَاؤُهُمَا
…
كَمَا سَمِعْتَ بِهَارُوتٍ وَمَارُوتِ
الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 249 (نشرة القاهرة)؛ كتاب الأغاني، ج 3، ص 719 (نشرة الحسين).
وإن عُقْبَى هذه الطريقة في الجمع باديةٌ على الموجود من ديوانه؛ فإنك ترى قصائده موعبة طويلة دالة على تمكن جامعها من وسائل جمعها. ونجد من جهة أخرى كثيرًا منها غير واضح الترتيب، ولا تام الأغراض، ولا جامعًا لكل ما يرويه الرواة من تلك القصائد؛ إذ نجد أبياتًا من قصائد منثورةً في كتب الأدب، وقد عرى عنها ديوانُ شعره، ونجد ما يرويه أئمة الأدب أنه من قصيدة واحدة تارة موزَّعًا بين قصيدتين، كما في القصيدة التي أولها:"طَرِبتَ إلى حوضَى وأنت طروب" في الورقة 30، فإن أبياتًا منها ذُكرت مفردةً في آخر الورقة 28.
وقد اتفق الرواة على أن لبشار ديوانًا عظيمًا، وأنه أكثرُ الشعراء شعرًا، قال الحُصري في زهر الآداب:"قال بشار: أنا أشعر الناس؛ لأن لي اثنيْ عشر ألفَ قصيدة، فلو اختِيرَ من كل قصيدة بيتٌ لاستُنْدر، ومَنْ نَدرت له اثنا عشر ألفَ بيتٍ فهو أشعر الناس". (1) وقد كان شعرُ بشار مجتمعًا عقب موت بشار، ففي الموشح للمرزباني عن عمر بن شَبَّة (2) أنه قرأ شعر بشار على محمد بن بشار بن برد (3).
ومع شهرة بشار ورغبة الناس في شعره في كل عصر، فقد كان ديوانُه عزيزَ الوجود يُنزَّل منزلة المفقود، ويوصف بأنه مفقود منذ العصور القديمة. فقد قال عنه ابن النديم في الفهرست:"ولم يجتمع شعره لأحد، ولا احتوى عليه ديوان. فقد رأيتُ منه نحو ألف ورقة منقطع، وقد اختار شعره جماعة"(4).
لكنا نجزم بأن ديوانه، وإن كان عزيزَ الوجود، لم يكن مفقودًا، فقد ذكر أبو هلال العسكري في ديوان المعاني أن محمد بن حبيب - وهو من أهل القرن الثالث -
(1) انظر ص 13 جزء 3 طرة العقد الفريد. - المصنف. الحُصري القيرواني: زهر الآداب، ج 1، ص 381 - 382.
(2)
المرزباني: الموشح، ص 331.
(3)
انظر ص 292 ترجمة عباس بن الأحنف. - المصنف. المرزباني: الموشح، ص 331.
(4)
انظر ص 227. - المصنف. ابن النديم: الفهرست، ص 195.
له روايةٌ في شعر بشار (1). وذكر الشهاب الخفاجي - وهو من أهل القرن الحادي عشر - في شرحه على "درة الغواص" للحريري - عند الكلام على لفظ المشورة - أنه نقل أبياتَ بشار في المشورة من ديوانه، إذ قال ما نصُّه بعد أن ذكر قولَه:
إِذَا بَلَغَ الرَّأْيُ المَشورَةَ فَاسْتَعِنْ
…
بِرَأْيِ لَبِيبٍ أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ
"هذا بيتٌ من نتفة له، كما طالعتُه في ديوانه وهي برمتها. . . . إلخ"(2).
وقال بعضُ المطلعين من علماء العصر (3): "إن ديوان بشار لا يُعرف أنَّ أحدًا ذكره بعد القرن السابع للهجرة". وقال الأستاذ زيدان في كتاب تاريخ آداب اللغة العربية: "وليس منها (أي قصائد بشار) الآن إلا نتفٌ متفرقة في كتب الأدب، وليس لبشار ديوانُ شعر مجموع"(4).
(1) انظر [العسكري، أبو هلال: ديوان المعاني، نشرة عن نسخة الشيخين محمد عبده ومحمد محمود الشنقيطي (القاهرة: مكتبة القدسي، 1353 هـ)]، ص 56 جزء 2. - المصنف. العسكري، : ديوان المعاني، نشرة بسج، ص 405.
(2)
الخفاجي، قاضي القضاة أحمد شهاب الدين: شرح درة الغواص في أوهام الخواص للحريري (قسطنطينية: مطبعة الجوائب، ط 1، 1299 هـ)، ص 43.
(3)
هو العلامة الأستاذ كرنكو - الملقب بسالم الكرنكوي المستشرق الشهير ببلاد الإنجليز - في مكتوب كتبه إليَّ في هذا الغرض. - المصنف. وهو فريدرش كرنكوف Friedrich krenkow، ولد سنة 1872 م في مدينة شنبرج بشمالي ألمانيا. تعلم عدة لغات من بينها الفارسية. وفي عام 1892 م انتقل إلى برلين حيث التقى المستشرق ساخاو، وبعد سنوات ارتحل إلى بريطانيا وتجنس بجنسيتها، وهناك أنشأ مصنعًا للملابس في مدينة ليستر، واتصل بالمستشرق سير تشارلز ليل الذي حثه على تعلم العربية والفارسية. حقق كرنكو عددًا من المخطوطات، لا سيما بعد اتصاله بدائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند. اعتنق الإسلام، واختار لنفسه اسم محمد سالم، وأصبح يُعرف بسالم الكَرَنْكُوي. وقد انتخب عضوًا في المجمع العلمي العربي بدمشق. من أشهر الأعمال التي حققها ونشرها: الأصمعيات بشرح ابن السكيت، وديوان أبي دهبل الجمحي، وكتاب الجيم لأبي عمرو الشيباني، وكتاب المجتنى من المجتبى لابن دريد، وكتاب التيجان في تواريخ ملوك حمير، ومعجم الشعراء للمرزباني. وكانت بينه وبين المصنف مراسلات علمية. (انظر مثلًا ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4، ص 56 - 57). توُفِّيَ سنة 1953 م.
(4)
زيدان، جرجي: تاريخ آداب اللغة العربية، طبعة جديد راجعها وعلق عليها شوقي ضيف (القاهرة: دار الهلال، بدون تاريخ)، ج 2، ص 56.
وإن أكبرَ دليل على عزة وجود ديوانه هو قلةُ المطلعين على عينه، وذلك سببُ ما نراه في كتب المحاضرات والمختارات والمعاني والبديع من قلة التعرض لأبيات بشار، وندرة الزيادة على بيت مفرد أو بيتين، مع التكثر من إنشاد أشعار الشعراء، ومع التنافس في الظفر بشيء من شعر بشار في الأغراض المختلفة، ومع ما لبشار من الشعر في كل غرض.
وإن أكثرَ دواوين الأدب جمعًا لشعر بشار هو كتاب الأغاني، فإنه جمع له في الأجزاء الثالث والخامس والسادس والسابع والثالث عشر ما يبلغ ستمائة بيت. وكذلك كتاب المختار من مختار شعر بشار للخالديين الذي انتقاه وشرحه أبو الطاهر إسماعيل بن أحمد التجيبي القيرواني من أهل القرن الخامس في منتصفه. وقد كان كتابُه مجهولًا، فنشره الشيخ السيد محمد بدر الدين العلوي من أهل عليكرة بالهند، فإنه جمع من مختار شعر بشار نحو ثلاثمائة وثلاثين بيتًا. وقد لاحظتَ أن ديوانه كان أروجَ في بيت مفرد أو بيتين منه، ثم ترى ذلك أخذ يقِلُّ من كتبهم بمقدار تزايد العصور (1)، وتراه بين أهل المشرق أشيعَ منه في بلاد المغرب.
وإن تلاشي ديوانه أو عزة وجوده لَمِمَّا يدعو إلى العجب، وكيف أضاعه المولَعون بأفانين الأدب مع تنافسهم في تحلية مختاراتهم ومحاضراتهم بمختارات منه؟
ولقد يتطلب المتفكر في هذا سببًا لتلاشى الديوان من أيدي أهل الأدب، فيخال أن ما رُمي به من الزندقة هو الذي صرف الناسَ عن الاهتمام بشعره. وهذا خيال باطل؛ إذ لم ينصرف الناس عن رواية شعره والعناية به في أقوى العصور نفورًا من الزندقة، وهو عصر المهدي العباسي وما يليه كما تقدم، على أنهم لم ينصرفوا عن العناية بشعر أبي نواس والأخطل وصالح بن عبد القدوس.
(1) لعل الأولى أن يقال: تقادم أو توالي العصور.
ورُبَّما تخيل متخيِّلٌ أن ما لصق ببشار من وشاياتٍ عند أهل الدولة في خلافة المهدي هو الذي أحجم بالناسِ عن إظهار العناية بشعره. وهذا التخيل مثل التخيل السابق؛ لأنا نرى أشدَّ العصور في العناية بشعره هو ذلك العصر بعينه. على أنهم لم يُحجموا عن رواية شعر أبي عطاء السندي في الدولة العباسية، وهو من شيعة بني أمية، ولا عن شعر السيد الحميري وهو من شيعة العلويين، ولا عن شعر الفرزدق في الدولة الأموية وهو من شيعة العلويين.
أما أنا فأعلل تلاشيَ ديوان بشار بسبب أنه أولُ المُولَّدين الذين كانوا على طريقة العرب المتقدمين في العناية بفصاحة الكلام وحسن التعبير عن المعاني بأسلوب عربي، حسبما قدمته في ذكر حديثه مع أبي عمرو بن العلاء (1) وخلف الأحمر في قصيدته التي طالعها:"بكّرَا صاحبيّ قبل الهجير". فزها شعره، وتناقلته الرواة وأعجبوا به أيام كان الذوق العربي لم يزل ماؤه يترقرق في النفوس، وأيام كان القرب من أساليب العرب موضع إعجاب المتأدبين. وقد وجد فيه كلُّ ذي نزعة من الشعر رغبتَه وطِلبته: فمِنْ علماء البلاغة وأئمة المعاني وأساطين المفسرين، إلى الشعراء وأهل المجون والخلاعة والدعارة. وذلك ما لم يدانِه فيه أحدٌ من الشعراء عدا الحسن بن هانئ أبا نواس الحَكَمي. فلذلك وجدوا في شعر بشار غُنية عمن سبقه، فعكف الناسُ عليه، وصرفوا كلَّ همهم إليه.
فلما ضعفت الملكةُ العربية في أذواق المتأدبين في أواخر الدولة العباسية، وأولع الأدباءُ بالمحسنات اللفظية واللطائف المعنوية، ثقل عليهم الشعر الفحل والمذهب الجَزْل، فأنساهم إياه ولعُهم بالمذهب الأدبي الجديد، كما أنساهم شعرَ مثل طَرَفَة وزُهير ولَبيد. فتوزع الشعراء معانِيَ بشارٍ بالسرقة والتصرف، وصوغه في
(1) في الأصل "خلف بن أبي عمرو بن العلاء"، والصواب ما أثبتناه، وقد تقدم ذكرُ هذه القصة وتوثيقها.
قوالب لفظية تناسب أذواقَ عصورهم، وأقبل الناسُ على شعر أبي تمام والبحتري زمانًا. وقد ذكروا أن أبا الطيب كان يحفظ ديوانَيْ أبي تمام والبحتري ويجحدهما (1).
على أن ظهورَ ديوان أبي الطيب المتنبي وإقبالَ أهل الأدب عليه من نواح كثيرة قد كانت له يدٌ قوية في التعفية على دواوين الشعراء الذين قبله، مثل بشار وابن الرومي ومهيار وأبي العتاهية وأبي تمام وغيرهم من المكثرين. وقد قال الواحدي في ديباجة شرحه لديوان أبي الطيب:"وإن الناس منذ عصر قديم قد ولّوا جميعَ الأشعار صفحة الإعراض، مقتصرين على شعر أبي الطيب المتنبي، نائين عما يُرْوى لسواه، وإن فاته وجاوز في الإحسان مداه". (2) وقال في خاتمة الشرح: "إن ما دعانِي إلى تصنيف هذا الكتاب هو اجتماعُ أهل العصر قاطبة على هذا الديوان، وشغفُهم بحفظه وروايته، وانقطاعُهم عن جميع أشعار العرب جاهليًّا وإسلاميًّا إلى هذا الشعر، واقتصارهم عليه في تمثلهم، ومحاضراتهم، وخطبهم، ومقاماتهم، حتى كأنّ الأشعارَ كلها فُقدت". (3)
(1) ذكر الأصفهاني نقلًا عن أبي الطيب اللغوي الحلبي (المتوفَّى سنة 351 من الهجرة) أنه "قيل للمتنبي: معنى بيتك هذا أخذته من قول الطائي. فأجاب المتنبي: الشعر جادة، وربما وقع حافرٌ على حافر. وكان المتنبي يحفظ ديواني الطائيين [أبي تمام والبحتري]، ويستصحبهما في أسفاره، ويجحدهما. فلما قُتل تُوُزِّعتْ دفاترُه، فوقع ديوان البحتري إلى بعض من درس عليَّ وذكر أنه رأى خطَّ المتنبي وتصحيحَه فيه". الأصفهاني، أبو القاسم عبد الله بن عبد الرحمن: الواضح في مشكلات شعر المتنبي ويليه سرقات المتنبي ومشكل معانيه، تحقيق الأستاذ الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (القاهرة: دار السلام، 1430/ 2009)، ص 10.
(2)
ديتريصي، فريديخ: ديوان أبي الطيب المتنبي وفي اثناء متنه شرح الإمام العلامة الواحدي (برلين: مطبعة ميتلر، 1861)، ص 3.
(3)
لم أجد هذه العبارة في نشرة برلين التي تهيأ لي الاطلاع عليها، والتي تنتهي بقول الواحدي في شرح بيت المتنبي:
حَيِيٌّ مِنْ إِلَهِي أَنْ يَرَانِي
…
وَقَدْ فَارَقْتُ دَارَكَ وَاصْطَفَاكَا
"والمعنى ما قاله (يقصد ابن جني)، فالرواية الصحيحة بفتح الطا". ولعل المصنف اعتمد في هذا النقل على نسخ غير التي بين يدي. وهذا البيت هو الأخير من قصيدة هي آخر شعر قاله المتنبي =
وهذا السبب هو الذي لأجله أعرض معظمُ المتأدبين عن شعر شعراء الجاهلية، ولولا الحاجة إليه من ناحية الاحتجاج للغة العربية والنحو والبلاغة لمُني شعر الجاهلية بمثل ما مُني به شعر بشار من الإعراض عنه والزهادة فيه. فتلاشي شعرِ بشار قد توارد عليه من هذه العلة سببان للتلاشى هما: زهد المتأدبين وهو مفضٍ إلى التلاشى غير مقصود به، وكثرةُ السارقين وهو نشأ عن قلة تداوله بين الناس.
والسرقةُ مما يتعمّد معها الإتلاف، فإن السرقة تُحدث ضراوةً في نفس صاحبها بتعمد إخفاء سرقته بكل وسيلة، فإذا علم قلةَ أصول ما أخذ منه سرقاتِه عمد إلى اضمحلالها، فقد يصادف أن يضمحل كلُّه بمصادفة آخر نسخة منه، وقد تنجو نسخةٌ ضئيلة أو أوراقٌ قليلة.
ذكر أبو الفرج الأصفهاني في ترجمة سَلْم الخاسر أنه أنشد الرشيدَ قصيدتَه التي أولها: "حضر الرحيلُ وشُدّتْ الأحداجُ"، فلما انتهى إلى قوله:
نَزَلَتْ نُجُومُ اللَّيْلِ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ
…
وَلِكُلِّ قَوْمٍ كَوْكَبٌ وَهَّاجُ
قال جعفر بن يحيى البرمكي - وكان يكره سَلْمًا -: "أمن قلةٍ حتى تمدح أمير المؤمنين بشعر قيل في غيره؟ هذا البيت لبشار في فلان التميمي، فقال الرشيد: ما تقول يا سلم؟ فقال: صدق يا سيدي، وهل أنا إلا جزءٌ من محاسن بشار، وهل أَنْطِق إلا بفضل منطقه! وحياتك يا سيدي إني لأروِي له تسعةَ آلاف بيت ما يعرف أحدٌ غيري منها شيئًا، فضحك الرشيد وقال: ما أحسن الصدق! "(1)
= يمدح أبا شجاع عضد الدولة ويودعه في أول شعبان سنة 354 هـ (وهي السنة التي فيها قتل)، وطالعها:"فِدًا لَكَ مَنْ يُقَصِّرُ عَنْ مَدَاكَا". البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج 3، ص 122 - 134.
(1)
كتاب الأغاني، ج 19، ص 286 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 7/ 19، ص 199 (نشرة الحسين).
وذكر أبو الطاهر التجيبي في شرح مختار المختار (1) أن سلمًا وأبا نواس وداود بن رزين وغيرهم كانوا يصبون على قوالب معاني بشار، وربما نبه بعضُهم على بعض في الأخذ منه واتباع طريقته، قال أبو نواس في داود بن رزين:
إِذَا أَنْشَدَ دَاوُدُ
…
فَقُلْ أَحْسَنَ بَشَّارُ
لَهُ مِنْ شِعْرِهِ الجَمِّ
…
إِذَا مَا شَاءَ أَشْعَارُ
وَمَا مِنْهَا لَهُ شَيْءٌ
…
أَلَا هَذَا هُوَ العَارُ (2)
وذكر يوسف البديعي في كتاب "الصبح المنبِي" عن علي الجرجاني أن البحتري أحرق خمسمائة ديوان للشعراء حسدًا لئلا تشتهر أشعارُهم (3). وغيرُ بعيدٍ عندي أن يكون ديوانُ بشار في جملة ما أحرق البحتري؛ لأن شعر البحتري يشبه لهجةَ شعر بشار في طريقة انسجامه وفصاحته.
وقد عز ديوان بشار في أنحاء العالم فيما علمنا وعلمه النقابون عن المآثر الأدبية العربية من علماء الشرق والغرب، فلا يُلفَى من شعره إلا قصائدُ قليلة
(1) انظر صفحة 47. - المصنف. انظر: التُّجيبي البرقي، أبو الطاهر إسماعيل بن أحمد بن زيادة الله: المختار من شعر بشار (اختيار الخالديين) وشرحه، اعتنى به السيد محمد بدر الدين العلوي (القاهرة: مطبعة الاعتماد لصاحبها محمود الخضري، 1353 هـ)، ص 47 - 48.
(2)
ديوان أبي نواس، ص 338.
(3)
ونص كلام الجرجاني: "وأظنك قد سمعت أو انتهى إليك أن البحتري أسقط خمسمائة شاعر في عصره، فما يؤمنني من وقوع بعض أشعارهم إلى غيري؟ " الجرجاني: الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص 140. ومن هنا أرى من المناسب جلب كلام البديعي الذي بناه على كلام الجرجاني لما فيه من دلالة:"وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز أن البحتري على ما بلغه أحرق خمس مئة ديوان للشعراء في أيامه حسدًا لهم لئلا تشتهر أشعارُهم، وتُنشر محاسنهم وأخبارُهم. فمن أين لهؤلاء المتعصبين للمتنبي أنه سبق جماعتهم في مضماره، ولم يقتبس من بعضها محاسن أشعاره؟ وهل للذين يتدينون بنصرته بصائرُ بحسن المأخذ، ولطف المتناوَل، وجودة السرقة، ووجوه النقل، وإخفاء طرق السلب، وتغميض مواضع القلب، وتغيير الصنعة والترتيب، وإبدال البعيد بالقريب، وإتعاب الخاطر في التثقيف والتهذيب، حتى يدَّعوا علمَ الغيب في تنزيهه عن السرقات التي لا تَخفى صورُها على ناقد، وتبرئته عن المعايب التي يشهد عليه بها ألفُ شاهد؟ " البديعي: الصبح المنبي، ص 185.
مبتورة منثورة في مجاميع الأدب، أو مقاطيع، أو مفردات. وأكثرها هو ما في الأغاني للأصفهاني: في الأجزاء الثالث والخامس والسابع والثالث عشر، وبعضها في أمالي الشريف المرتضى الموسوي. وما عدا ذلك فهو أوزاعٌ في كتب الأدب، ولم يزل المتأدبون عالة عليها وهم المتعطشون إلى ما يشفي الغلة ويملأ العين زائدًا على جمع القلة، ولذلك لقبوا ديوانَ بشار بحلقة الأدب المفقودة.
وقد انتدب الأديب الفاضل الورّاق السيد أحمد حسنين القرني المصري - صاحب المكتبة العربية بالقاهرة - إلى التقاط ما هو متناثر من شعر بشار، وضمه قي كتيّب في زهاء مائة صفحة، سماه:"بشار بن برد: شعره وأخباره". ورتب ما انتهى إليه جمعه على حروف المعجم، وحلّى طوالعَه بالرمز إلى الأغراض التي قيلت فيها أشعاره بيانًا لطيفًا، اعتماده في جمعه على ما هو في الجزئين الثالث والثالث عشر من كتاب الأغاني، على أنه لم يبين مستنداته فيما جمعه، وطبع الكتاب بمطبعة الشباب بمصر سنة 1343 هـ.
ثم قفاه الأديب الأستاذ حسين منصور المصري بتأليف سماه "بشار بن برد بين الجد والمجون"، بسط فيه أخبارَ بشار ونوادرَه، ورصَّعها بما قاله في مناسباتها من الشعر، وما قاله معاصروه في مساجلاته أو هجائه، فجاء جامعًا لمعظم ما هو منشور من شعر بشار في أوراق الأدب. ولم يبين مستنداتِه في منقولاته، وكان حقًّا عليه أن يبين مراجعه. وطبع بالمطبعة الرحمانية بمصر سنة 1348 بدون فهارس. ثم هو خلَّط تخليطًا كثيرًا في ضم بعض الأبيات إلى غيرها، اغترارًا بكونها من بحرٍ واحد وقافية واحدة، وربما اعتمد على مجرد كونها من قافية واحدة فقط. على أن معاني بعضها كثيرًا ما تجدها تبرأ من معاني ما ضُم إليه، وما كان ينبغي له الاجتراء على هذا الصنيع بدون سند.
وهذا مثلُ تخليطه الأبياتِ التي على قافية الراء المضمومة من بحر الطويل في صفحة 39 وصفحة 40، وضمه بيتًا على قافية النون المكسورة إلى أبيات من قافية النون المضمومة على ما بين غرضيهما من منافاة واضحة في صفحة 38، وأبيات على
القاف المكسورة إلى أبيات على القاف المضمومة في صفحة 215. وربما تجاوز إلى خلط أبيات من بحور مختلفة، كما خلط في صفحة 252 قوله:
وَالآنَ أَقْصَرَ عَنْ سُمَيَّةَ بَاطِلي
…
وَأَشَارَ بِالوَجَلَى عَلَيَّ مُشِيرُ (1)
وهو من بحر الكامل بأبيات هي من بحر الطويل أولها:
وَمُرْتَجَّةِ الأَرْدَافِ مَهْضُومَةِ الحَشَا
…
تَمُورُ بِسِحْرٍ عَيْنُهَا وَتَدَورُ (2)
(1) كذا في رواية أبي الفرج الأصفهاني، وقد أورده في سياق ذكر أبيات قيل إن الأخفش طعن فيها على بشار. كتاب الأغاني، ج 3، ص 209 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 691. وقد نبه المصنف إلى عدم صحة هذه الرواية للبيت، وأورد البيت على النحو الآتي:
فَالآنَ أُقْصرُ عَنْ شَتِيمَةِ بَاطِلٍ
…
وَأَشَارَ بِالوَجَلَى إلَيَّ مُشِيرُ
ثم علق عليه بقوله: "ورواه في نسخة الأغاني: فَالآنَ أَقْصَرَ عَنْ سُمَيَّةَ بَاطِلي، وكذلك تناقلته كتب الأدب. والصواب ما في الديوان، والآخر تحريف لا محالة إذ لا ذكر لسمية في شعر بشار. والوَجَلى مصدرٌ صاغه على وزن فَعَلى وفيه ما مر في قوله: الغَزَلى، فانظره في البيت 3 من ورقة. . . وهو مشتق من الوَجَل، أراد به التقوى، أي نصحنِي ناصحٌ بالخوف من الله، أو أراد أنه لما أقصر عن الشتيمة لمزه من يلمزه". ديوان بشار بن برد، ج 2/ 3، ص 266 (الحاشية رقم 1). والبيت من قصيدة من بحر الكامل، وهي تشتمل على أربعة وخمسين بيتًا قالها بشار في هجاء حماد عجرد وأنصاره وفي الفخر بنفسه. أما ما أشار إليه المصنف من بيان لوجه اشتقاق لفظة "الوجلى"، فقد جاء في تعليقه على البيت الآتي (وهو من قصيدة همزية في اثنين وثلاثين بيتًا من بحر الوافر قالها بشار في أبي سلمة ابن قيس المكي):
على الغَزَلَى سَلَامُ الله مِنّي
…
وَإِنْ صَنَعَ الخَلِيفَةُ مَا يَشَاءُ
حيث قال: "الغَزَلَى: مصدر غَزَل يَغْزِلُ (كضرب) غزْلًا وغَزَلَا بالتحريك، إذا مزح مع النساء حبًّا لهن وذكر محاسنهن. ولعله مشتق من الغَزَل؛ لأن المحب إذا تحبب إلى النساء فهو كمن يغزل غزلًا لينسج به. ونظيره قولهم: يفتل منه في الذروة والغارب. وبشار صاغه بوزن الفعلى، وهو غير معدود في المصادر على وزن فعلى. وقد ذكر سيبويه في كتابه باب المصادر التي في آخرها حرف تأنيث فلم يذكر فيه فعلى، وإنما ذكروا جَمَزى وبشكى ومرطى، أنواع من سير الإبل. . ." ديوان بشار بن برد، ج 1/ 1، ص 130 (الحاشية رقم 1).
(2)
البيت من مقطوعة من خمسة أبيات من بحر الطويل، أنشدها الحصري القيرواني: زهر الآداب، ج 1، ص 381؛ ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4 (الملحقات)، ص 92.
وكما خلط في صفحة 253 قوله:
وَإِذَا قُلْتُ لَهَا جُودِي لَنَا
…
خَرَجَتْ بِالصَّمْتِ عَنْ لَا وَنَعَمْ (1)
وهو من بحر الرمل بأبيات من بحر المتقارب أولها:
وَبَيْضَاءَ يَضْحَكُ مَاءُ الشَّبَا
…
بِ فِي وَجْهِهَا لَكَ إِذْ تَبْتَسِمْ (2)
وكما ضم في صفحة 73 بيتًا من البسيط وهو قوله:
أَنَا المُرَعَّثُ لَا أَخْفَى عَلَى أَحَدٍ
…
ذرَّتْ بِيَ الشَّمْسُ لِلْقَاصِي وَلِلدَّانِي (3)
إلى أبيات من بحر الكامل أولها:
إنْ أُمْسِ مُنْقَبِضَ اليَدَيْنِ عَنِ النَّدَى
…
وَعِن العَدُوِّ مُخَيَّسَ الشَّيْطَانِ (4)
(1) البيت من مقطوعة من خمسة أبيات. الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 151 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 652 (نشرة الحسين)؛ ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4، ص 187 - 188.
(2)
البيت من قصيدة من ثلاثين بيتًا من بحر المتقارب، قالها بشار في مدح عُمر بن العلاء الذي ولاه المنصور على طبرستان سنة 162، وكان ذا رأي وحكمة. ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4 (الملحقات)، ص 178 - 183؛ الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج 3، ص 164 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 660؛ (نشرة الحسين) (أورد منها سبعة أبيات فقط دون البيت المذكور)؛ التجيبي: المختار من شعر بشار، ص 77 - 78 (أورد منها ثلاثة عشر بيتًا فقط بما في ذلك البيت محل البحث)؛ الحصري القيرواني: زهر الآداب، ج 1، ص 382 (أنشد منها خمسة أبيات فقط). وقد جاءت في البيت عبارة "أو يبتسم" بدل "إذ تبتسم" في شرح التجيبي. المختار من شعر بشار، ص 77.
(3)
الخطيب التبريزي: شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 170؛ ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4 (الملحقات)، ص 236.
(4)
البيت من مقطوعة من سبعة أبيات هناك اختلاف في رواية قالها بشار مغضبًا استقلالًا لما وصله به سليمان بن هشام بن عبد الملك لمدح بشار إياه. وقد روي بألفاظ مختلفة (وما هنا هو رواية الأصفهاني، وقد جاء في الديوان لفظ "الغِنى" بدل "الندى"، كما جاء في أمالي المرتضى "منْشَنِج اليدين" بدل "مُنْقَبِضَ اليَدَيْنِ"، وهذا الأخير أفصح، كما قرر المصنف). كتاب الأغاني، ج 3، ص 218 (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج 1/ 3، ص 698 (نشرة الحسين)؛ الشريف المرتضى: غرر الفوائد ودرر القلائد، ج 1، ص 481؛ ديوان بشار بن برد، ج 2/ 4 (الملحقات)، ص 225.
وهو مع ذلك قد استوعب ما يتعلق بحوادث بشار، وذكر شعرًا كثيرًا منه.
وفي أواخر عام 1353 ظهر كتاب اسمه: "مختار المختار من شعر بشار"، اختاره الأديب أبو الطاهر إسماعيل التجيبي القيرواني مما اختاره الأديبان الأخوان أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد الخالديان الموصليان، وشرح له لأبي الطاهر إسماعيل التجيبي القيرواني. نشره وعلق عليه العلامة السيد محمد بدر الدين العلوي الهندي - معلم العربية في جامعة عليكرة - بإعانة المستشرق الأستاذ كرونكو والعلامة الشيخ عبد العزيز الميمني (1)، وذلك في أواسط سنة 1353، وقد طبع بمطبعة الاعتماد بمصر.
(1) هو عبد العزيز الميمني الراجكوتي، نسبة إلى بلدة راجكوت، وهي تقع في إقليم كاتهيا دار (التي تعرف الآن باسم سوراشترا على الساحل الغربي للهند). ولد سنة 1306/ 1888، ونشأ في بيت عريق في التجارة. التحق عبد العزيز الميمني بالكتاب، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ثم استكمل دراسته العالية في "لكهنو" و"رامبور" و"دهلي"، والتقى بشيوخ وعلماء كثيرين، ونال الإجازة منهم. شغف الميمني بالعربية، فتعمق فيها، وعكف على الشعر العربي قراءة وحفظًا، حتى إنه حفظ ما يزيد على سبعين ألف بيت من الشعر القديم، وكان يحفظ ديوان المتنبي كاملا. بدأ حياته بالكلية الإسلامية ببيشاور، حيث درس العربية والفارسية، ثم انتقل منها إلى الكلية الشرقية بمدينة لاهور عاصمة إقليم البنجاب. ثم استقر بالجامعة الإسلامية في عليكرة، وظل يتدرج بها في المناصب العلمية حتى عين رئيسًا للأدب العربي بالجامعة، ومكث بها حتى أحيل إلى التقاعد. وعندما دعته جامعة كراتشي بباكستان ليتولى رئاسة القسم العربي بها لبَّى الدعوة، وأسندت إليه مناصب علمية أخرى، فتولى إدارة معهد الدراسات الإسلامية لمعارف باكستان، وظل يعمل في هذه الجامعة حتى وفاته. كان الميمني واسع الثقافة العربية، وأتاح له دأبه الشديد في مطالعة خزائن الهند أن يقف على النوادر منها، وأن يتحف المكتبة العربية بما تيسر له تحقيقه وطبعه منها. ولم تشف خزائن الكتب في الهند ظمأه العلمي، فاتجه إلى البلاد العربية وتركيا سنة 1354/ 1936 بحثًا عن المخطوطات، ووقف على نوادر كثيرة منها، فطاف بخزائن إستانبول وزار مكتباتها التي تضم أكبر مجموعة خطية من التراث العربي. وزار القاهرة وتوثقت صلته بعلمائها، واتصل بلجنة التأليف والترجمة والنشر التي كان يرأسها الأديب الكبير أحمد أمين. كما زار سوريا، واستعانت به وزارة الثقافة بدمشق للاستفادة من خبرته في مجال المخطوطات. وكان المجمع العلمي العربي بدمشق قد اختاره عضوًا مراسلًا به في سنة 1347/ 1928 وهو في الأربعين من عمره تقديرًا لنبوغه المبكر، ومعرفته العميقة بالعربية وآدابها، وظل في المجمع =
إلا أن ناشرَ الكتاب يظنه كتابَ المختار للخالديين، ويظن أن التجيبي شرح ذلك الكتاب. وليس الأمرُ كما ظن؛ فإن الكتاب الذي نشره هو مختار المختار، وهو ما اختاره إسماعيل التجيبي من مختار الخالديين وشرحه، وضم إليه ما عثر عليه من شعره، حسبما يُفصح عن ذلك كلامُه في أواخر الشرح صفحة 341 وكلامُه في صفحة 201 (1).
وقد كان من منن الله تعالى أن اشتملتْ خزانةُ كتبي على جزء عظيم من ديوان بشار، ويظهر أنه نصفُ الديوان، يبتدئ من أوله وينتهي أثناء حرف الراء، قال في آخره:"تم الجزء الأول من ديوان شار، ويتلوه الجزء الثاني منه "ذكرت والشوق لمن تذكرا"، يشتمل على قوافي: الهمزة، والألف، والباء، والتاء، والثاء، والجيم، والحاء، والدال، ومعظم الراء، وقصائده ومقاطيعه مائتان وخمس وخمسون، وفيه من الأبيات ستة آلاف وستمائة وثمانية وعشرون بيتًا، باعتبار أبيات الرجز مشطورةً بناءً على المشهور عند العرب، وأوراقه مائتان وخمس وسبعون ورقة بصفحات 550. ويوجد في
= أكثر من خمسين عامًا حافلة بالعطاء. وقد امتد به العمر حتى بلغ التسعين، وهو موفور النشاط إلى أن توفِّي في يوم الجمعة 26 من ذي القعدة 1398/ 27 أكتوبر 1978. تركز إنتاج الميمني حول التراث اللغوي والأدبي للعربية تعريفًا به وتحقيقًا له، وبلغ تعداده أكثر من عشرين سفرًا، منها: "ديوان حميد بن ثور الهلالي"، "ديوان سحيم عبد بني الحسحاس"، "الوحشيات" أو الحماسة الصغرى لأبي تمام، "الفاضل في اللغة والأدب" لأبي العباس المبرد، "أبو العلاء وما إليه، فائت شعر أبي العلاء"، "نسب عدنان وقحطان" لأبي العباس المبرد، "المنقوص والممدود للفراء" و"التنبيهات على أغاليط الرواة" لعلي بن حمزة (نشرا في سلسلة ذخائر العرب التي تصدرها دار المعارف بالقاهرة). ومن تآليفه النافعة كتاب "إقليد الخزانة"، وهو فهرس للكتب الواردة في خزانة الأدب لعبد القادر البغدادي. وقد جمعت مقالاته وبحوثه في اللغة والأدب بعد وفاته في مجلدين بعنوان "بحوث وتحقيقات".
(1)
يشير المصنف إلى قول التجيبي: "ومما اخترته من شعر بشار بيتان يصف فيهما هَنَه وهما. . . فهممت أن أسقطهما تنزهًا عن الرفث"، وقوله:"قال إسماعيل بن أحمد بن زيادة الله: إلى هنا انتهى اختيارنا فيما وجدناه من المختار من شعر بشار من صنعة الخالديين، والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرا". المختار من شعر بشار، ص 201 و 341 (على التوالي).
الورقة الأخيرة منه رقم حروف مقطعة فرق مطة وتحتها رقم 279، والمظنون أنه عدد أوراقه، وأنه قد تلاشى من أوراقه 4 أوراق، فلعلها من أثناء حرف الباء.
وهو بخط مصري عتيق لم يؤرخه ناسخُه، وصورةُ كتابته ترجع إلى أسلوب أواخر القرن السادس. وكتب على الورقة الأُولَى منه بخط كوفي بالمداد الأسود:"ديوان بشار بن برد". وأُدير حول هذا العنوان تزويقٌ بالذهب واللَّازَوَرْد، وتحته كتابة بالذهب بالخط المسمى بقلم الرِّقَاع نصها:"خدمة المملوك القوي المصري الكتبي". وهو مكتوبٌ على ورق عتيق فاختي اللون، والمظنون أن عبد القوي هذا هو ناسخه.
وكان هذا الجزء من كتب الحاج مصطفى صدقي من أهل المشرق في سنة 1129، وعلامةُ كتبه توجد على كثير من الكتب النفيسة: منها عدد 4899 وعدد 4534 وعدد 4543 من كتب خزانة جامع الزيتونة. وهذه العلامة هي ختم شكله إهليجي في حجم ظُفر الإبهام الكبيرة، مكتوب فيه:"من متملكات الفقير الحاج مصطفى صدقي غفر له سنة 1129". وختم آخر صغير مستدير في حجم العدسة الكبيرة، مكتوب فيه ما نصه:"من متملكات الفقير"، مكتوب فيه بالخط الكوفي:"ما شاء الله لا قوة إلا بالله"، يضع هذا أعلى الختم الذي فيه اسمه. والختم الكبير في هذا الديوان مطموس، استدللتُ عليه بالختم الصغير. وقد وجدت بخط العلامة الأديب الشيخ عمر المحجوب قاضي حضرة تونس ما يدل على أنه اشترى كتبًا سماها في عام 1214. وقد وقع بيدي بعضُ تلك الكتب، فإذا عليه ختم الحاج مصطفى صدقي (1).
(1) وهذا الجزء اقتناه جدي للأم الوزير الشيخ سيدي عبد العزيز بوعتور بثمن قدره في وقت اقتنائه - الذي هو في حدود سنة خمس وثمانين ومائتين - ألف وأربعة ريال تونسية فضة، وذلك قدر عظيم أيامئذٍ، فكان من جملة خزانة كتبه التي وهبها إياي جزاه الله عني أحسن الجزاء. - المصنف. جاء هذا التعليق في المتن، ورأينا وضعه في الحاشية أولَى.
والديوان يظهر أن أصلَ جمعه وقع بقرب زمان المهدي العباسي؛ لأن جامع الديوان يذكر في أوائل القصائد التي مدحه بشار بها ثناءً ودعاء لأمير المؤمنين المهدي من نوع ما تحلّى به الخلفاء في حياتهم، كقوله:"وقال الإمام المهدي القائم بأمر الله أمير المؤمنين رضي الله عنه"، انظر ورقة 265. ولم يذكر الأغراض التي فيها القصائد إلا نادرًا.
والظاهر أنه مجموع من رواية يحيى بن الجَون العبدي المعدود من رواة بشار، إذ قد وقع في الورقة 107 من الديوان ما نصه:"وقال أيضًا، ويقال لأبي همام الباهلي، زعم يحيى بن الجون".
وهذه النسخة يظهر أنها نُقلت عن أصل صحيح، إلا أن خطه غير واضح تمام الوضوح. ويظهر أن ناسخَها تثبَّت غايةَ جهده ومبلغَ علمه، إلا أنه لم يكن له حظٌّ قويٌّ في اللغة والأدب العربي، فلذلك كان يوقع تحريفًا ولحنًا في غريب الألفاظ، فيكتبها على مبلغ علمه وما يسبق إلى فهمه من صور الألفاظ الغريبة. وقد أخطأ في ضبط الكلمات خطأ يدل على ضعفه في النحو، وفي كثير من الأخطاء ما يوقع حيرة للناظر، فالله يسامحه ويرحمه.
ولولا ممارستي لأدب العرب والشعور بمآخذ بشار ومراميه في شعره لعسر عليَّ إصلاحُ كثير من تلك الأغلاط. وقد يترك في البيت موضعُ كلمة أو أكثر بياضًا، وهو ملازم لوضع نقطتين تحت الإمالة، وكثيرًا ما يكتب بالألف ما حقُّه أن يُكتب إمالة والعكس. وهذا الجزء يشتمل على ستة آلاف وستمائة وثمانية وعشرين بيتًا، باعتبار عد أشطار الرجز، منها نيفٌ وعشرون بيتًا مكررة متفرقة.
وقد كنتُ منذ سنين طويلة عزمت على نشر هذا المقدار من الديوان، ورأيت أن ألحق به ما وجدتُه فيما طالعته من كتب الأدب مما نُسب إلى بشار، فجمعت ذلك، فتحصل لي من ملحقات الديوان ما يقارب ألف بيت، وأفردت تلك الملحقات بجزء، وأشرت إلى مستندي في نسبة تلك الملحقات إلى بشار.