الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - فصل
في موازين البدعة
.
وهي ثلاثة:
الميزان الأول: أن ينظر في الأمر المحدث، فيما له مستند شرعي بوجه شامل محيط هو جملة الشريعة ومعظمها، فإن كان هذا الأمر مما شهد له معظم الشريعة وأصلها وذمتها، فليس ببدعة، وإن كان مما يأباه ذلك بكل وجه، فهو باطل ضلال مبتدع إلحاد (إن كان)(1) في جانب الاعتقاد ونحوه، وإن كان مما تراجعت فيه الأدلة، وتناولته الشبهة، واستوت فيه الوجوه، اعتبرت وجوهه، فما ترجح فيه من ذلك رجع إليه.
الميزان الثاني: اعتبار قواعد الأئمة وملف الأمة العاملين بطريق السنة، فما خالفها بكل وجه فلا عبرة به، وما وافق أصولهم فهو حق، وإن اختلفوا فيه فرعا وأصلا فكل يتبع أصله ودليله، وقد عرف من قواعدهم أن ما عمل به السلف وتبعهم الخلف لا يصح أن يكونوا قد أحدثوه من عند أنفسهم، لعصمة الإجماع، كما في الحديث (2)، فلا يصح أن يكون بدعة ولا مذموما، وما تركوه بكل وجه واضح لا يصح أن يكون سنة ولا محمودا، وما أثبتوا أصله ولم يرد عنهم فعله، فقال مالك (ض): هو بدعة، لأنهم لم يتركوه إلا لأمر عندهم فيه، فإنهم كانوا أحرص على الخير وأعلم بالسنة، وهو مقتضى قول ابن مسعود (ض)، إذ قال لقوم رآهم يذكرون جماعة:(تالله لقد جئتم ببدعة ظلما، ولقد فقتم أصحاب محمد (ص) علما) (3)، ذكره ابن
(1) في ق فقط.
(2)
حديث ابن عمر عن النبي (ص): "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة" خرجه الترمذي رقم 2167 وقال: غريب من هذا الوجه، والأحاديث الدالة على عصمة الإجماع وحجيته لا تخلو من مقال، ولكن يعضد بعضها بعضا.
(3)
"كانوا يقعدون في المسجد من المغرب إلى العشاء يسبحون" والأثر خرجه عبد الرزاق في المصنف 3/ 221، وفي سنده انقطاع ورواه من طريق آخر صححها الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 181، وانظر المعجم الكبير للطبراني 9/ 125.
الحاج (1) في المدخل فانظره، وقال الشافعي (ض): كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة وإن لم يعمل به السلف، لأن تركهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أو لما هو أفضل منه، أو لعله لو بلغ جميعهم عمل به، والأحكام مأخوذة من الشارع وقد أثبته، نعم، واختلفوا أيضا فيما لم يرد في السنة له معارض ولا مثبت هل هو بدعة؟ وقاله مالك، أو ليس ببدعة؟ وقاله الشافعي، مستندا لحديث:"ما تركته لكم فهو عفو"(2) ذكره ابن الحاج في باب الذكر، والله أعلم.
وعلى هذا اختلافهم في حزب الإدارة (3) والذكر بالجمع والجهر، والدعاء كذلك (4) إذ ورد في الحديث الترغيب فيه ولم يرد عن السلف
(1) هو محمد بن محمد أبو عبد الله العبدري الفاسي، فقيه بمذهب مالك صاحب المدخل (ت 737) الديباج المذهب 327.
(2)
خرجه البزار، وقال: إسناده صالح، والحاكم، وقال هو والذهبي: صحيح، انظر مختصر زوائد سنن البزار 2/ 93، والمستدرك 2/ 375.
(3)
حزب الإدارة أن يجتمع القوم فيقرؤون في السورة الواحدة جماعة، كرهه مالك وقال: لم يكن هذا من عمل الناس، وكره كذلك قراءة الذين يجتمعون ويقرؤون سورة واحدة يقرأها كل واحد حتى يختمها على إثر صاحبه، أما لو قرأ أحدهم منها آيات، ثم قرأ الآخر على إثره، لم يكن به بأس عنده، لأنه يعرض بعضهم على بعض، وهو جائز، انظر الحوادث والبدع ص 312.
وفي المعيار 1/ 155 و8/ 249، أن ابن لب والقابسي سئلا عن قراءة حزب القرآن في الجماعة، فأجابا: أن قراءة الحزب في الجماعة لم يكرهها أحد إلا مالك، على عادته في إيثار الاتباع، وجمهور العلماء على جوازها، لما جاء في الصحيح:"ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده"، مسلم 4/ 2074.
(4)
تعرض المؤلف لمسألة الجهر بالذكر في كتابه قواعد التصوف، وبسط الأدلة عليها، ومما قاله هناك: فأما الذكر فدليله: "من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه"، قيل:
ومن أدلته: {كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} ، وقال ابن عباس: ما كنت أعرف انصراف الناس من الصلاة إلا بالذكر، رواه البخاري، والجهر في ذكر العيد، وفي أدبار الصلوات، وفي الثغور، وفي الأسفار، حتى قال (ص):"اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا"، وقد جهر (ص) بأذكار وأدعية في مواطن جمة، وكذا السلف .. وكل هذا دال على الجهر والجمع .. وقال (ص) في الحديث المتفق عليه: =
فعله، ولا ورد في كيفيته شيء، فقال الشافعي: سنة، وقال مالك: بدعة مكروهة لقيام الشبهة، ثم كل قائل لا يكون مبتدعا عند القائل بمقابله، لحكمه بما أداه إليه اجتهاده الذي لا يجوز له تعديه، ولا يصح له القول ببطلان مقابله لقيام شبهته، ولو قيل بذلك لأدى لتبديع الأمة كلها، لأن على كل قائل قائلا، وقد عرف أن حكم الله في مجتهد الفروع ما أداه إليه اجتهاده، سواء قلنا المصيب واحد أو متعدد، وقد قال رسول الله (ص):"ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"(1)
= "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون حلق الذكر"، وهو صريح في ندب الجمع لعين الذكر، للترغيب في سياقه، وما وقع في آخره من "أن فيهم من ليس منهم، فيقول تعالى: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"، فأخذ منه جواز قصد الاجتماع لعين الذكر، بوجه لا يسوغ تأويله، لحديث:"ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله فيه إلا حفت بهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده" الذي تؤول بالعلم مرة، وبذكر الآلاء أخرى، وحمل على ظاهره أيضا، فإن قيل: يجتمعون، وكل على ذكره، فالجواب: إن كان سرا فجدواه غير ظاهرة، وإن كان جهرا وكل على ذكره، فلا يخفى ما فيه من إساءة الأدب بالتخليط وغيره مما لا يسوغ في حديث الناس، فضلا عن ذكر الله، فلزم جوازه، بل ندبه بشرطه، وإن آثر الصحابة عليه غيره فلأفضلية الغير عليه، كالذكر الخفي، وما يتعدى من العبادات نفعه، كالعلم والجهاد والتكسب على العيال، إلى غير ذلك مما كان اعتناء الصحابة به، وشغلهم فيه، حتى شغلهم عن الاجتماع للذكر، والفراغ له، ألا تراهم عند إمكانه - مع ما هم فيه - استعملوه، كالأسفار والأعياد وأدبار الصلوات، وغير ذلك، ثم يقول: ولا بد أن يكون ذلك مع مراعاة شروطه، وهي:
1 -
خلو الوقت عن واجب أو مندوب متأكد يلزم من عمله الإخلال به، كأن يسهو فينام عن الصلاة، أو يتثاقل فيها، أو يفرط في ورده أو يضر بأهله، إلى غير ذلك.
2 -
خلوه عن محرم أو مكروه يقترن به، كاستماع النساء أو حضورهن، أو حضور من يتقى من الأحداث، أو قصد طعام لا قربة فيه، أو فيه شبهة ولو قلت.
3 -
التزام أدب الذكر من كونه شرعيا، أو في معناه، بحيث يكون بما صح واتضح، وكونه على وجه السكينة، وإن مع قيام مرة وقعود أخرى، لا مع رقص وصياح ونحوه، فإنه من فعل المجانين كما أشار إليه مالك رحمه الله، انظر قواعد التصوف 71 - 72 - 76.
(1)
الحديث خرجه البخاري بلفظ: "لا يصلين أحد العصر
…
" إلخ، انظر البخاري مع فتح الباري 3/ 89، 8/ 412.