الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبالجملة فالسماع من شبه الدين التي يتعين على من أستبرأ لدينه وعرضه التبرؤ منها، وهو من حيث صورته يشبه الباطل، فيترجح تركه، وقد صنف الناس فيه نفيا وثبوتا، ولم يختلفوا في فساده إذا اقترنت به أمور فاسدة، بحضور النساء وسماعهن أصوات الرجال، وحضور الآلات والشبان الحسان وإن أمنت الفتنة، لأنه يحرك ما في القلوب، والغالب على النفوس الشر، فلذلك قال صاحب (الأمر المحكم المربوط فيما يلزم الشيخ والمريد من الشروط) (1): إن السماع في هذا الزمان لا يقول به مسلم ولا يقتدى بشيخ يقول بالسماع ولا يعمل به، وقال الشيخ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: ليمس السماع من التصوف بالأصالة ولا بالعرض، وقال السهروردي: هو من رخص المذهب وهو أحرى بالصواب، وقد تقدم من كلام ابن العريف: لم يكن اجتماعهم إلا لمسألة تفتح أو نفس بالعبادة تسمح.
قلت: وقد تدعو الضرورة للسماع بغلبة حال أو وارد، فيجب الاقتصار على قدره بعد تحقق الضرورة، والذكر في ذلك أولى من القصائد والأزجال، لا سيما المحتملة، فأما الصريحة في الشر، كذكر القدود والخدود والخمور والشعور فتجنبها واجب ولا حديث معها، وبالله التوفيق.
…
89 - فصل
فيما يصنع من عرض له السماع
ونحوه بطريق الابتلاء أو الحاجة إليه، وهي خمسة أمور
.
أولها: تصحيح النية في القصد بعد تحقق الموجب بوجه لا يشك فيه، وذلك بأن يدفعه حتى يغلبه الحال، ويتوقف فيه حتى يعلم الاضطرار إليه.
(1) من مؤلفات محيي الدين عربي كما في فهرس مؤلفاته في كتاب الدراية في أعلام بجاية.
الثاني: مراعاة شروطه وآدابه في الزمان والمكان والإخوان والقيام بحقوق الإسلام والإيمان والإحسان، فقد قيل للجنيد: كنت تسمع فلم تركت؟ فقال: ممن (1)؟ قيل له: من الله، قال: فع من؟ فالسماع عورة لا تبدى إلا مع حر كريم، وإنما عورته بما يبدو فيه حال السكر، كما قيل:
وصن سرنا في سكرنا عن حسودنا
…
وإن أنكرت عيناك شيئا فسامحنا
فإنا إذا غبنا وطابت نفوسنا
…
وخامرنا خمر الغرام تهتكنا
ولا تلم السكران في حال سكره
…
فقد رفع التكليف في سكرنا عنا
رفع التكليف لفقدان التمييز، وقد قال بعض العلماء: لا يجوز لمن يعلم من نفسه ذلك، الإقدام عليه، لوجوب حفظ العقول.
الثالث: الفرار منه والتقليل، لما يقع فيه من الغلط والضرر، فقد قال النصراباذي (2) لابن نجيد (3) رحمهما الله: مجلس السماع خير من أن تغتاب الناس، فقال ابن نجيد: زلة في السماع شر من أن تغتاب الناس كذا كذا سنة انتهى، وإنه لصحيح مليح، لأن السماع حمى الصدق، وعلة الورع، ومفتاح الفتنة كيفما كان، وهو نقص كله، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
الرابع: أن تعتبر الصدق والحقيقة في مواجيده ومواريثه (4)، فكل مجلس سماع لا يظهر أثره على سامعه في دينه وقلبه من يومه فهو عليه لا له، وكذا كل وارد.
(1) في خ وت 1: فمن، وعبارة الجنيد في عوارف المعارف بهامش الإحياء 2/ 255: قيل للجنيد: كنت تسمع، فقال: مع من؟ قيل له: تسمع لنفسك، فقال: ممن؟ وقوله: ممن يقصد أنه لما فقد من بسماعهم تتحسن أحواله ترك، إذ ليس كل أحد يسمع منه.
(2)
أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصراباذي، شيخ خراسان في وقته، كان عالما بالحديث (ت 369) الرسالة القشيرية 293.
(3)
أبو عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي جد أبي عبد الرحمن السلمي لأمه، صحب أبا عثمان الحيري، كان من أكابر مشايخ وقته (ت 366 هـ) طبقات الصوفية 454 والرسالة القشيرية 291.
(4)
أي: ما يورثه ويكسبه لصاحبه من الورع والدين.