الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النساج (1) وأمثاله)، والبركة كلها في ألفاظ الشارع وأعماله وأقواله وتأديباته، وبالله التوفيق.
…
60 - فصل
في طريق الخدمة والهمة وحفظ الحرمة
أما طريق الخدمة فهو طريق الجادة، وهو طريق أهل البدايات من المتوجهين بالأعمال، وغالب جريانه لمتفقه أو أصولي أو محدث أو من جرى مجراهم ممن له بالعلم إلمام، وهو أصلح الطرق لأهل البداية، وعوام أهل الحاضرة، وخصوصا المتصدرين في العلم والعمل والسياسة، لبيانه وإلف النفوس له، وقد تقدم تفصيله.
(وأما طريق الهمة)(2) فهي أسهل الطرق وأيسرها وأقربها وأبينها، ولكنه خاص لمخصوصين، والسلوك فيه على حسب التوجه من علم أو عمل أو حال، وجامع ذلك في التوجه في الحركات الواقعة، وعليه مدار كلام الشيخ ابن عباد، وهو طريق الأذكياء والظرفاء من أهل الحاضرة والأتقياء، وقد ذكر تفصيله في رسائله الصغرى، فلنأت بكلامه على وجهه، فإنه نور كله، فنقول:
قال (ض): وصية يحتاج إليها كل مريد طالب للمزيد من العزيز الحميد.
الحمد لله، من أراد الاستقامة على سبيل الحق في دينه، والتحصن من عدوه، والتخلص من وساوس النفوس وضيقها وتقلبها، والحصول على شرح الصدر، فليصحح مقام الأدب مع الله تعالى ظاهرا وباطنا في جميع أحواله، فذلك هو الشكر الموجب للمزيد، وينبني ذلك على أصلين: معرفته بعظمة ربه وكبريائه، واتصافه بالصفات العلية والنعوت القدسية، وعلمه
(1) في ت 1: صحفت العبارة كالآتي: (فأين البوني وأشكاله، ووافق خير النساج) هو محمد بن إسماعيل خير النساج كنيته أبو الحسن، تاب في مجلسه إبراهيم الخواص والشبلي، عمر طويلا (ت 322 هـ) طبقات الصوفية 323 وصفة الصفوة 2/ 451.
(2)
لا وجد في خ.
بخسة نفسه، وضعتها وعيوبها وآفاتها، فإذا أحاط علما بهذين الأصلين نظر إلى نفسه وإلى ما أجرى الحق تعالى عليه من الأفعال والأقوال، وما صرفه فيه من الأحوال، فسيرى حينئذ من لطف الله تعالى به ورحمته وعنايته وفضله ما لا مطمع لأحد في إدراكه وفهمه، فيوجب ذلك له محبة وحياء يحملانه على الشكر لله تعالى بشهود النعم منه وحسن الأدب معه، فإذا رأى نفسه على طاعة فرح بمنة الله تعالى عليه من غير استحقاق ولا وسيلة، وكم من شخص لم يعطها، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في تحسينها ونفي الآفات عنها وإخلاصه فيها ربه عز وجل، فيكون حينئذ بهذه الرؤية والأدب أفضل ممن استغرق أوقاته في الطاعات وأنواع العبادات، مع فقدان ذلك، وكذلك إن رأى نفسه بحال نعمة، من صحة بدن ونيل رزق وإن قل، فليفرح بذلك ويشكر ربه عليه لعلمه أنه لا يستأهل ذلك ولا يليق به، ويستعمل حينئذ حسن الأدب في الاستعانة بها على طاعة الله عز وجل، ولا يستعملها في معصية، وكم من شخص مبتلى بمرض أو فقر يتمنى ذلك ولا يجده، وكذلك إذا ابتلي بفقر أو أصيب بمرض من مصائب الدنيا فليفرح بذلك، لأنه سلك به مسلك الأولياء والصالحين، وليفرح بمنة ربه عز وجل في أن لم تكن أكثر من ذلك، كما ابتلي به طوائف من الناس، وليستعمل حسن الأدب في الصبر والرضى ونفي الجزع والشكوى، والدعاء إلى الله تعالى في سعة الرزق وكشف الضر وسؤال العافية في الدين والدنيا، وإن أمكنه السبب لاكتساب ما يغنيه والتطبب لبرئه، فيفعل ذلك فهو من حسن الأدب، وليشكر الله تعالى على تمكينه من ذلك وإذنه له فيه، وكذلك إن ابتلي بذنب أو غفلة أو سوء أدب فلا يغفل عن اللطف وخفي السنة بذلك، فقد يكون ذلك سببا لخوفه ونفي عجبه والتجائه ربه، كما ورد في الخبر في قوله (ص):((لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك العجب)) (1) وكم نت شخص مرتكب للكبائر مستحل لها، فرح بها.
(1) رواه البزار عن أنس مرفوعا بلفظ: ((لو لم تكونوا مذنبين لخشيت عليكم ما هو أكبر منه: العجب))، وقال: لا نعلم من رواه عن ثابت إلا سلام، وهو مشهور، (مختصر =
وليستعمل حينئذ حسن الأدب في المبادرة إلى التوبة وتذكر الخوف وكثرة الاستغفار والدعاء والبكاء، وكذلك إن كان على مذهب إمام من أهل الدين مجمع على إمامته وهو يجد في الحال من يأخذ عنه ممن تقف به من أهل الدين وقد أخذه عن شيوخه، وشيوخه عن شيوخهم إلى أن ينتهي إلى ذلك الإمام، فليفرح بذلك وليشكر الله عليه، وكم من شخص قد قلد مبتدعا أو ابتدع هو من تلقاء نفسه فهلك بذلك.
وليستعمل حينئذ حسن الأدب معه في توقيره واتباعه في كل ورد وصدر، إلا إن رأى في اتباع غيره من الأئمة المجمع على إمامتهم ما يقتضي احتياطا، إن قوي عليه، أو يقتضي رخصة إن احتاج إليه، ولم يكن في مذهب إمامه إنكار على من فعل ذلك، فليفعله ولا يسقطه ذلك عن درجة الأدب، وكذلك إن ظفر بشيخ من شيوخ الصوفية، سالك سبيل السنة، فليفرح بذلك، وليشكر الله عليه، وكم من شخص لعبت به أيدي الضالين والمبتدعين، فهلك بذلك.
وليستعمل حينئذ حسن الأدب في الانقياد له في أوامره وترك مخالفته، وأن لا يكتمه شيئا من أسراره وأن لا ينتقل عنه إلى غيره، وكذلك إن كان له صاحب أو أخ يسلم معه دينه، ويجد معه موافقته في دنياه، ويدخل في هذا الزوج والزوجة، فليفرح بذلك وليشكر الله عليه، (وكم من شخص مبتلى بصاحب يخسر معه دينه ودنياه، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في القيام بحق صحبته، والوفاء بأخوته، وكذلك إن أقيم في سبب يجد منه كفايته وغناه عن الناس، فليفرح بذلك وليشكر الله عليه)(1) وكم من شخص مبتلى بالالتجاء إلى الناس أو عاجز عن التسبب غير راض ولا صابر، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في نصح المسلمين بذلك، وترك الغش
= زوائد مسند البزار) حديث رقم 2303، وقال الهيثمي في المجمع 10/ 272: إسناده جيد، وفي صحيح مسلم حديث رقم 2749 عن أبي هريرة (ض) مرفوعا:((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)).
(1)
لا يوجد في خ.
والاجتناب لجميع مناهي الشرع التي يتعرض لها بسبب ذلك، وإن كان في عمل من أعمال البر كتعليم القرآن أو غيره فليحتسب مع ذلك ثوابه، وليترفق في تعليمه ما أمكنه، ولا يجفو على متعلم ولا يظلمه، وليراقب ربه في ذلك، وكذلك إن سمع بمثل هذه النصيحة أو رآها مكتوبة فليشكر ربه على ذلك وليفرح بها، وكم من شخص مصحوب بالغفلة والسهو، أو مستنصح لا يجد ناصحا، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في أمثالها والوقوف على حدودها وبذلها لأهلها.
وملاك ذلك كله صدق الافقار إلى الله تعالى والضراعة إليه في أن يوفقه لذلك ويعينه عليه، فمن أعطي ذلك فليفرح به وليشكر الله تعالى عليه، وكم من شخص مبتلى برؤية نفسه واعتماده على عقله وحدسه، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في اتهام نفسه في تصحيح الافتقار والضراعة اللذين ذكرناهما، فهذا الذي ذكرناه من أوله إلى آخره داخل في معنى ما ورد به الخبر الصحيح من قوله (ص):((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم)) (1) وبالله التوفيق، انتهى من (الرسائل الصغرى).
وقال في (الرسائل الكبرى): فانظر هذا الطريق ما أسهله وأحسنه وأقربه وأجله وأكمله، وكلاما هذا معناه، ثم قال بعد ذلك: إنما هذا لمن أهل له، وقال في موضع آخر منها: هو طريق الأحرار لا تقبله إلا نفوسهم ولا تسلك به إلا حقائقهم، وقال في موضع آخر: إنه الصراط المستقيم، استنباطا من قوله تعالى:{لأقعدن لهم صراطك المستقيم} (2) ثم قال: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} (3) وقال: إنه أعلى الطرق وأسهلها، فانظر كلامه رحمة الله عليه، وبالله التوفيق.
وأما طريق الحرمة فهو بحفظ الأدب مع المشايخ والإخوان وحفظ
(1) خرجه مسلم 4/ 2275، من حديث أبي هريرة (ض) بلفظ: ((انظروا إلى من أسفل منكم
…
إلخ)) الحديث، وهو في البخاري بمعناه، انظر البخاري مع فتح الباري 14/ 105.
(2)
الأعراف 16.
(3)
الأعراف 17.