الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو الفرار إليه: أي الفرار مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا، إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا: فرار من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى ذكر الله، فمن استكمل هذه الأمور فقد استكمل الدين كله، وقد زال عنه المرهوب، وحصل له نهاية المراد والمطلوب، وسمى الله الرجوع إليه فرارًا؛ لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب، والأمن والسرور، والسعادة، والفوز، فيفرُّ العبد من قضائه، وقدره، إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه فررت منه إلا الله تعالى، فإنه بحسب الخوف منه يكون الفرار إليه)) (1).
ولشدة خوف النبي صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل بكى في سجود صلاة الكسوف فينبغي الاقتداء به عليه الصلاة والسلام (2).
2 - استحضار ما رآه النبي من الأمور العظيمة في صلاة الكسوف
؛ فإن ذلك يثمر الخوف من الله عز وجل، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف: الجنة والنار، وهمَّ أن يأخذ عنقودًا من الجنة فيريهم إياه، ورأى بعض عذاب أهل النار، فرأى: امرأة تعذب في هِرَّة، ورأى عمرو بن مالك بن لُحي يجرّ أمعاءه في النار وكان أول من غيّر دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ورأى فيها سارق الحاج يعذب، ورأى أكثر أهل النار النساء بكفرهن لإحسان العشير، وأُوحي إليه أن الناس يفتنون في قبورهم، ورأى فيها سارق بدنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك. فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين خطب الناس بعد صلاة الكسوف:((يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا)). وفي رواية: ((ثم أمرهم أن يتعوذوا من
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص812.
(2)
النسائي، كتاب الكسوف، باب القول في سجود صلاة الكسوف، برقم 1495، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 480.
عذاب القبر)).
وفي رواية: ((لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وُعِدْتُهُ حتى لقد رأيت أُريد أن آخذ قطفًا من الجنة حين رأيتموني جعلتُ أتقدم، ولقد رأيت جهنم يَحْطِمُ بعضُها بعضًا، حينما رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها عمرو بن لُحيّ، وهو الذي سيَّب السوائب)) (1). وفي رواية: ((ورأيت عمرًا يجر قُصْبَهُ (2) وهو أول من سيَّب السوائب)) (3).
وفي حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد أن صلى صلاة الكسوف: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله))، قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئًا في مقامك ثم رأيناك تكعكعت؟ (4) قال صلى الله عليه وسلم: ((إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودًا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أرَ منظرًا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء)) قالوا: بِمَ يا رسول الله؟ قال: ((بكفرهن)) قيل: يكفرن بالله؟ قال: ((يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كلَّه، ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط)) (5).
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بعد أن صلى صلاة الكسوف: ((ما من شيء لم أكن أُريته إلا [وقد] رأيته في مقامي
(1) السوائب: جمع سائبة، وهي الناقة التي كانوا يسيبونها من إبلهم، فلا تُركب ولا تحُلب، ولا يُؤكل لحمها، جامع الأصول، لابن الأثير، 165.
(2)
قُصْبَهُ: القصب: واحد الأقصاب وهو أمعاء. جامع الأصول لابن الأثير، 6/ 169.
(3)
متفق عليه: البخاري، كتاب الكسوف، باب الصدقة في الكسوف، برقم 1044، والرواية الثانية من باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف، برقم 1050، والرواية الثالثة من كتاب العمل في الصلاة، باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة، برقم 1212، والرواية الرابعة من كتاب التفسير، برقم 4624، ومسلم، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، برقم 901.
(4)
تكعكعت: المشي إلى وراء، وقيل: التوقف والاحتباس، جامع الأصول لابن الأثير، 6/ 176.
(5)
متفق عليه: البخاري، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف جماعة، برقم1052، ومسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، برقم 907.
هذا، حتى الجنة والنار، وإنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبًا من فتنة المسيح الدجال، يُؤتى أحدكم فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما ((المؤمن)) أو قال ((الموقن)) فيقال: ما علمك بهذا؟ فيقول: هو رسول الله، هو محمد صلى الله عليه وسلم، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا وأجبنا، واتبعنا، وصدقنا، فيقال له: نَمْ صالحًا قد كنا نعلم أنك كنت لمؤمنًا به، وأما المنافق أو قال المرتاب شك هشام فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلتُهُ)) (1)، وفي لفظ لمسلم عن عائشة رضي الله عنها ترفعه: ((إني قد رأيتكم تفتنون في القبور كفتنة الدجال
…
)) قالت عائشة: ((فكنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يتعوَّذ من عذاب النار وعذاب القبر)) (2)، قال الإمام النووي رحمه الله:((فيه إثبات عذاب القبر، وفتنته، وهو مذهب أهل الحق، ومعنى: تفتنون: تمتحنون، فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فيقول المؤمن هو رسول الله، ويقول المنافق: سمعت الناس يقولون شيئًا فقلت، هكذا جاء مفسرًا في الصحيح، وقوله: ((كفتنة الدجال)) أي فتنة شديدة جدًا، وامتحانًا هائلاً، ولكن يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت)) (3).
وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يرفعه: ((
…
وعرضت عليّ النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)) (4)، وفي رواية: ((
…
وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجرُّ قُصْبَهُ في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه،
(1) البخاري، كتاب الكسوف، باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف، برقم 1053، وكتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد، برقم 922.
(2)
مسلم، كتاب الكسوف، باب ذكر عذاب القبر في صلاة الخسوف، برقم 903.
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 459.
(4)
خشاش الأرض: هوامها وحشراتها، وقيل: صغار الطير، شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 461.