الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
46 - فصل
في مستند المشيخة ودلالتها وتعرف آثارها ووجه إفادتها
(1).
أما شيخ التعليم فمستنده واضح، لأن لا علم إلا بتعلم، ولا تعلم إلا
(1) كتب الشاطبي إلى شيخه أبي عبد الله النفزي يسأله: هل على السالك إلى الله تعالى أن يتخذ لزاما شيخ طريقة وتربية يسلك على يديه، أم يستطيع أن يسلك من طريق التعلم من أهل العلم دون أن يكون له شيخ طريقة؟ فكتب إليه الشيخ كما ذكره الونشريسي في المعيار 12/ 293 - 307. ولخصه الشيخ المحقق عبد الفتاح أبو غدة من الرسائل الصغرى: (الشيخ المرجوع إليه في السلوك ينقسم إلى قسمين: شيخ تعليم وتربية، وشيخ تعليم بلا تربية.
فشيخ التربية ليس بالضروري لكل سالك، وإنما يحتاج إليه من فيه بلادة ذهن واستعصاء نفس، وأما من كان وافر العقل منقاد النفس، فليس بلازم في حقه، وتقييده وأما شيخ التعليم فهو لازم لكل سالك، أما كون شيخ التربية لازما لمن ذكرناه من السالكين فظاهر، لأن حجب أنفسهم كثيفة جدا، ولا يستقل برفعها وإماطتها إلا الشيخ المربي، وهم بمنزلة من به علل مزمنة، وأدواء معضلة من مرض الأبدان، فإنهم لا محالة يحتاجون إلى طبيب ماهر يعالج عللهم بالأدوية القاهرة.
وأما عدم لزوم الشيخ المربي لمن كان وافر العقل منقاد النفس، فلأن وفور عقله وانقياد نفسه يغنيانه عنه، فيستقيم له من العمل بما يلقيه إليه شيخ التعليم ما لا يستيقم لغيره، وهو واصل بإذن الله تعالى، ولا يخاف عليه ضرر يقع له في طريق السلوك إذا قصده من وجهه، وأتاه من بابه.
واعتماد شيخ التربية هو طريق الأئمة المتأخرين من الصوفية، واعتماد شيخ ألتعليم هو طريق الأوائل منهم، ويظهر هذا من كتب كثير من مصنفيهم، مثل الحارث المحاسبي وأبي طالب المكي، من قبل أنهم لم ينصوا على شيخ التربية في كتبهم على الوجه الذي ذكره المتأخرون، مع أنهم ذكروا أصول علوم القوم وفروعها، لا سيما الشيخ أبو طالب، فعدم ذكرهم له دليل على عدم شرطيته ولزومه في طريق السلوك.
وهذه هي الطريقة السابقة التي انتهجها أكثر السالكين، وهي أشبه بحال السلف الأقدمين، إذا لم ينقل عنهم أنهم اتخذوا شيوخ التربية، وتقيدوا بهم، والتزموا معهم ما يلتزم التلامذة مع الشيوخ المربين، وإنما كان حالهم اقتباس العلوم واستصلاح الأحوال بطريق الصحبة والمآخاة، ويحصل لهم بسبب التلاقي مزيد تعظيم يجدون أثره في بواطنهم وظواهرهم. =
من معلم، وقد تكفي دونه الكتب للحاذق الفهم، مع نقص في إدراكه وحظه، كما قيل:
ولا بد من شيخ يريك شخوصها
…
فتعرفها بالاسم والعين أقطع
وإلا فنصفا العلم عندك حاصل
…
ونصف إذا حاولته يتمنع
وقد قال تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} (1)
الآية، وقال الغزالي في المنهاج ما معناه: إن الكتب كافية، ولكن الشيخ فاتح، والله أعلم.
وأما شيخ التربية فدليله: {واتبع سبيل من أناب إلي} (2) وكان (ص) يربي أصحابه في دينهم ودنياهم على حسب ما يراه لهم، فأباح لقوم سرد الصوم، ومنع قوما منه، وتفقد فاطمة وعليا لقيام الليل، وعائشة تعترض بين يديه اعتراض الجنازة، وأسر إلى بعض أصحابه أذكارا، وأطلق بعضها في العموم، وكان يحدث حذيفة بالحوادث لاستعداده لقبولها، ولا يسرها لغيره، إلى غير ذلك مما يطول ذكره، ولا يخفى على متأمله، وقيل في قوله تعالى:{كونوا ربانيين} (3) علماء حكماء، قال ابن عباس: والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، ذكره البخاري (4)، وغيره.
= وأما كتب أهل التصوف فهي راجعة إلى شيخ التعليم، لأن الاستفادة منها لا تصح إلا باعتقاد الناظر فيها أن مؤلفها من أهل العلم والمعرفة، وممن يصح الاقتداء به
…
، فإن كان ما يستفيده منها بينا موافقا لظاهر الشرع موافقة بينة، اكتفى بذلك، وإلا فلا بد له من مراجعة شيخ يبينه له، انظر تعليقات الشيخ عبد الفتاح أبي غدة على رسالة المسترشدين ص 40.
(1)
العنكبوت 49.
(2)
لقمان 15.
(3)
آل عمران 79.
(4)
قول ابن عباس في قوله تعالى: {كونوا ربانيين}
…
الآية، انظر البخاري مع فتح الباري 1/ 171.
وأما شيخ الترقية فمستنده قول أنس (ض): ما نفضنا التراب عن أيدينا من دفنه (ص) حتى وجدنا النقص في قلوبنا (1)، فأفاد أن رؤية شخصه الكريم كان مفيدا لهم، فكذلك من له نسبة منه بطريق الوراثة العلمية، ومن ثم كان النظر إلى العالم عبادة (2)، وجاء في الخبر: إن لله عبادا من نظر إليهم نظرة سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا (3)، وفي الصحيح:"خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"(4) وما ذاك إلا لاختصاصهم برؤيته (ص) على القرب، ثم رؤية من رآه كذلك، فافهم، وقال الشيخ أبو العباس المرسى (5) (ض): إذا كانت السلحفاة تربي ولدها بالنظر فكيف بالعارف أو الولي، وقال شيخنا أبو العباس الحضرمي (ض): فهنيئا مريئا لمن ذاق أو ذاق
(1) الحديث خرجه الترمذي 5/ 588 وابن ماجه 1/ 522 عن أنس (ض) بلفظ: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله (ص) المدينة ضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، ولما نفضنا عن رسول الله (ص) الأيدي، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا، قال الترمذي: حديث غريب صحيح.
(2)
النظر إلى وجه العالم عبادة، قال السخاوي: لا يصح، المقاصد الحسنة ص 446.
(3)
لم أجد هذا الخبر، ولم يعزه المؤلف، ولم يذكر له راو، وهو مشعر بضعفه أو عدم ثبوته، هذا ولا يتقرر مصير الإنسان شقاء أو سعادة بالنظر إلى أحد، فقد نظر إلى رسول الله (ص) من لا خير فيه، ومات على الكفر، لكن المرء ينتفع بمجالسة أهل الفضل والنظر إلى سمتهم وأدبهم وعبادتهم، قال أبو موسى الأشعري (ض): لمجلس كنت أجالسه عبد الله بن مسعود أوثق في نفسي من عمل سنة، وكان عمرو بن ميمون الأودي من كبار التابعين، إذا دخل المجد فرؤي، ذكر الله تعالى، كما في تهذيب التهذيب 8/ 109، وتقدم ما نقله المؤلف: كنا إذا فترنا نظرنا إلى محمد بن واسع، فعملنا عليه أسبوعا، انظر فصل 45، وفي الصحيح من حديث مجالس الذكر والذاكرين: "
…
رب فيهم فلان عبد خطاء، وإنما مر فجلس معهم، فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"، مسلم.
(4)
الحديث في البخاري ومسلم بلفظ: "خير الناس قرني"، البخاري مع فتح الباري 8/ 8، ومسلم 14/ 1963، وفي لفظ:"خير القرون أمتي"، عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 23 للطبيراني من حديث بنت أبي لهب مرفوعا، وقال: فيه من لم يسم.
(5)
هو أحمد ين عمر بن محمد، صحب الشاذلي (ت 886 هـ) طبقات الأولياء 418.
بعض ما ذاق أو رأى من ذاق، فقد قيل: المطر قريب عهد بربه (1) فيستحب البروز فيه، والتبرك عند نزول المطر، هكذا ذكر الشارع (ص) وهو مطر من السحاب، فما ظنك بالمؤمن العارف بالله، قلت: وهذا إذا كان نظره من حيث خصوصيته، لا من حيث، العموم، لأن الانتفاع بحسب النية على قدر الهمة، لا مجردا عن القصد، إذ أكمل كل عمل وتأمله بحسن النية فيه، فافهم.
قال في لطائف المنن: وإنما يكون الاقتداء بشيخ دلك الله عليه، وأطلعك على ما أودعه من الخصوصية لديه، فطوى عنك شهود بشريته في وجود خصوصيته، فألقيت إليه القياد، فسلك بك سبيل الرشاد، يعرفك برعونات نفسك، وكمائنها ودفائنها، ويدلك على الجمع على الله، ويعلمك الفرار مما سوى الله، ويسايرك في طريقك حتى تصل إلى الله تعالى، يوقفك على إساءة نفسك، ويعرفك بإحسان الله إليك، فيفيدك معرفة إساءة نفسك الهرب منها، ويفيدك العلم بإحسان الله إليك الإقبال عليه والقيام بالشكر إليه، والدوام على ممر الساعات بين يديه (2).
فإن قلت: فأين من هذا وصفه ولقد دللتني على أغرب من عنقاء مغرب، فاعلم أنه لا يعوزك وجود الدالين، ولكن قد يعوزك وجود الصدق في طلبهم، جد صدقا تجد مرشدا، وتجد ذلك في آيتين من كتاب الله تعالى:{أمن يجيب المضطر إذا دعاه} (3) وقال سبحانه: {فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم} (4) فلو اضطررت إلى من يوصلك إلى الله تعالى اضطرار الظمآن إلى الماء البارد، والخائف للأمن _ لوجدت ذلك أقرب إليك من
(1) في صحيح مسلم 2/ 615: من حديث أنس (ض): حسر رسول الله (ص) ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال:"لأنه حديث عهد بربه"، ومعناه أن المطر قريبة العهد بخلق الله تعالى إياها، فيتبرك بها.
(2)
لطائف المنن ص 42.
(3)
النمل 62.
(4)
محمد 21.