الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع والثلاثون: صلاة الجنائز
أولاً: مفهوم الجنائز:
بفتح الجيم لا غير: جمع جِنَازة.
والجنازة: بكسر الجيم وفتحها لغتان، والكسر أفصح.
وقيل: ((الجَنَازَةُ)) بالفتح للميت، وبالكسر ((الجِنازةُ)) للنعش عليه ميت. وقيل: عكسه (1).
قال الإمام ابن الأثير: ((والجنائز بالكسر والفتح: الميت بسريره، وقيل: بالكسر: السرير، وبالفتح: الميت)) (2).
وقال الفيروزآبادي: ((الجِنَازةُ: الميت، ويفتح، أو بالكسر: الميت وبالفتح: السرير، أو عكسه، أو بالكسر: السرير مع الميت)) (3)، والله تعالى أعلم (4).
قال الإمام النووي رحمه الله: ((الجنازة مشتقة من جنز إذا سُتِرَ)) (5).
ثانياً: اغتنام الأوقات والأحوال بالأعمال الصالحة قبل فوات الأوان
؛ لقول الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ*أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ*أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً
(1) شرح النووي على صحيح مسلم،6/ 473،والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، 4/ 379.
(2)
النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، باب الجيم مع النون، 1/ 306.
(3)
القاموس المحيط، باب الزاي فصل الجيم، ص650.
(4)
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ((
…
فإذا قيل: جَنازة: أي ميت، وإذا قيل: جِنازة: أي نعش، وهذا تفريق دقيق؛ لأن الفتح يناسب الأعلى، والميت فوق النعش، والكسر يناسب الأسفل، والنعش تحت الميت)) الشرح الممتع، 5/ 298.
(5)
شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 473.
فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (1).
فكل مفرّط يندم عند الاحتضار يسأل طول المدة ولو شيئاً يسيراً، ليستعتب ويستدرك ما فاته، وهيهات كان ما كان، وأتى ما هو آتٍ، وكلٌّ بحسب تفريطه، أما الكفار فكما قال الله تعالى (4):{وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مّن قَبْلُ مَا لَكُم مّن زَوَالٍ} (5).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) (7). وهذا يدل على أن من لم يستعمل نعمة الصحة والفراغ فيما ينبغي فقد غُبِنَ؛ لكونه باعهما بثمن بخس،
(1) سورة الزمر، الآيات: 54 - 58.
(2)
سورة البقرة، الآية:254.
(3)
سورة المنافقون، الآيات: 9 - 11.
(4)
تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص1349.
(5)
سورة إبراهيم، الآية:44.
(6)
سورة المؤمنون، الآيتان: 99 - 100.
(7)
البخاري، كتاب الرقاق، باب ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة، برقم 6412.
ولم يحمد رأيه في ذلك، ولاشك أن المرء لا يكون فارغاً حتى يكون مكفياً صحيح البدن، فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يُغبَن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شُكْرِه امتثالُ أوامره واجتنابُ نواهيه، فمن فرَّط في ذلك فهو المغبون، والذي يوفَّق لذلك قليل من الناس، ومعلوم أن الإنسان قد يكون صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك: أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل:
يسر الفتى طولُ السلامة والبقا
…
فكيف ترى طول السلامة يفعل
يُرد الفتى بعد اعتدال وصحةٍ
…
ينوء إذا رام القيامَ ويحملُ (1)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابَك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغِناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) (2).
ورحم الله الإمام البخاري فقد أحسن حين قال:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع
…
فعسى أن يكون موتك بغتة
(1) مقتبس من مجموع كلام ابن حجر، وابن بطال، وابن الجوزي، كما نقله ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري، 11/ 230.
(2)
الحاكم وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، 4/ 306، ورواه ابن المبارك في الزهد، 1/ 104،برقم 2،من حديث عمرو بن ميمون مرسلاً، وقال ابن حجر في فتح الباري، 11/ 235:((بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون، فمرسل عمرو بن ميمون شاهد لرواية الحاكم))، وصحح الحديث الألباني في صحيح الجامع الصغير، 2/ 355، برقم 1088.
كم صحيح رأيت من غير سَقم ٍ
…
ذهبت نفسه الصحيحة فلتة (1)
وقد أحسن البستي رحمه الله حين قال:
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته
…
أتطلب الربح فيما فيه خسران؟
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
…
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان (2)
ولا ريب أنه ينبغي الاستعداد لما بعد الموت بالأعمال الصالحة، والتوبة من جميع الذنوب؛ لأن الموت قد يأتي بغتة، قال الإمام البخاري رحمه الله:((بابُ موتِ الفُجاءة (3): البغتة))، ثم ذكر حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم:((إن أمي افتُلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدَّقتْ، فهل لها أجر إن تصدَّقتُ عنها؟ قال: ((نعم)) (4).
وعن عبيد بن خالد السلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((موت الفَجْأَةِ أخذةُ أسَفٍ (5))) (6).
وكره بعض السلف موت الفجأة (7)؛ لما في ذلك - والله أعلم - من
(1) ذكره ابن حجر في هدي الساري، ص481، وعزاه إلى الحاكم في تاريخه، وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، 2/ 392.
(2)
النونية لشاعر زمانه: علي بن محمد بن الحسين البُسْتي، وهي مطبوعة ضمن الجامع للمتون العلمية، للشيخ عبد الله بن محمد الشمراني، ص623.
(3)
الفُجاءَة: يُقال: فجئَه الأمرُ، فجأه فُجاءة: بالضم والمد، وفاجأه مفاجأة إذا جاءه بغتة من غير تقدم سبب، وقيّده بعضهم بفتح الفاء وسكون الجيم من غير مدٍّ على المرة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 3/ 412،والفجاءة: الهجوم على من لم يشعر به. فتح الباري لابن حجر، 3/ 254.
(4)
متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب موت الفُجاءة، برقم 1388، ومسلم، كتاب الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، برقم 1004.
(5)
أسَفٍ: أي غضب، قال ابن حجر في الفتح، 3/ 254:((أسف: أي غضب، وزناً ومعنى، وروي بوزن الفاعل: أي غضبان. قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث، 1/ 48: ((وفي حديث موت الفجأة: ((راحة للمؤمن وأخذة أسفٍ للكافر)) أي أخذة غضب أو غضبان، يقال: أسِفَ يأسفُ أسفاً فهو آسِفٌ، إذا غضب)). فعلى هذا يكون بكسر السين غضبان، وفتحها غضب.
(6)
أبو داود، كتاب الجنائز، باب موت الفجأة، برقم 3110، وأحمد في المسند، برقم 15496، 15497، 17924، 17925، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 277، وأصحاب موسوعة مسند الإمام أحمد، 24/ 253، 29/ 445.
(7)
انظر: فتح الباري، لابن حجر، 3/ 254، والسنن الكبرى للبيهقي، 3/ 378، 379، ومصنف ابن أبي شيبة، 3/ 370، ومصنف عبد الرزاق، برقم 6779 موقوف على حذيفة رضي الله عنه.
خوف حرمان الوصية، وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة، وغيرها من الأعمال الصالحة، وقد نقلت كراهة موت الفجاءة عن الإمام أحمد، وبعض الشافعية، ونقل الإمام النووي: أن جماعة من الأنبياء والصالحين ماتوا موت الفجأة؛ قال الإمام النووي رحمه الله: ((وهو محبوب للمراقبين)) (1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وبذلك يجتمع القولان)) (2).
وورد ما يؤيد عدم كراهة موت الفجاءة للمؤمن، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:((موت الفجاءة تخفيف على المؤمن، وأسف على الكافر)) هذا لفظ عبد الرزاق، والطبراني في المعجم الكبير، ولفظ ابن أبي شيبة:((موت الفجاءة راحة على المؤمنين، وأسف على الكفار)) (3).
ورُوي من حديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موت الفجأة؟ فقال: ((راحة للمؤمن وأخذة أسَفٍ للفاجر)) (4).
وعن عبد الله بن مسعود وعائشة رضي الله عنهما قالا: ((موت الفجاءة رأفة بالمؤمن، وأسف على الفاجر)) (5).
وما أحسن ما استشهد به الإمام البيهقي رحمه الله في كتاب الجنائز، باب موت الفجاءة (6) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) فتح الباري لابن حجر، 3/ 245، ونقل ذلك في هذا الموضع عن النووي رحمه الله.
(2)
فتح الباري، لابن حجر، 3/ 255.
(3)
عبد الرزاق في المصنف، برقم 6776، وابن أبي شيبة في المصنف، عن بعض أصحاب عبد الله عنه، 3/ 369 - 370، والطبراني في الكبير، 9/ 175، برقم 8865، ولم أجد من حسّن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وتوقف عنه ابن باز في تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم 388، وقال:((يُبحث عنه)).
(4)
أحمد في المسند، 41/ 491، برقم 25042، والبيهقي، 3/ 379، وفي شعب الإيمان، برقم 10218، وعبد الرزاق، برقم 6781، وضعفه أصحاب موسوعة المسند في 24/ 254،
و41/ 491، برقم 25042، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 2/ 218:((رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه قصة، وفيه عبد الله بن الوليد الرصافي وهو متروك)).
(5)
ابن أبي شيبة في المصنف، 3/ 370، وهو هنا موقوف، والبيهقي في الكبرى، 3/ 379 موقوف أيضاً، ويراجع كلام أهل موسوعة مسند الإمام أحمد، 41/ 491 - 492.
(6)
السنن الكبرى، 3/ 379.
مُرَّ عليه بجنازة فقال: ((مستريح ومستراح منه)) قالوا: يا رسول الله! ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: ((العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد، والبلاد، والشجر، والدواب)) (1).
وثبت في الحديث: ((ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد؛ لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى)) (2).
فينبغي الاستعداد، قال شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله:((فينبغي الاستعداد؛ ولهذا كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءَةِ نقمتك، وجميع سخطك (3))) (4).
وما أجمل ما قاله محمود الوراق:
مضى أمسُك الماضي شهيداً مُعدَّلاً
…
وأعقبه يوم عليك جديد
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة
…
فثنّ بإحسانٍ وأنت حميد
فيومك إن أعتَبتَه عاد نَفعُه
…
عليك وماضي الأمس ليس يعودُ
ولا تُرجِ فِعلَ الخير يوماً إلى غدٍ
…
لعلَّ غداً يأتي وأنت فقيدُ (5)
وقال آخر:
نسير إلى الآجال في كل لحظةٍ
…
وأيامنا تطوى وهُنَّ مراحل
(1) مسلم، كتاب الجنائز، باب ما جاء في مستريح ومستراح منه، برقم 950.
(2)
متفق عليه: البخاري، كتاب الجهاد، باب الحور العين وصفتهن، برقم 2795، ومسلم، كتاب الإمارة باب فضل الشهادة في سبيل الله، برقم 1877،وفي لفظ للبخاري:((يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة)) البخاري، برقم 2817.
(3)
مسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، برقم 2739.
(4)
سمعته أثناء تقريره على باب موت الفجاءة في صحيح البخاري، الحديث رقم 1388.
(5)
ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، 2/ 392.